18-ديسمبر-2021

Fatima Shbair/Getty Images

عملت الحركة الصهيونية على بناء أرشيفٍ مرئيٍ خاصٍ بها منذ بداية القرن العشرين، إذ كانت تخصص مبالغ طائلة لمصورين يهود وترسلهم للقرى والمدن الفلسطينية مع كاميراتهم على هيئة سياح يسعون لأخذ اللقطات التذكارية، ومهتهم الرئيسة إثبات أن "الأرض بلا شعب"، الأمر الذي لم يدركه الفلسطيني إلا متأخرًا.

 قدرة السينما على الوصول والتنافس في مهرجانات عالمية تجعل من استخدام المواد السينمائية الأرشيفية ضرورةً من الضرورات التي تؤكد الوجود الفلسطيني على مختلف الأزمان 

فلسطين على شريطٍ فيلميّ لأول مرة

بدأت حكاية فلسطين تُوثّق مرئيًا على شكل أفلام تسجيلية عام 1935، بواسطة كاميرا لا يتجاوز سعرها خمسين جنيهًا فلسطينيًا، اشتراها إبراهيم سرحان آنذاك ليوثّق زيارة الملك السعودي عبد العزيز آل سعود إلى فلسطين برفقة الحاج أمين الحسيني الذي اصطحبه بدوره إلى مدينتي اللد ويافا، في فيلمٍ مدته 20 دقيقة، محاولًا تجميد الزمن في شريط فيلمي تتناقله الأجيال، هذا على الأقل ما كان إبراهيم يعتقده، فبعد الحادثة بثلاثة عشر عامًا حدثت النكبة، وشُرّد سرحان إلى الأردن وثم لبنان، وماتت كل أحلامه في بناء سينما فلسطينية مستقلة.

اقرأ/ي أيضًا: "خارج الإطار".. حكاية شعب في بحثه عن صورته

انتهى به الأمر للعمل كسمكري طيلة فترة وجوده في الشتات اللبناني إلى حين وفاته عام 1987 في مخيم شاتيلا، دون جنازة تليق بأفلامه الخمسة التي صورها عن فلسطين، والتي ضاعت بعد وفاته، وباتت اليوم مجرد اسم يذكر له توثيق فلسطين التاريخية، ودحض البروباغندا التي نشرتها "إسرائيل" لاستقطاب اليهود من كافة أنحاء العالم إلى أرض "بلا شعب".

هذه إحدى الروايات المتداولة حول بداية السينما في فلسطين، كان أول من نشرها المخرج العراقي "قاسم حَوَل" عقب التقائه إبراهيم سرحان في مخيم شاتيلا والحديث عن أعماله السينمائية قبل النكبة.

سينما الثورة الفلسطينية.. ولادةٌ سينمائيةٌ من جديد

بعد نكسة الجيوش العربية عام 1967، وُلدت الحاجة لوجود مادة مرئية توثِّق أحداث الثورة الفلسطينية المسلّحة المعاصرة التي أعلنت عن نفسها قبل النكسة بعام، وتُروّج الفكر المقاوم وأهمية ترجمته كفعلٍ مسلّحٍ على أرض الواقع. ظهرت وحدات عدة لصناعة الأفلام، منها وحدة أفلام فلسطين، وجماعة السينما الفلسطينية، ومؤسسة السينما الفلسطينية، ومؤسسة صامد للإنتاج الفني، واللجنة الفنية التابعة للجبهة الديمقراطية، ولجنة الإعلام المركزي التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ليبدأ عصر صناعة الأفلام على يد جماعاتٍ منظمةٍ تابعةٍ لأطرٍ فصائليةٍ بعدما كانت نتاج محاولاتٍ فرديةٍ مشتتةٍ.

"من أجل سينما تساهم في تحرير الأرض والإنسان" شعارٌ تبنّته وحدة أفلام فلسطين التابعة لمنظمة التحرير التي أسست لاحقًا مؤسسة السينما الفلسطينية، تحت إطار الإعلام الموحّد للمنظمة، وقد أسست على يد عددٍ من المخرجين الفلسطينيين، منهم: مصطفى أبو علي، وهاني جوهرية، وسلافة جاد الله، الذين صبوا كل جهدهم في توثيق الحدث تلو الحدث، لتكون أفلامهم هي أول إنتاج سينمائي فلسطيني على الإطلاق.

حُفظت كل هذه الأفلام في قسمٍ خاصٍ بالأرشيف السينمائي في مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت، على أمل أن تكون مرجعًا يساهم في "تحرير الأرض والإنسان"، إلا أن السرقات الإسرائيلية لمحتويات المركز خلال اجتياح بيروت عام 1982 كان بداية شتات تلك الأرشيفات ما بين كلٍّ من وزارة الجيش الإسرائيلي، والدول العربية المختلفة، والمؤسسات الفلسطينية صاحبة الشأن، ليكون كل ما يخص الفلسطيني من ماضيه وأرضه وجسده تحت قبضة الاحتلال.

مبادرات تجميع الذاكرة المرئية

سيجد الباحث في الأرشيف الفلسطيني أن هناك منصاتٍ عديدة مختصة بالأرشيف المكتوب والمسموع والمرئي (صور فوتوغرافية)، تتيح لزوارها الاطّلاع على موادها كافة، إلا أن هذا الخيار ليس متاحًا دومًا لدى المنصات القليلة المعنية في حفظ وجمع أرشيف السينما الفلسطينية، المنتج والمخرج الفلسطيني بشار حمدان فسّر هذه المشكلة قائلًا: "ليست جميع المواد الأرشيفية للسينما الفلسطينية متاحة عبر الإنترنت، وذلك لعدة أسباب، منها عائدٌ إلى الجهة صاحبة الحقوق، وقد تكون هناك أسبابٌ تقنية ومادية متعلقة بتحويل هذه المواد رقميًا ورفعها على الإنترنت".

شريط "ريل" لفيلم تل الزعتر (المصدر بشّار حمدان)

وعن قلة هذ المنصات وتواضع موادها يضيف حمدان: "مشكلة هذه المنصّات أنها بحاجة إلى تسويق وترويج أكبر، ولكن برأيي سيكون من الصعب توفير منصات فلسطينية على غرار منصات الأفلام المنتشرة، لما تتطلبه هذه المنصات من دعم مادي كبير".

أرشيف الأفلام الفلسطيني من سينما ومواد خام مبعثر ما بين قنوات اليوتيوب التي تعرضه دون تنظيم وتصنيف، وما بين المنصات التي تُعنى بهذا الشأن، وهما منصتان لا ثالث لهما، "مشروع أفلام فلسطين"، و"مؤسسة الفيلم الفلسطيني"، اللتان تعنيان بجمع بقايا الأرشيف السينمائي إلى جانب أفلام السينما الفلسطينية المعاصرة، كي لا يكون مصيرها كمصير الأعمال التي سبقتها.

إن حصول هذه المنصات على المواد الأرشيفية عمليةٌ معقدة وصعبة، يقول حمدان، الذي يعمل كمتطوع في مشروع أفلام فلسطين الذي أطلقه منتدى فلسطين الدولي للإعلام والاتصال قبل ثلاث سنوات: "أرشيفنا مبعثر هنا وهناك، داخل فلسطين وخارجها، في دول عربية وأجنبية، أو على صفحات اليوتيوب، دون أيّ تصنيف أو تنظيم، بل حتّى دون وجود مصدرٍ واضح في الكثير من الأحيان؛ لهذا تم التواصل مع عدد من المعنيّين، من باحثين ومخرجين ومنتجين، بهدف الوصول إلى ما يُمكن من الأفلام، وأحب أن أشير أيضًا إلى أن الموقع وفّر خانة للجمهور، كي يقترح أسماء أفلام لإتمام مسيرة الجمع".

أرشيفنا المرئي.. يموت وتتجدد طرق إحيائه

يمكن تتبع المسار الزمني للسينما الفلسطينية في ثلاث مراحل، مرحلتين تم الحديث عنهما في السابق، وهما مرحلة ما قبل النكبة ومرحلة الثورة الفلسطينية، أما المرحلة الثالثة فهي السينما المعاصرة التي تتميز بسعة حظها مقارنةً بالمرحلتين السابقتين، فهي قادرة -نظرًا لوسائل الاتصال المتاحة- على جعل فلسطين قصة عالمية، تحكي معاناتها وأوجاعها وتصف جمالها المسلوب بكافة اللغات واللهجات، وتكامل هذه المراحل الثلاث من خلال استخدام ما تمكّنا من الوصول إليه من مواد أرشيفية مرئية في أفلامنا اليوم يعزز من إنتاجنا السينمائي على ندرته.

إن قدرة السينما الفلسطينية اليوم على الوصول لدول مختلفة والتنافس في مهرجانات عالمية تجعل من استخدام المواد السينمائية الأرشيفية ضرورةً من الضرورات التي تؤكد الوجود الفلسطيني على مختلف الأزمان، في الإرشيف يُعرض الواقع كما هو دون تجميل، ما يُضفي صفة الصّدق على الفيلم، روائيًا كان أم تسجيليًا، فالجمهور يميل لتصديق الأحداث كما هي بصورتها الواقعية أكثر من محاكاتها كما يحدث في الفيلم الرّوائي البحت؛ الذي يعيد إحياء الواقع نفسه ولكن من منظور ذاتي، كما أنّ المواد الأرشيفية تستفزّ المشاهِد للفيلم، وتنقله من حالة الاندماج والرّومانسية إلى حالة التّفكير الجدّي والمشاركة الفاعلة في التغيير.


اقرأ/ي أيضًا: 

دُور السينما الفلسطينية.. لم يبق إلا الأسماء

بشار إبراهيم.. الأمل معلّق بالسينما المستقلة