01-يوليو-2021

الغضنفر آيخمان أبو عطوان (مصدر الصورة: وفا)

ارتعش قلبها، وارتجفت الأنامل. كلُّ الحروف تاهت بين أصابعها وهي تحاول أن تردَّ على رسالةٍ وردت للتوِّ إلى هاتفها المحمول، "أنا موجود في غرفة الغضنفر".

 ينام الغضنفر الآن في "كابلان"، يناطحُ بأمعاءٍ خاوية جبروت المحتل، بينما أمه في الخليل، تُنصتُ إلى تهديد ذلك الضابط الذي حُفر في ذاكرتها "... مصفّى" 

تقول يافا أبو عطوان: "أخذَت أمي نفسًا عميقًا، وأسندت ظهرها إلى الكرسي. وَارَت دَمعاتٍ تساقطت على الخد، وشقّت في وجهها طريقًا لابتسامةٍ تغطّي مرارة الغصّة، ثم أجابت على اتصال فيديو وردها من نفس الرقم".

اقرأ/ي أيضًا: بين زيارة وأخرى.. هكذا يكبر الأسرى الأطفال فجأة

بعد 52 يومًا من الإضراب عن الطعام رأته. ضاعت عن ملامحه وهو "الغضنفر" بتعريف الاسم "الممنوع من التنكير" في عُرفه. 

"أين وجهًا كما البدر اختفى؟".. سألت نفسها، ولم تنطق بكلمة، انتظرته حتى جمعَ فُتات صوته ليهمس لها أمام جموع الخلق: "بــــ بــحبّـــ ك"، في اللحظة الأخيرة، قبل أن يفقد النطق تمامًا.

الخامس والعشرون من يونيو/ حزيران الذي مضى.. تلك الليلة لا تنساها "يافا"، سلطات الاحتلال جمّدت أمر اعتقال "الغضنفر" شقيقها، "إداريًا"، ذلك بطلبٍ من نيابة الاحتلال، التي استندت إلى التقارير الطبية الصادرة من مستشفى "كابلان" الإسرائيلي، وأشارت إلى خطورةٍ حقيقية على حياته.

"ليلتها، معظم من كانوا في خيمة التضامن مع شقيقي المضرب احتجاجًا على اعتقاله الإداري منذ شهر تشرين الأول/ أكتوبر، من عام 2020، التفّوا حول الهاتف! أحدهم ناداه بصوتٍ عالٍ: يسعد البطن اللي حملك" تقول يافا.

"لا ننسى نظرته لأمي حينذاك.. رفعَ رأسه، وشمخ بعلامة نصرٍ عالية، ثم كتب على ورقة: سأبقى قويًا كما عرفتِني، خلقتُ حرًا.. وسأعودُ إليكِ كما خُلِقتْ"، تضيف.

 كانت أمه "مجدولين" في ناظريه "الوحيدة" وكل الخَلق حولَها، صاحبة أعلى صوت، وهي الصامتة أمام هتافات التحية لـ "البطل" 

كانت أمه "مجدولين" في ناظريه "الوحيدة" وكل الخَلق حولَها، صاحبة أعلى صوت، وهي الصامتة أمام هتافات التحية لـ "البطل"، الأقرب منه وهي البعيدة مسافة الطريق بين بيته في "دورا" جنوب الخليل، و"تل أبيب" التي التهمت "يافا" لتقضي على فلسطينية الجذر والهوية. 

لـ "الغضنفر" (28 عامًا) الذي يقضي –حتى لحظة نشر هذا التقرير- يومه التاسع والخمسين مضربًا عن الطعام انتصارًا "لكرامة الوطن" قصة.. تفاصيلها بدأت من أمام باب بيته، عندما قال "ضابطٌ" لأمه قبل اعتقاله بيوم، بعد أن رفض تسليم نفسه: "إبنك هادا.. راح أرجّعلك اياه مصفّى"، وغادر يقطرُ حقدًا.. التفاصيل تتبع:

ابن أيخمان

الحكاية بدأت يوم وُلد "الغضنفر" الذي أسماه والده هكذا لأنه بِكر "أيخمان"، الرجل الذي عانى ما عاناه "أسيرًا"، و"ممنوعًا من التنقل والسفر" فقط بسبب اسمه. قال يومها: "هذا الأسد سيقف في ظهري يومًا، سيكون الغضنفر ابن أيخمان".

اسم "أيخمان" في أُذُن "إسرائيل" تُهمة. حمله والد الغضنفر دونًا عن كل أهل فلسطين –هكذا أراد جده- "أن يبقى في ذاكرة كل جنديٍ احتل الوطن". 

اسم "أيخمان" في أُذُن "إسرائيل" تُهمة. حمله والد الغضنفر دونًا عن كل أهل فلسطين –هكذا أراد جده- "أن يبقى في ذاكرة كل جنديٍ احتل الوطن"

يُوصف "أيخمان" في تاريخ اليهود بـ "الوحش"، عندما كان -واسمه الكامل أدولف أيخمان- "المشرف على أفران الغاز خلال الحرب العالمية الثانية، تلك التي يقولون بأن الملايين منهم أُحرقوا داخلها وهم أحياء، على عهد هتلر".

اقرأ/ي أيضًا: مسرحيون وكتاب تخرجوا من أكاديمية السجون

تُعقّب يافا: "كأبناءٍ لهذا الرجل، كلنا ممنوعون من زيارة القدس، من التنقل بين مدن وأحياء الضفة الغربية، كلنا معرّضون للاعتقال، وكان أولنا الغضنفر".

بدأت رحلة الغضنفر في سجون الاحتلال، يوم كان ابن 17 سنة. تحديدًا عام 2013، عندما اقتحمت جيبات الاحتلال العسكرية مدينته، فشارك الشبّان في إلقاء كل ما وقع تحت أيديهم نحوها، بدءًا بالحجارة.. وصولًا إلى "المولوتوف" (قنبلة العُزّل).

لم يُعتقل يومذاك لأجل هذا وحسب. هو ابن "أيخمان أبو عطوان"، شقيق "باجس" (عمّه) منفّذ العمليات الفدائية، شهيد سبعينيات القرن الماضي، ابن أخت "منيف" (خاله) المحكوم بالسجن المؤبد 5 مرات، ابن عم الشهيد جميل، ابن (أمه) التي اعتُقلت مرارًا بتهمة الانتماء للوطن.

"لن يُهدِروا عمري"

"قضى في السجن عامان"، قالتها يافا، وسكتت، ابتلعت ريقها بصعوبة، وتابعت: "منذ ذلك الحين، كانت زيارات الغضنفر للسجون الإسرائيلية، أطول بكثير من تلك الفترة التي رأيناه –بل عرفناه- فيها".

عندما أُفرج عنه، بعد أول اعتقال طلب منه الضابط "أن لا يعاود الكرّة"، أجابه دون أن تهتز منه شعرة: "إنكم إن عُدتُم.. عُدنا"، تحدّاه، و"منذ ذلك الحين.. صارَ نِدًّا" تزيد أُخته.

باب بيت أيخمان أبو عطوان، أضحى طريق الجنود المرصوف نحو "الانتقام". يخلعونه مرّة، يخرّبون أثاثه مرّات، يعتقلون الغضنفر بلا تُهمة.. يقضي خلف قضبان سجونهم عامين من عمره "إداريًا"، بعد كل ستة أشهرٍ تُمدد له أُخرى.. فقط لأن الضابط "يردُّ اعتباره".

عام 2017، ثم عام 2019، في كل مرةٍ يخرج عدة أشهر، "ثم يغيب بأمر اعتقالٍ أعوامًا" تردف يافا. لكنه بعد آخر مرّة قرر أنه "إن خرج من السجن فلن يعود".

في الثامن من أكتوبر 2020، استيقظت العائلة تمام الثالثة فجرًا على طرقٍ عنيف. "جنود الاحتلال كانوا يشعرون بالملل، فقالوا: "لماذا لا نعبث قليلًا هنا". تقول يافا: "دخلوا البيت، خرّبوا محتوياته بحجة التفتيش، وحطموا بعض الأثاث، سألوا عن الغضنفر الذي كان مناوبًا في عمله كموظفٍ في الضابطة الجمركية، واتصل أحدهم به". 

"غضنفر، عليك بتسليم نفسك لنا، معك ساعة واحدة فقط"، العائلة لم تسمع ردّه، لكن إجابة الضابط الإسرائيلي أوحت لهم بما قاله، عندما ردّ عليه مهددًا بسبابته: غضنفر، إذا ما سلمت حالك خلال ساعة واحدة بس، راح يتم اغتيالك"، ثم التفت ناحية أمه، وقال لها: "اقنعيه يسلم حاله، ابنك هادا راح أرجّعلك اياه مصفّى". بعد عدّة ساعات، عرفوا من الغضنفر أنه وصفه بـ "الحُثالة" حرفيًا، ولهذا جُن جنونه.

  كان يقول لنا: اشبعوا من بعض قد ما تقدروا، ما حدا بيعرف شو مخبي القدر"  

تمام السادسة صباحًا، عاد الغضنفر إلى بيته. كانت المرّة الأولى التي يتحسس فيها "الخوف" في ارتجافة صوت أمه وهي "القوية" أمام أقدار الله. لأول مرةٍ تطلب منه "تسليم نفسه" وكل جوارحها تقول "لا". هو قلب الأم عندما يُقنع عقلها بأن "قضاءً أخف من قضاء"، أن يُسجن حيًا، أهون من أن يعيش حرًا بين يدي "موتٍ" يرصُده.

تمام العاشرة قرّر: "سأُسلّم نفسي.. لكن، لن أسمح لهم بأن يُهدروا عمري مرةً أخرى". استحمّ واستعطر، ارتدى أبهى ما في خزانته من ثياب، رتّب شعره بالمثبّت كما لو كان في طريقه إلى عرس صديق، وابتسم لأمه.

أخته "بنان" سألته: ألن تعود في التاسعة؟ ثم بكت وعانقته مودّعة. تقول يافا: "منذ أُفرج عنه قبلها بعدة أشهر، تعلّقنا به بشكلٍ عجيب، كان كلما صارت الساعة التاسعة مساءً، يدخل البيت، يتنقل بين غرفنا سريعًا، يجمعُ هواتفنا المحمولة، دون أن يعطي فرصةً لأي اعتراض، يضعها في غرفته، ويأخذنا في اجتماعٍ يطول حتى الفجر.. بين حكايا السجن. كيف تعلّم هناك صنع المعمول، وكيف أنه يتقن صنع الكنافة من فتات الخبز اليابس، كيف درس للثانوية العامة، ونجح على عين الضابط الذي كان يخبره بأن "حياته ستنتهي هنا.. دونما هدف.. دونما فرح".

صمتت يافا بعض الوقت، صوتها بدا ضاحكًا عبر سماعة الهاتف، لكن قلبها كان يبكي: "كان حبيبي، يريد أن يعوّض حرمانه من شعور العيش في جو العائلة منذ كان قاصرًا خلف القضبان، كان يطلب منا أن نبقى معًا "فلا أحد يدري متى يأذن الفراق"، كان يقول لنا: اشبعوا من بعض قد ما تقدروا، ما حدا بيعرف شو مخبي القدر".

منتصرٌ "حرًا" أو "مشروع شهادة"

عادت إلى ذلك اليوم، حيث –روى والدها باقي الحكاية- عندما أخبرهم بأن "ابتسامة المنتصر التي رسمها الغضنفر على وجهه وهو في طريقه إليهم عند حاجز "عصيون" بين الخليل وبيت لحم، استفزّت كل ما تربّوا عليه من "غُل"، هجموا عليه، كبّلوا يديه خلف ظهره، وألقوا به أرضًا، ثم وضع أحدهم قدمه فوق رأسه قائلًا له: "قلتلي كنت بدوامك؟!.. خلينا هلأ نشوف، السلطة كيف راح تنفعك".

قال أيخمان لبناته لحظة عاد من دون الغضنفر: "ما قدرت أعمله شي"، كان كأنما يصرُخ رغم أن صوته بالكاد سُمِع.. بكت أخواته الخمس، ودخلت أمه غرفتها تتمتم بدعوات اللطف والفرج. "اعتقالٌ إداريٌ مرةً أخرى"، أكملت يافا.

"قلنا لأنفسنا قد يخرج بعد ستة أشهر هذه المرة، فلا تهمة قُيّدت ضده"، مرّت ستة أشهر، فإذا بقرار "التمديد" يُوّقّع "ستة أشهرٍ أخرى".. حتى إذا مرّت منها أربعة، وصل الغضنفر تهديدًا بتجديدٍ ثالثٍ ينتظره، وهنا بدا العُمر في ناظريه "ماءً" يتسرّب من بين الأصابع. "قرر أنه لن يسمح بإهدار أحلامه ثانيةً.. وسببٌ آخر: لقد اشتاق إلى أمي كثيرًا، ووَحشَته اجتماعات التاسعة" تكمل يافا.

في الرابع من مايو/ آيار الماضي، ومن معتقل "ريمون" في صحراء النقب، أعلن الغضنفر إضرابه. قال: إنه سيُثبِت أن "الصبر" خيارٌ قابلٌ للتطبيق، وأن "الخوف" خرافة في أساطير الجبناء. حالته الصحية تدحرجت نحو الخطر حتى جاء قرار تجميد الاعتقال، "وهو الأمر الذي لم يقبله الغضنفر، هو لا يطمح بالتحول إلى مريضٍ في قانون إسرائيل، يُعاد اعتقاله بمجرد التعافي" تقول أخته المحامية بنازير، التي تتابع وضعه عن كثب هناك في "كابلان".

 حالته الصحية تتدهور، يقول نادي الأسير: إن هناك خشيةً من توقف قلبه نتيجة إضرابه المستمر 

حالته الصحية تتدهور، يقول نادي الأسير: إن هناك خشيةً من توقف قلبه نتيجة إضرابه المستمر منذ 58 يومًا. يعاني من نقصانٍ حاد بالوزن، وضعفٍ في دقات القلب، وآلامٍ في الصدر والمفاصل والخاصرة، وحالات غيبوبةٍ متكررة. يرفض تناول الطعام والماء والعلاج، حتى المدعمات، والفيتامينات.

بعد تجميد اعتقاله بعدة أيامٍ زارته أمه "مجدولين"، جلست قرب سريره، "كان النائم صامتًا هناك غريبًا عن ذلك "الغضنفر" الذي ربّته". لقد أيقنت أنه هو، فقط عندما رأتهُ يضحك، رفع من أجلها السبّابة والوسطى، ومسح على سطح كفّها بيده، كطفلٍ اطمأنّ لمّا سمع أمه تتلو فوق رأسه آيات "اللُطف" ودعوات الفرج.

ينام الغضنفر الآن في "كابلان"، يناطحُ بأمعاءٍ خاوية جبروت المحتل، بينما أمه في الخليل، تُنصتُ إلى تهديد ذلك الضابط الذي حُفر في ذاكرتها "... مصفّى". تنفضُ عن عقلها أي تفكيرٍ بسيءٍ قد يحدث، ثم تُخرج من جيب قلبها رسالةً كتبها بخط يده قبل أن يدخُل في آخر غيبوبة: "لا تخافي علي.. أنا ابن أيخمان ومجدولين".. رغم كل شيء، تعيش مجدولين اليوم يقينًا بانتصار "الغضنفر".. عادَ إليها "حرًا"، أو مضى كمشروع "شهادة"، كلاهما سواء.


اقرأ/ي أيضًا: 

هدايا الأسيرات: فيض حب وأمل حرية

مقالب الأسرى: نعبر عن إنسانيتنا