23-مايو-2022
بوتين وعباس

تلفت زيارة وفد من حركة المقاومة الإسلامية "حماس" إلى روسيا مطلع شهر أيار/ مايو الجاري، ثم زيارة وفد من السلطة الفلسطينية في منتصف الشهر نفسه الانتباه، وتثير عدة تساؤلات بشأن مغزى اهتمام روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين بلقاء مسؤولين فلسطينيين في خضم الحرب الروسية على أوكرانيا.

إن دعوة موسكو مسؤولين فلسطينيين لزيارتها ليس أمرًا وليد اليوم، ففي السنوات الأخيرة تكثفت هذه اللقاءات وطالت العديد من المسؤولين من مختلف الفصائل الفلسطينية بحجة التباحث بشأن تطورات عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين من جهة، ودعم المصالحة وتقريب وجهات النظر بين القوى والفصائل الفلسطينية من جهة أخرى. لكن الدعوة الروسية الأخيرة لمسؤولين فلسطينيين، وهي الأولى منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا، في حد ذاتها رسالةٌ تفتح المجال أمام تفسيرات عدة بشأن دلالات الزيارة وأهدافها.

على مستوى التوقيت، بدا بأن موسكو تنظر إلى الفلسطينيين بوصفهم ورقة ضغط على "إسرائيل" في موقفها من الحرب الروسية على أوكرانيا

على مستوى التوقيت، بدا بأن موسكو تنظر إلى الفلسطينيين بوصفهم ورقة ضغط على "إسرائيل" في موقفها من الحرب الروسية على أوكرانيا، ولا سيما أن توقيت الزيارتين جاء بعد فترة وجيزة من تغير الموقف الإسرائيلي، بانتقاله من "الحياد" تجاه طرفي الحرب، إلى الانخراط بتقديم مساعدات إنسانية وعسكرية لكييف. بخلاف موقفها منذ بداية الحرب، وهي التي عرضت مبادرة للتوسط بين روسيا وأوكرانيا مطلع آذار/ مارس الماضي، وإثر ضغوط مارستها الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية، أعلنت إسرائيل في أواخر نيسان/ أبريل الماضي تقديمها مساعدات عسكرية لأوكرانيا وجيشها من قبيل الخوذ والسترات الواقية. وقد استفز هذا الإعلان موسكو وأجبرها على التصعيد السياسي والدبلوماسي ضد الحكومة الإسرائيلية، برز ذلك مع التصريح الذي أدلى به وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، خلال مقابلة مع التلفزيون الإيطالي مطلع الشهر الجاري، ثم استدعاء إسرائيل السفير الروسي، أنتولي فكتوروف، ردًا على ذلك، وتنديد مسؤوليها باستعمال إبادة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية "أداة سياسية".

أما على مستوى الأهداف، فإن الموقف الروسي من القضية الفلسطينية يستند على مبدأ قرارات الشرعية الدولية، والمبادرة العربية للسلام 2002، وهي ترى ضرورة إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية يراعي مصالح الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، وعلى أساس إنشاء دولة فلسطينية مستقلة على أساس الرابع من حزيران/ يونيو 1967. ثمة أدلة عدة تشير إلى أنه عندما تشدد روسيا على موقفها من القضايا العربية، بما فيها القضية الفلسطينية، فإنها تنظر لها بوصفها فرصتها لمساومة الولايات المتحدة لتحقيق مكاسب سياسية في مناطق أخرى تحظى باهتمام استراتيجي أعلى بالنسبة لروسيا. لكن في السنوات الأخيرة بدا بأن تشديد روسيا على موقفها من القضايا العربية، بما فيها القضية الفلسطينية، يمكن فهمه في سياق تعزيز موقعها ومصالحها الاستراتيجية والجيوسياسية بوصفها لاعبًا مهمًا في السياسة الدولية، ففضلاً عن وجودها في سورية التي تُعد وفقًا لبوتين مركز نشاط الكرملين ونقطة قوته العسكرية، تضمن القضية الفلسطينية لبوتين موطأ قدم للتأثير في واحدة من القضايا الهامة إقليميًا ودوليًا.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار السخط الذي وصل له الفلسطينيون، ولا سيما بعد وصول الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، إلى السلطة، ذلك بسبب فشل الإدارات الأميركية المتعاقبة في دعم مسار التسوية السياسية السلمية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، يمكن عندها فهم اندفاع بوتين في السنوات الأخيرة لتعزيز موقعه ومصالحه في المنطقة العربية. والواقع أن بعض البلدان العربية أيضًا بدأت منذ بدء الحرب الروسية على أوكرانيا تتشارك مع موسكو في ضرورة تعزيز موقعها في المنطقة، ولا سيما السعودية والإمارات، اللتان رفضتا مطالب الولايات المتحدة زيادة إنتاجهما من النفط لوقف ارتفاع أسعار النفط، وعبرتا عن تمسكهما باتفاقها مع أوبك بلس مع روسيا، وأشارتا أنهما تتفهمان احتياجات موسكو الأمنية في غزوها لأوكرانيا. علاوة على ذلك، ترى البلدان العربية الساعية لتنويع تحالفاتها الدولية في روسيا بديلاً للولايات المتحدة، ولا سيما أن الأخيرة عبرت عن مسعاها الانسحاب من المنطقة العربية مقابل تحول نفوذها في بحر منطقة الصين الجنوبي.

تهدف روسيا من دعوتها الفلسطينيين إلى تعطيل مساعي إسرائيل لتصدير الغاز الموجود قبالة شواطئ قطاع غزة إلى أوروبا، إذ يعمل الروس على فرض هيمنتهم على غاز شرق المتوسط

كما تهدف روسيا من دعوتها الفلسطينيين إلى تعطيل مساعي إسرائيل لتصدير الغاز الموجود قبالة شواطئ قطاع غزة إلى أوروبا، إذ يعمل الروس على فرض هيمنتهم على غاز شرق المتوسط، وهم الذين يقومون بأعمال تنقيب عن الغاز على سواحل سورية منذ العام 2021. وتطمح روسيا من تنقيبها عن الغاز في سواحل سورية إلى توسيع أعمال التنقيب لتصل إلى شواطئ غزة ولبنان. يتخوف الروس من مساعي إسرائيل سد فجوة وقف اعتماد الدول الأوروبية على الغاز الروسي على خلفية الحرب الروسية على أوكرانيا. وقد عاد اهتمام إسرائيل بتصديرها الغاز إلى أوروبا مع بداية الحرب على أوكرانيا، وبرز ذلك في تصريحات أدلى بها العديد من المسؤولين الإسرائيليين، ففي نيسان/ أبريل الماضي، صرح وزير الخارجية الإسرائيلي، يائير لبيد، أن "الحرب في أوكرانيا ستغير بنية سوق الطاقة في أوروبا والشرق الأوسط". وأضاف "نحن ندرس أيضًا تعاونًا اقتصاديًا إضافيًا مع التركيز على سوق الطاقة". كما صرحت وزيرة الطاقة الإسرائيلية، كارين الحرار، عن إمكانية بيع الغاز الإسرائيلي لأوروبا. وفي أيار/ مايو الجاري، كشفت وكالة بلومبيرغ الأميركية، أن الاتحاد الأوروبي يسعى لتعويض إمدادات الغاز الروسي من إسرائيل ومصر، ودول أفريقية أخرى مثل نيجيريا والسنغال وأنغولا.

في الواقع، على الرغم من سحب إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، دعمها مشروع خط أنابيب الغاز "إيست ميد" مطلع العام الجاري، وهو المشروع الذي تعمل عليه قبرص واليونان وإسرائيل منذ أكثر من عامين لتزويد دول أوروبية بالغاز، وذلك لعدة أسباب أهمها عدم التوصل لحل حول الخلافات السياسية على أحقية إسرائيل في غاز حوض شرق المتوسط والجدوى الاقتصادية من المشروع، إلا أن إسرائيل تنظر بأن الحرب على أوكرانيا قد تكون فرصتها لشرعنة سرقتها غاز هذه المنطقة وتصديره إلى أوروبا.

كما تهدف روسيا باستضافتها حركة حماس تحديدًا، التي ترتبط بعلاقة قوية وراسخة مع حليفتها إيران، في الضغط على إسرائيل ووضعها أمام حسابات سياسية وعسكرية صعبة ومعقدة. يعي بوتين خشية إسرائيل من أن تؤدي الحرب الروسية على أوكرانيا إلى تنامي النفوذ الإيراني في سورية ولبنان وغزة، وكذلك خشيتها من زيادة إيران نشاطها المرتبط بالتصنيع العسكري وشحن الأسلحة إلى سورية ولبنان (وربما غزة). وكذلك خشيتها من حدوث أي تغير محتمل في التفاهمات الروسية الإسرائيلية في سورية، وهي التفاهمات التي بمقتضاها تحجّمُ إسرائيل وجود إيران في سورية وتستهدفه. وكذلك خشيتها من تهاون بوتين في تعطيل مفاوضات إحياء الاتفاق النووي مع إيران، أو على أقل تقدير تهاونه في حرف الاهتمام الدولي عن التوصل لاتفاق أكثر تشدد مع إيران.

كما تهدف روسيا باستضافتها حركة حماس تحديدًا، التي ترتبط بعلاقة قوية وراسخة مع حليفتها إيران، في الضغط على إسرائيل ووضعها أمام حسابات سياسية وعسكرية صعبة ومعقدة

علاوة على الأهداف السياسية والاقتصادية، يسعى بوتين من دعوته وفدي حركة حماس والسلطة الفلسطينية لزيارة موسكو إلى كسب ورقة الرأي العام العربي والدولي في حربه ضد أوكرانيا، ذلك بالقول إنه رغم عزلته الدولية بسبب العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، فإنه مهتمٌ بالفلسطينيين وقضيتهم في الوقت الذي يتعرضون فيه لهجمة شرسة من سلطات الاحتلال الإسرائيلي.

في الواقع، يعي بوتين أهمية الفلسطينيين وقضيتهم بالنسبة للرأي العام العربي والدولي، ويعي جيدًا السخط الشعبي العربي والدولي من الموقف الأميركي من قضايا المنطقة العربية، بما فيها القضية الفلسطينية، ويعي كذلك رواج أطروحة "ازداوجية معايير الغرب" الذي عاقب روسيا في حربها ضد أوكرانيا، بينما يتغاضى عن سلوك إسرائيل بحق الفلسطينيين. في تصريحات عبرت عن وعي موسكو بكل ذلك، كان لافتًا الأمثلة التي قدمها لافروف في مقابلته مع قناة العربية مطلع الشهر الجاري عن شاب روسيٍ أنقذ طفلًا أستونيًا من الغرق في بركة يوجد بها تماسيح، وكانت تغطية وسائل الإعلام في اليوم التالي لهذه الحادثة بأن شابًا روسيًا حرم تمساحًا من عشائه، وكذلك سخريته من الاهتمام الدولي بالحرب الروسية على أوكرانيا بينما يغضون بصرهم عن ما يتعرض له الفلسطينييون حين قال ساخرًا "..تخيلوا أن أوكرانيا هي فلسطين، وتخيلوا أن روسيا هي الولايات المتحدة الأميركية..".

نخلص هنا إلى أن بوتين ينظر إلى الفلسطينيين بوصفهم ورقة ضغط على إسرائيل حتى لا تتمادى في استجابتها للضغوط الأميركية والأوروبية أكثر من ذلك. يدرك بوتين سخط الفلسطينيين وامتعاضهم من الولايات المتحدة بسبب فشل دعمها مسار التسوية السياسية السلمية، والمتزامن مع رغبة بعض البلدان العربية تعزيز مكانة روسيا في المنطقة في إطار تنويع تحالفاتها السياسية. لكن ما يدركه بوتين أكثر هو أن الحرب الروسية على أوكرانيا عززت من تنسيقه أكثر مع إسرائيل. هناك مصالح روسية – إسرائيلية مشتركة ظهرت أهميتها أكثر بعد الحرب على أوكرانيا، ولا سيما فيما يتعلق بتعطيل روسيا مفاوضات الجولة الأخيرة من الاتفاق النووي، خوفًا من أن يؤدي انفتاح الغرب على إيران ضمان مورِّدٍ جديد للطاقة إلى أوروبا. وبالتالي، فإن تعويل الفلسطينيين على روسيا بوصفها إحدى القوى الدولية الصاعدة في النظام الدولي وإمكانية ترجمة ذلك إلى دعم سياسي لقضيتهم فإنه يبقى وهمًا جديدًا يُضاف إلى سلسلة الأوهام السياسية السابقة.