15-أكتوبر-2016

صلاة السامريين في الكنيسة في جبل جرزيم – صورة أرشيفية

كثيرة ومختلطة هي المشاعر التي رافقتنا طيلة الطريق المتعرجة صعودًا إلى "قرية لوزة"، حسب ما يسميها التوراة لدى السامريين، الطائفة الأصغر والأقدم في العالم، أو الحي السامري أو "السمرة"، أو "الطور"، كما يطلق عليه أهل نابلس، الذي أصبح يضم نصف الطائفة تقريباً إضافة إلى الحي السامري في حولون قرب "تل أبيب" الذي يضم النصف الآخر؛ وذلك بعد انتقالين في المكان قامت بهما الطائفة ولأسباب مختلفة داخل مدينة نابلس، التي تشكل للطائفة إرثًا دينيًا وحضاريًا وثقافيًا يمتد لآلاف السنين.

الديانة الرابعة

يتحدث خالد زواوي الباحث في الشؤون السامرية عن الانتقالين، موضحًا، أن أولهما كان حين انتقلت الطائفة من الحي السامري القديم في حارة الياسمينة بعد الزلزال الذي دمر جزءًا كبيرًا من مدينة نابلس في العام 1927، إلى خارج البلدة القديمة غربًا بالقرب من المقبرة الغربية، لتقيم حيًا جديدًا، وكنيسةً جديدةً استبدلت بها الكنيسة القديمة.

لا تُعد السامرية طائفة بل ديانة إذ توجد فروقات عميقة بينها وبين اليهودية

واستمرت الطائفة في سكنى هذا الحي حتى أواخر ثمانينيات القرن العشرين، ولأسباب سياسية وأمنية مختلفة، انتقلت للسكن على سفح جبل جرزيم لأول مرة في تاريخ هذه الطائفة الممتد لآلاف السنين، إذ يُحرَّم عليها التواجد على هذا الجبل إلا أيام الحج الثلاثة (الفسح والغفران والمظال)، وذلك للقدسية التي يحملها.

اقرأ/ي أيضا: الاستقبالات النابلسية.. رحلة في عالم النساء المنسي

اختلطت علينا المشاعر، ما بين الرهبة والسرور ونحن نطأ بأقدامنا المكان الأكثر قداسة للطائفة السامرية؛ التي تعتنق الديانة السماوية الرابعة في فلسطين إضافة لليهودية والمسيحية والإسلام، كما يقول الباحث زواوي، الذي يؤكد أن فروقات كبيرة في أركان الإيمان الخمسة التي يعتقد بها السامريون عن مثيلاتها لدى اليهود، مضيفا، أن ذلك يعني "أننا نتحدث عن ديانة مختلفة وليس اجتهاداً مذهبياً داخل الديانة الإسرائيلية نفسها"، وفق قوله.

الكنيسة القديمة في حارة الياسمينة قبل الانتقال إلى جبل جرزيم
الكنيسة القديمة في حارة الياسمينة قبل الانتقال إلى جبل جرزيم

نخطو شيئاً فشيئاً في الشارع الرئيسي الذي يقسم الحي إلى قسمين من البيوت المنفصلة والجميلة، كان الحي هادئًا وخاليًا من المارة والمركبات على غير عادته، قبل أن نعلم أن الهدوء يعود لانتقال الحياة إلى داخل البيت السامري؛ فالسامريون الآن يعملون بجد في إعداد العرش تجهيزاً للعيد أو "عيد المظال"، وهو العيد الذي يأتي بعد عيد "الغفران".

بعد وصولنا إلى جرزيم توجهنا إلى بيت عائلة عمران، أحد أهم عائلات الكهنة في التاريخ الحديث للسامريين، هذا البيت الذي كان أول بيت بُني في الجبل؛ ليكون أقدم كنيسة سامرية على الجبل قبل العام 1967، وبه كانت الطائفة تجتمع لتؤدي صلواتها وتمارس عبادتها.

استقبلنا، بترحاب كبير ووجه بشوش، الكاهن الشاب كريم عمران في بيته وأدخلنا مباشرة إلى الغرفة الرئيسية؛ حيث كان يعمل بجد لإنهاء تجهيز "العرش"، فالعيد يقترب، والسمرة، كما قال، بدأوا بالتحضير للثمار اللازمة للعرش بعد الانتهاء من صوم يوم "الغفران"، هذا الصيام الذي يمتد إلى ست وعشرين ساعة متواصلة من الغروب إلى الغروب، إضافة إلى أنواع العبادات والصلوات التي يمارسونها طيلة الليل.

يقول الكاهن عمران: "في الكتب التي توضح أعيادنا وما يترتب علينا فيها من واجبات بعد الصوم، يتهيأ السامريون لعمل العرش وأخذ لوازمه، والعيد يأتي في الخامس عشر من الشهر السابع حسب التوقيت السامري".

صفة عيد العرش

وصفة العرش، كما يوضحها، أن "يأخذ كل سامري من أغصان الشجر الذي لا يعرى من الورق لا صيفًا ولا شتاءً، ومن كفوف النخيل ومن خليط الواد الذي يطلع على مجاري الماء في الوديان من طيب الرائحة والريحان، ويصفُّون ذلك على الأسلاك في داخل بيوتهم ويزينوه بتعليق الأثمار البهية جميلة المنظر والرائحة، ويسكنون في هذا المظل سبعة أيام وهو من فوق رؤوسهم كالمظلة والغمام. وسر ذلك استذكار لظل الغمام الذي كان يظلل على الشعب لما كانوا في البرية مدة أربعين عامًا، وهذا مقصود الحق الذي أمر بهذا النظام، وفيه تأويل آخر وهو بشارة بدخول الجنان بعد الصيام لمن صام من السامريين".

وفي أول يوم من السبعة أيام، يعيُّدوا "عيد المظلة" المسمى "حج المظال"، ففيه يسبتون ويطبقون أحكام السبت في إعدام النار والأعمال كحكم السبت من الغروب للغروب، وفيه يحجون إلى جبل جرزيم ويطوفون فيه ويلبون ويتعبدون من نصف ليلة هذا العيد إلى نصف نهاره. الا أن الحج في هذا العام سيلغى لتوافق موعده مع يوم السبت الذي يٌمنع فيه العمل بشكل كامل.

ويأخذ آخر أيام المظال السبعة، الذي يوافق نهار الثاني والعشرين من الشهر السابع المتقدم ذكره، حكم السبت بانقطاع النار وعطلة الأعمال ولا يجوز فيه سوى الصلاة والقراءة.

يضيف الكاهن عمران، "لعيد العُرش كغيره من أعياد السامريين، كتاب للصلوات يتضمن الآيات الخاصة بالعيد من التوراة إضافة إلى ما قام بتأليفه علماء السامريين القدماء والحديثين، وتتم قراءته خلال العيد".

ويوضح، أن التحضيرات العملية لتجهيز العرش تكون بعد الانتهاء من الصيام، "نقوم بشراء أجود أنواع الفاكهة حسب ما أمرت به التوراة والاختيار يتم بناءً على مدة بقائها وتحملها سبعة أيام العيد، وتجتمع العائلة للمساعدة في التحضيرات، فالنساء يقمن بربط الثمار بأسلاكٍ تسهِل تعليقها على العرش، كما يساعدن في اختيار وتحديد الشكل الفني الذي ستكون عليه الصورة النهائية للعرش".

"العُرش يأخذ أشكالا إبداعية"

وبدا واضحًا أثناء تواجدنا في بيت عمران تنافس نساء العائلة على رسم الشكل الأفضل للعرش. فيما بين الكاهن عمران أن هذا الشكل ليس له علاقة بتقليد ديني متوارث في الطائفة، إلا أن العائلات تتنافس على الشكل الأجمل للعرش، وقد أخذ هذا الأمر منحىً جديدًا من خلال نشر الصور النهائية للعُرش على الصفحات الخاصة بأبناء الطائفة على "فيسبوك"، والتي تمتلئ بالتعليقات حول أجمل شكل للعرش.

التحضيرات لعيد العرش في منازل إحدى العائلات السامرية
التحضيرات لعيد العرش في منازل إحدى العائلات السامرية

وبلغ هذا التنافس من القوة ما دفع العديد من العائلات إلى اختيار رسومات حديثة لها علاقة بالتطورات التكنولوجية كالإشارات الدالة على "فيسبوك" مثلاً، أو الألعاب الالكترونية، ليكون لديها شكلاً جديداً لم يتم صنعه ورسمه على العرش، في دلالات كبيرة ليس على مستوى التنافس الفني في صنع وتجهيز العرش، بمقدار ما هي في محاولة السامريين الدمج ما بين الشعائر والممارسة الدينية التقليدية، والحياة الحديثة، في محاولة لعصرنة هذا العمل الديني ليكون أكثر متعة وقبولاً لدى الأجيال الشابة والصغيرة في الطائفة.

وعلى بُعد ثلاثة بيوت كان لقائي بأبو عفيف "يوسف إلطيف" أحد كبار السن، ومن الرجال الأكثر احتراماً لدى أبناء الطائفة، وهو يعطي توجيهاته لابنه ايهاب في تعليق ثمار الفاكهة على العرش ليلقاني بأجواء الفرح الظاهرة على وجهه أثناء ترحيبه.

التنافس الشديد يفضي إلى أشكال فنية رائعة في العرش
التنافس الشديد يفضي إلى أشكال فنية رائعة في العرش

"عيد العُرش بالنسبة لنا هو عيد الفرح و الجمال، وهو عيد المشاركة لجميع العائلة، ولذا تعمل العائلة أجمعها في التحضيرات الخاصة بهذا العيد، ونحن نفخر كطائفة رغم قلة عددنا، فنحن لم نحتفل بعد بالسامري الألف لنصبح أكثر اطمئناناً، نحن نحافظ على عاداتنا وتقاليدنا وشعائرنا، فهي سر بقائنا ومحافظتنا على أنفسنا كأقلية"، قال أبو عفيف.

ويضيف، "نُجهد أنفسنا بتحضير أفضل أنواع الحلويات من البقلاوة والبرمة التي يُعدها لنا أحد أمهر صناع الحلويات في نابلس بإشرافنا التام لتتوافق مع أوامر شريعتنا، كما نحضر الأنواع المختلفة من الشوكلاته والمكسرات، بالإضافة إلى إعدادنا النارجيلة (الأراجيل) لعدد من الأصدقاء الذين يأتون في المساء".

اضطر السامريون إلى الإقامة في جبل جرزيم خلال الانتفاضة الأولى رغم تحريم الشريعة السامرية لذلك

وتُعد النساء أيضا مأكولات متنوعة طيلة أيام العيد مثل السمبوسك، فيما تذبح العديد من عائلات الطائفة الخراف لصنع الإفطار اللذيذ من المُعلاق، (كبدة الخاروف)".

ويذهب رجال الطائفة، إلى الكنيسة مساءً وصباحاً للصلاة، وبعد صلاة الصبح يذهبون بداية لزيارة الكاهن الأكبر للطائفة عبد الله واصف، ثم يتبادلون الزيارات التي أصبحت أقل بمرور الزمن تزامناً مع انتشار التكنولوجيا، خاصة لدى الجيل الجديد، يقول أبو عفيف.

وعند انتهاء عيد العُرش، يضيف أبو عفيف، "نوزع جزءا من ثماره للأصدقاء من مدينة نابلس، إضافة إلى استخدام الجزء الآخر في تحضير عصائر مختلفة تُستخدم في أعيادنا الأخرى، وهنا نقول مثلنا الشهير: هدوا العُرش وافرشوا الفُرش،أي عند إنزال العُرش وهَدمه تبدأ نساء المدينة في فرش بيوتهن بالسجاد استقبالاً للبرد والمطر".

اقرأ/ي أيضا: غزة.. و"بديهيات الحب" في "حارة العبيد"

وبالعودة إلى الوراء قليلا، يتحدث الكاهن يوسف صدقة عن ذكرياته عندما كانت الطائفة لا تزال تسكن الحي القديم في نابلس. يقول: "في السابق كانت الأمور أصعب، فقد كانت الطائفة فقيرة جداً وهناك الكثير من العائلات التي لا تملك القدرة على تجهيز العرش الخاص بها، ولذا كانت العائلات الكبيرة هي التي تجهز العيد وتنضم لها العائلات الصغيرة التي تنتمي لنفس العائلة كعائلة عمران مثلاً، أو عائلة خضر وغيرها من العائلات الكبيرة".

لم تكن جميع العائلات السامرية تستطيع الاحتفال بعيد العرش
لم تكن جميع العائلات السامرية تستطيع الاحتفال بعيد العرش

ويضيف، "أما الآن فالأمور اختلفت وعائلات الطائفة كافة تقدر على صُنع عرشها الخاص"، مشيراً إلى أن الوضع المادي للعائلة الآن يحدد حجم العرش وكمية الفواكه التي يحتويها، وليس إقامة العرش أو لا.

كما يُعتبر عدد ثمار "الأترج" (ثمار تشبه الليمون كبيرة الحجم وتباع بثمنٍ غالٍ نسبياً)، دلالة هامة على الوضع المالي للعائلة، فلا تكتفي العائلة بثمرة واحدة منها توضع عادة في المنتصف، بل تضع العديد منها على الجوانب ليكون للعرش منظراً أجمل.

ويشير الباحث زواوي إلى أن العرش والشعائر الدينية لدى السامريين هي التي "تشكل الخيط الناظم لوحدتهم واستمرارهم كطائفة وديانة، فهي التي تجمع السامريين خاصة الجيل الجديد الذي يفتقد المعرفة الدقيقة والتفصيلية بالديانة السامرية لغياب المؤسسات التربوية الخاصة بإعادة الإنتاج الديني في داخل الطائفة، والشعيرة هنا هي المؤهلة بإعادة الإنتاج هذا للديانة رغم قصورها عن أداء المهمة؛ في ظل العجز الذي يبدو واضحاً من عائلات الكهنة في تعبئة الفراغ الديني العقدي والفقهي حتى اللحظة"، وفق قوله.

اقرأ/ي أيضا: 

مستوطنات جنين.. هل هذا ما سنفعله بعد التحرير؟

الضفة الغربية: زراعة الدخان "عادي" وتجارته ممنوعة