09-فبراير-2020

"ما هذه الجذور المتشبّثة/ أية غصون تنمو من هذه النفاياتِ المتحجّرة يا ابن آدم

أنت لا تقدر أن تقول أو تحزر/ لأنّك لا تعرف غير كومة من مكسّر الأصنام

حيث الشمس تضرب والشجرة الميتة /لا تعطي حماية ولا الجندب راحة

ولا الحجر اليابس صوت ماء/ ليس غير الظل تحت هذه الصخرة الحمراء

تعال إلى ظل هذه الصخرة الحمراء/ فأريك شيئًا يختلف عن ظلك في الصباحِ يخب وراءك أو ظلك في المساء/ ينهض كي يلاقيك/ لسوف أريك الخوف في حفنةِ تراب". (ت. س. إليوت/ الأرض اليباب). 


هذه الإحالة لم نأت بها لنربطها بالأرض اليباب كما يصفها الشاعر الأمريكي الشهير ت. س. إليوت، ولا بمحاولات اليهود وصف أرض فلسطين بأنّها خراب، قدر ارتباطها بابن آدم "اليهودي" الخائف حتى من تراب فلسطين، بالرغم من إصراره على حتميّة تبني مبدأ "الحلولية" من قبل بني إسرائيل، حيث تسود الرؤى الخلاصيّة، كما يؤكد الدكتور أحمد رفيق عوض في كتابه البحثي "دعامة عرش الرب" (قُدّم كرسالة نال بها عوض درجة الدكتوراه من معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة)، ويناقشُ فيها أثر الأصوليّة اليهوديّة، وتأثيرها على النظام السياسي في هذا الكيان الغاصب لأرض فلسطين، وهو موضوع هذا المقال.

         القاسم المشترك بين الأفكار الحلولية، والرؤى الخلاصية لدى اليهود، يكمن في التسلّح بالبعد اللاهوتي المسيطر على جذر الثقافة اليهودية      

القاسم المشترك بين الأفكار الحلولية، والرؤى الخلاصية لدى اليهود، يكمن في التسلّح بالبعد اللاهوتي المسيطر على جذر الثقافة اليهودية بالرغم من تعريف هوية "المجتمع الإسرائيلي" بأنّه مجتمع مركّب غير متجانس، متعدد الثقافات والطوائف والأعراق، حيث تُساوي الحلولية في الشريعة اليهودية -وهي اتجاه لاهوتي فلسفي– بين الشعب والإله، وفق ما ينقل عوض عن المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري. هامش ص272. 

ويستند اليهود في هذه الرؤية إلى الكثير من الفتاوى الدينية، والتي كان أخطرها ما أورده الكاتب اليهودي "يسرائيل شاحاك" في كتابه "الديانة اليهودية" عن أحد أهم المشرّعين في التاريخ اليهودي، هو الحاخام "موسى بن ميمون" والذي كان في مصادفة عجيبة، طبيب القائد التاريخي "صلاح الدين الأيوبي". حيث يقول ميمون: "عندما تكون يد إسرائيل قوية، لا يجب أن نُبقي أغيارًا بيننا". هامش ص191.

أمّا الخلاصية فإنها تشير إلى "تحوّل العقيدة الألفية إلى فكرة مركزية في المسيحية البروتستانية، والفكرة ذاتها تعود إلى اليهود" ص 217.

والعقيدة الألفية تنص على أن "كل ألف عام، سيشهد العالم أحداثًا ضخمة، وهي تعبير عن الرغبة في الخلاص بتدخل إلهي، وهي أيضًا نوع من ميل الإنسان إلى فرض نظام هندسي صارم على مجريات التاريخ". وفق تعريف المسيري.

اقرأ/ي أيضًا: 5 روايات إسرائيليّة مترجمة للعربية

هكذا وبعيدًا عن قضية اتهام "إليوت" بالعداء للسامية التي وظّفها بحسب العديد من النقاد في خدمة إبداعه على نحو ما استخلص المحامي البريطاني اليهودي أنتوني جوليوس، في قراءته التأويلية لإنتاج إليوت الشعري بالقول: "امتلك إليوت مخيّلة شاعر معادٍ للسامية في درجتها الأعلى. كان متعايشًا مع المصادر المعادية للسامية، وغير مكترث بالألم اليهودي. والعداء للسامية لم يشوّه عمل إليوت، بل أسهم في انتعاشه. كان، في أحيان، بمثابة ملجأ وإلهام، وظلّ إليوت بارعًا في استثمار طاقته الأدبية (…) وبين أنواع مختلفة من العداء للسامية، كان إليوت صاحب نوع نادر، قادر على وضع عدائه للسامية في خدمة فنّه".

إن كانت ادّعاءات معاداة السامية المتهم بها إليوت، قد خدمت فنّه، وفق تفسير جوليوس، فالأمر لدى الكاتب والباحث أحمد رفيق عوض كان مختلفًا اختلافًا كليًّا، حيث ذهب باتجاه الصراع الداخلي للباحث الإنسان أثناء ممارسته لفعل البحث، وهو ما أكده عوض في مقدّمته، مشيرًا إلى أكثر صعوبات هذا العمل "الكتاب الدراسة" والمتمثلة في "تلك المشاعر الذاتية التي كان من الواجب ضبطها وقمعها حتى لا تؤثر على موضوعية البحث وحياديته وعلميته، (...) فهذه الدراسة تبحث وتدرس مجتمعًا معاديًا، لا يعترف ولا يرى ولا يتعامل مع الآخر إلا من خلال مفاهيم تبدو لوهلة من أغرب الغرائب، فإذا أضيف إلى ذلك أنّ هذا المجتمع هو من يحتل أرضي وشعبي، عندئذ، للمرء أن يتصوّر مدى الصراع بين صرامة الباحث ومشاعر الإنسان" ص 10.

اقرأ/ي أيضًا: كيف نجحت "إسرائيل" مع الله وفشلنا؟

محاولة الحيادية تلك، لا يمكن لها أن تغيِّر من حقيقة شبه دامغة وترتبط ارتباطًا أصيلا باللاهوت اليهودي دون غيره، ومفادها أنه "في حالة (التزامن) والمعاصرة بين الدوائر التراثية المتداخلة، فإنه لا يشترط بالضرورة أن يؤثّر الأقدم زمنًا في الأحدث منه أو بالتالي عليه. فأحيانًا يحدث العكس؛ فيؤثر اللاحق في السابق حين يتعاصران، (...) والأمثلة الدالة على بداهة هذه الفرضية عديدة، منها ما يصل من القوة بحيث يمسّ جوهر الديانة اليهودية عقائديًا. أعني استكمال المنظومة اليهودية لذاتها، اعتمادًا على الديانتين التاليتين (المسيحية والإسلام) بإدخال فكرة البعث أو القيامة وما يتعلق بها من الأخرويات، وهو ما خلت منه النصوص اليهودية المبكرة (التوراة، أسفار الأنبياء الكبار) وتم إدخاله في النصوص اليهودية المتأخرة كالمشناة (المثناة) والجمارا، وهما يؤلّفان معًا التلمود، ومن هنا صارت عقيدة البعث جزءًا رئيسيًا من الديانة اليهودية، وهو جزءٌ رئيس تأخرت إضافته قرابة سبعة قرون" يوسف زيدان – اللاهوت العربي- ص32-33.

تقنيع الأساطير باللاهوت

الأمر الذي يشير إلى تقنيع الأساطير باللاهوت من قبل اليهود بغية توظيفها لمآرب دنيوية تامة، بوصفها انحرافات عن أصل الإيمان وخرافات تستخدم البدع لمصالح لا علاقة لها بالدين، وهو ما يؤكده عوض بدوره في كتابه "دعامة عرش الرب" بصياغة أخرى قائلًا: "عندما يتحوّل التاريخ إلى حكاية مقدّسة لا يمكن المساس بها أو نقاشها، أو عندما تتحول هذه الحكاية المقدسة إلى وسيلة سياسية يتم توظيفها بشكل دنيوي لا علاقة له بالمقدس أبدًا".

والإشارة إلى ما كتبه الروائي المصري يوسف زيدان، بالرغم من تغيير مواقفه من القضية الفلسطينية، والحق الفلسطيني، لم تأت على سبيل المصادفة، ولا هي بشكل اعتباطي، ولكنها جاءت لسببين أساسيين؛ أما الأول، فيصب في إعادة النظر إلى الوقائع والأحداث، عبر سياقات مختلفة، ولكتاب مختلفين حتى في التوجّه. وأما الثاني فيكمن في الإشارة إلى تغيّر المواقف السياسية والفكرية للأفراد مفكرين كانوا أم متشددين أو حتى سياسيين، وهو ما حدث مع زيدان ما بين إصداره لكتاب اللاهوت العربي المشار إليه والمنشور في طبعته الأولى عام 2009، وبين مواقفه المنقلبة على نفسها، بعد هذا التاريخ بسنوات قليلة لأسباب سياسية ومصالح شخصية آنية، لا علاقة لها بالحقائق على الأرض أو بالأفكار في الرأس.

اقرأ/ي أيضًا: يهود الروح: الاستعمار الأمريكي والأسطورة التوراتية

بالعودة إلى عوض وكتابه "دعامة عرش الرب"، فسنجده يستعرض عدة شهادات توضّح الصورة بشكل أعمق مما أشرنا آنفًا، منها شهادة الأب مايكل برير صاحب الكتاب المقدس والاستعمار الاستيطاني، الذي لاحق "الخرافات الاستعمارية" التي أصبحت جزءًا من الخطاب الاستعماري الاستيطاني، فعرضها على النحو التالي: "خرافة الأرض البكر أو البرية، خرافة التفوق العنصري، خرافة التحضر، خرافة الشرعية أو التفويض الديني، (...) وبهذا فإن المشروع الصهيوني الذي هدف إلى إقامة كيان سياسي في فلسطين، لم يكن لينجح لولا الدعم والادّعاءات والأوهام التي تملك المدفع والجرافة". ص 334 وما يليها.

       محض أكاذيب اختلقها المُشغل في مركز الكولونيالية المؤسسة "الغرب وأمريكا" لابتداع كيان وظيفي هو "الكيان الصهيوني الإسرائيلي"     

الأمر إذن محض أكاذيب اختلقها المُشغل في مركز الكولونيالية المؤسسة "الغرب وأمريكا" لابتداع كيان وظيفي هو "الكيان الصهيوني الإسرائيلي" فدخل الأخير في صدام بين دوره الوظيفي وهويته الدينية، الأمر الذي اعترف به عضو الكونجرس الأمريكي السابق في كتاب بعنوان "الصحوة، النفوذ اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية"، حين وصف العلاقة بين الدين اليهودي كهوية نهائية ودولة "إسرائيل" كتحقيق لهذه الهوية بالقول: "الدين اليهودي كما وصف في التلمود، أقل اهتمامًا باليوم الآخر من اهتمامه ببقاء الشعب اليهودي وبقوته.. وبما أنّ (عقيدة الشعب المختار) هي التي تحرّك الدين اليهودي فإن الديانة اليهودية بأكملها مصابة بمرض مزمن هو تلاوة حكايات الاضطهادات الماضية وسردها". ص 401.

ولأن الفاشي ما يزال مصرًّا على الخروج من جسد الضحية، ليرتدي فصلًا من التلمود، كما يصفه "درويش" في قصيدته الملحمية "مديح الظل العالي"، فهو ما زال يحاول السير عكس اتجاه صيرورة التاريخ كما ينتقده أستاذ الكيمياء العضوية، ورئيس سابق لمنظمة حقوق الإنسان في "إسرائيل"، المعادي للدولة اليهودية، وللصهيونية كعقيدة قومية، "يسرائيل شاحاك" بالقول: "إن إسرائيل التي لا يجب أن تتنازل عن الأرض التوراتية في أية تسوية باعتبارها الدعامة الأرضية لعرش الرب، إنما هي ليست إلا مملكة إسرائيل كما أرادها الله". ص 395.

          لا يمكن لحركة التاريخ أن تتوقف لأن قوة استعمارية كولونيالية ما تدّعي أنها الممثل الشرعي والحصري للرب على الأرض      

نعم درويش يحق لك أن تكرر القول: "يخرج الفاشي من جسد الضحية/ يرتدي فصلًا من التلمود: اقتل كي تكون/عشرين قرنًا كان ينتظر الجنون/ عشرين قرنًا كان سفاحًا معمم، عشرين قرنًا كان يبكي، أو كان يحشو بالدموع البندقية/ عشرين قرنًا كان يعلم أن البكاء سلاحه السري والذري".

ليس لأنك هذا الفاشي، ولا لأنه انتصر عليك وحده، ولكن لنستحضرها نحن وهي ما كتبت في الديكتاتور "أمريكا" كما في رثاء العرب، حين كان الصمود عنوانًا وراية، نستحضرها مرة أخرى اليوم في وجه من أطلق ما تسمى "صفقة القرن" ليفتح المزاد على فلسطين وبأموال العرب أنفسهم، فيما يُشير الخط الإنساني الواصل ما بينك "درويش" وبين إليوت، إلى أن قوانين الطبيعة، تؤكد أنه لا يمكن لحركة التاريخ أن تتوقف لأن قوة استعمارية كولونيالية ما تدّعي أنها الممثل الشرعي والحصري للرب على الأرض، ببساطة شديدة لكون الرب الإله ما زال ها هنا مقيمًا بيننا ولم يصعد عاليًا حتى اللحظة. ولكن القناع، قناع العرب قد سقط.

"سقط القناعُ عن القناعِ عن القناعِ

سقط القناعُ/ ولا أَحدْ إلاَّك في هذا المدى المفتوح للأعداء والنسيانِ/ فاجعل كُلَّ متراسٍ بَلَدْ

لا، لا أَحَدْ سقط القناعُ/ عَرَبٌ أَطاعوا رُومَهم/ عَرَبٌ وباعوا رُوْحَهُم/ عَرَبٌ.. وضاعوا/ سَقَطَ القناع
". (درويش – مديح الظل).


اقرأ/ي أيضًا: 

"إسرائيل" أمامكم والكثير من العرب خلفكم!

صفقة القرن: أقصى درجات الوعي، أدنى درجات الفاعلية

عن الخلاص الصهيوني: القدس شرطاً لعودة المسيح