30-أبريل-2018

"أن تسكن حفرة جدرانها من التراب، مقوّسة السقف، مغلقة من جميع الجهات ما دون فتحة البئر، وقد تركت ظهر الأرض بما فيه وراءك، لا بد أنك مختلف حد الجنون العاقل". "كانوا يدركون أنهم خمس حكايات مختلفة، أعينهم تفضح ذلك، يقظتهم كشفت كيف ينسجون أحلامهم، فمهما أخفت الأمر جدية مهمتهم، لن تستطيع سلب إنسانيتهم التي تتحرك".

هذه جُملٌ كُتبت في مكان له جدران باردة تُقفله أبواب حديدية حراسها لا يعتبرون من البشر، وهي جزء من كتابات الأسير عمار الزبن، تحديدًا في روايته "الزمرة"؛ التي يحكي فيها عن إحدى عمليات كتائب القسام خلال حرب 2014، في منطقة القرارة شرق خان يونس، وقد ذهب منفّذوها بين شهيد وأسير.

أسير، وأسير سابق، يتحدثان لـ الترا فلسطين كيف يكتب الأسرى إنتاجاتهم الأدبية خلف القضبان

تذكر الرواية أحداثًا تفصيلية عاشتها "الزمرة القسامية" خلال تخفيها في أحد الأنفاق، وانتظارها جيش الاحتلال عدة أيام، انتهاءً بإيقاع جنود العدو في الكمين، وقد استقى أحداثها من أسيرين اعتُقلا خلال الحرب، والتقى بهما في سجن "ريمون".

اقرأ/ي أيضًا:  "زهرات" تحكي كيف تقضي الأسيرات القاصرات أيامهن

رأت "الزمرة" النور في صيف 2017، رغم أنها كُتبت قبل ثلاث سنوات، وهي إحدى روايات كتبها الزبن خلال الاعتقال ثم نجح في إخراجها من خلف القضبان، وطباعتها ونشرها، لتُضاف إلى إصدارات عديدة أنتجها، منها "عندما يزهر البرتقال" عام 2011، وقد حازت على جائزة القدس عاصمة الثقافة العربية.

وإنتاجات الزبن ليست فريدة من نوعها، بل هي حلقة في إنتاج أدبي واسع يُعرف فلسطينيًا بـ"أدب السجون"، كتبه معتقلون في سجون الاحتلال، ونقلوا به صورة حية وواقعية للمعاناة التي مروا بها وعايشوها، بعضه أبصر النور من النافذة الضيقة لزنازين الاحتلال، وبعضه ينتظر.

الترا فلسطين تحدث مع الأسير الزبن، ليشرح لنا تجربته في الكتابة داخل المعتقلات، إذ بيّن أنه لم يستطع توثيق الشهادات خلال النهار بسبب رقابة الاحتلال، ما جعله ينتظر حلول المساء ليجتمع في جلسة مع عدد من الأسرى الذين يتحدثون فيما بينهم عن قصصهم.

يكتب الزبن أعماله على ضوء خافت ليلًا بسبب إطفاء المصابيح من قبل المحتل داخل الزنازين، ثم يُسلّم ما كتبه إلى النّسَخة في عدة زنازين ليتطوعوا بنسخ ما كتبه، فإذا صودرت نسخة كان لها بديل.

ويبين الزبن أن القصة لا تُكتب من بداية الدفتر، بل يكتب الناسخ أبياتًا من الشعر أو يرسم رسومات مختلفة في أوله، كما تُكتب كتابات عامة بين الفصول، ويُختم الدفتر بما يُشبه بدايته، "حتى إذا فتّش السجانون الدفاتر لا يكتشفوا أنها تحتوي على رواية" وفق قوله.

الأسرى يكتبون ليلاً، وهناك أسرى يتطوعون لنسخ ما كُتب في أكثر من زنزانة

وأضاف، "المشكلة الصعبة بعد الانتهاء من الكتابة هي كيفية الحفاظ على الدفتر الأصلي والنسخ منه إلى حين إيجاد طريقة لتهريبة خارج السجن، وإذا نجحنا في التهريب نظل في حيره من أمرنا كيف سيتم تسلميها لمن يطبعها لنشرها، فكثيرًا ما كانت تُفقد بعد خروجها من السجن".

اقرأ/ي أيضًا: بين زيارة وأخرى.. هكذا يكبر الأسرى الأطفال فجأة

الأسير السابق عبد الفتاح دولة، مؤلف كتاب "البوسطة" أفادنا بأن تجميع وإصدار كتابه يتم في ظروف أمنية بالغة التعقيد، فإدارة سجون الاحتلال صادرت كتابه ثلاث مرات أثناء محاولة تهريبه، وفي المرة الرابعة نجحت محاولة التهريب، لكن المادّة ضاعت مع من تم تهريبها معه وقتًا طويلاً، قبل أن يرى النور في صيف عام 2017.

و"البوسطة" هي حافلة نقل الأسرى من سجن الى آخر، أو إلى المحكمة، وتُعد من أبرز أساليب إذلال الأسرى، إذ يقضون ساعات طويلة - تزيد عن 20 ساعة في حالات كثيرة - على كراسيها الحديدية مقيدين من أقدامهم وأرجلهم، ويتعرضون لضرب شديد لمجرد طلب الماء، أو لأسباب أخرى تافهة.

يقول دولة لـ الترا فلسطين إن إدارة سجون الاحتلال منعت خلال تأليف كتاب "البوسطة" دخول الورق والأقلام، وشنّت حملات تفتيش مفاجئة لضبط ما يكتبه الأسرى، موضحًا أن الأسرى ابتكروا - في مرحلة سابقة - وسائل  لحماية كتاباتهم، منها الكتابة على ورق الكرتون، وورق لف البرتقال، وورق علب اللبن، وورق لف الزبدة بعد غسلها وتجفيفها، ثم كانت تُجمع وتُخيّط على شكل دفاير وتُخفى عن عيون السجانين.

وأضاف، "ثم سُمح لنا بشراء الدفاتر من "الكنتين" (المقصف) وهي بأسعار مرتفعة مقارنة بخارج السجن، وكانت صغيرة حتى لا نستيطع أن نكتب كثيرًا، فكنا نشتري أكثر من دفتر ونجمعها في دفتر واحد، ثم نقوم بخياطته لنكتب فيه".

تدور إنتاجات الأسرى في سجون الاحتلال في فلك واحد غالبًا، وتتشابه كثيرًا المواضيع التي يكتبون حولها، وأحيانًا التفاصيل أيضًا، ما يطرح أسئلة حول القيمة الأدبية لهذه الإنتاجات، بعد التسليم بقيمتها الوطنية والإنسانية.

يجد الناقد الأدبي عبد الفتاح أبو زايده، وهو محاضر في جامعات بغزة، أن ما يكتبه الأسرى داخل السجون يعد أدبًا، ولكن لا يمكن اعتباره روايات، "بل هي أقرب للتقارير أو الحكاية أو القصة".

ما يكتبه الأسرى - غالبًا يعد إنتاجًا أدبيًا، ولكن ليس روايات، بل أقرب للتقارير والحكايات

وفي تعليقه لـ الترا فلسطين على "أدب السجون"، أشار أبو زايده إلى أن الروايات لها قواعد وأساسيات وأساليب محدّدة، وأبعاد وبناء، مضيفًا "يجب أن يعيش كاتب الروايات أجواء معينه أثناء الكتابة، يفتقد لها الأسير، فظروف الأسر لا تسمح أن يعيش الشخص وضعًا نفسيًا يسمح له بكتابة رواية حقيقة".

ويعتبر أبو زايده إنتاجات الأسرى "روايات تسجيلية"، تُعبّر عن السيرة الذاتية، وعن واقعهم الذي يعيشونه، وظروفهم داخل السجن، "فأغلب من كتب الروايات من الأسرى بدأ في الكتابة بعد دخوله السجن، وبعد خروج عدد منهم تغيرت رؤيته للكتابة الروائية، بعد أن تعرف بشكل أكبر على كيفية كتابة الروايات".

ويرى نقاد - وأبو زايده منهم - أنه "يجب تجنب القسوة في انتقاد كتابات الأسرى، من باب تشجيعهم على الكتابة، للتعبير عن ما بداخلهم، وتوثيق اعتداءات الاحتلال" كما يقولون.

ويؤكد أبو زايده أن هناك تقصيرًا واضحًا من قبل الإعلام الفلسطيني، ووزارة الثقافة، والمؤسسات الثقافية، وحتى الجامعات، في نشر وتعريف المجتمع بكتابة هؤلاء الأسرى، عن طريق الندوات أو جلسات الانتقاد، أو قراءات أدب السجون، أو حلقات إذاعية، أو برامج تلفزيونية، كما أن البرامج الجامعية تخلوا من مساقات مختصة في أدب السجون.


اقرأ/ي أيضًا:

طحين الأسرى وابتساماتهم

هدده المحققون بزوجته وقطعوا خلفه.. ولم يرضخ

المحرّرة عطاف عليان والفدائي الذي قتلها عشقًا