17-مايو-2018

يقول المؤرخ شمس الدين المقدسي عن فلسطين، في كتابه أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم: "وهي بلادٌ كثيرة الخيرات، فقد جمع الله فيها فواكه الاغوار والسهول والجبال والأشياء المتضادة..". ولذا ليس غريبًا أن تكون باخرة البرتقال الأولى قد غادرت ميناء يافا عام 1862، وهو أيضًا ما جعل الحركة الصهيونية تلوذ بالزراعة كحلٍ لربط الوافدين الجدد بالأرض؛ كيف لا يفكروا بالهروب منها، وفي محاولة لخلق علاقة بين المستوطنين المهاجرين، والأرض التي أتوا للاستيطان فيها.

وخلال سنوات الاحتلال، تفوقت إسرائيل في حقل تطوير الزراعة - مستغلة الخصائص الهامة للأرض الفلسطينية - حتى غدت من أهم الدول عالميًا، وكانت لها تجارب زراعية مُهمة خارج حدود الأرض المحتلة؛ تحديدًا في سهول أفريقيا ومناطق الهند، وصار التطور الزراعي سلاحًا تغزو به دُول أفريقيا وتعزز به نفوذها في القارة الفقيرة.

عمدت الحركة الصهيونية منذ البداية إلى الاهتمام بالزراعة لربط المستوطنين المهاجرين بالأرض الفلسطينية

 وقدّمت دولة الاحتلال أصنافًا جديدة وجدت طريقها بسهولة للأسواق العالمية، وحتى العربية. ومن ذلك إنتاج الشمام بطعم الأناناس، والموز بطعم التفاح، والقرع الأزرق، والبندورة يُمكن تقشيرها مثل الخيار والجزر. والأمر ذاته مع البذور التي يتم تسويقها عالميًا بأنها ذات قيمة غذائية أعلى وإنتاج أكبر، كالسمسم والبقوليات.

اقرأ/ي أيضًا: كيف اجتمعت مصر وإسرائيل ضد بطيخ جنين؟

وقد لفت انتباهي خلال جولاتي الأخيرة في منطقة الأغوار الشمالية، وتحديدًا بالقرب من بيسان في منطقة العين البيضا، وجود نوع من الحمضيات قريب من الليمون الذي نعرفه، ويزرع بكميات كبيرة، فقطفت منه وبدأت البحث لمعرفة قصة هذا الليمون الغريب في شكله وطبيتعه.

كانت إجابات العمال العرب بأن هذا النوع من الحمضيات يُسمى "ليمون اليهود" لأنه مثلهم غريب عن البلاد، ويعتقدون بأنه يُباع في السوق الإسرائيلي للمتدينين ليستخدموه في زينة عيد العُرش اليهودي، والكمية الأكبر منه يتم تصديرها وتسويقها عالميًا. وهذا فقط كل ما يعرفه العرب في تلك المناطق عن هذا الليمون، كما أخبرني الناشط فارس فقها من قرية العين البيضا عندما رافقني في جولتي هناك.

والمثير في الأمر، أن هذا النوع من الليمون غير معروف في البلاد العربية حاليًا، ولا يزرع ولا ينتج بها، ربما لأن العرب يُؤمنون بفلسفة الاهتمام بالأشجار المُثمرة للأكل وبأن "الشجرة غير المثمرة حلال قطعها". ولأجل ذلك توقفت زراعة أشجار حمضية كانت معروفة في بلادنا بشكل أساسي مثل النارنج (البرتقال المُر)، والأترج، وُكلّها أشجار من الحمضيات تعود في أصولها لمنطقة شرق آسيا كالليمون والبرتقال.

وليمون "أصابع بوذا"، معروف بعدة أسماء مُرتبطة بشكله منها: "ليمون يد بوذا"، "أصابع الاتهام"، "أصابع السيرتون"، "الاخطبوط"، وقد جيء به للأغوار من قبل مزراعين مستوطنين، لينتج في بيئة جديدة توفّرَت بها الخصائص التي تسمح له بالنمو، فنجح في الحياة في فلسطين بعيدًا عن موطنه الأصلي في الصين واليابان وكوريا وفتينام وبعض مناطق الهند ودول شرق آسيا، تمامًا كفصيلته من الحمضيات التي عاشت في بلادنا منذ مئات السنين. 

وهذا النوع من الحمضيات ارتبط باسم بوذا مؤسس الديانة أو الفلسفة البوذية المنتشرة في الهند وشرق آسيا، لأنه يحمل أصابع كالتي تظهر في التماثيل والرسومات في المعابد لبوذا، فلهذا الصنف من الليمون أصابع ونتوءات تُشبه الأصابع البشرية. 

ولا يمكن للعبادات الدينية عند البوذيين أن تتم بغير هذا الليمون، وكذا احتفالات رأس السنة القمرية، وهدايا المعابد، والسنة الجديدة، لأنهم يؤمنون بأن هذا الليمون هو رمز للسعادة والفأل الحسن، وجالب لأسباب طول العمر، ويزرع أيضًا في حدائق البيوت كزينة وَجَلباً للبركة، ويهتمون بها اهتمامًا كبيرًا. 

يمتاز هذا الليمون برائحته العطرية، ولذا يستخدم في تعطير القاعات والمعابد والبيوت والملابس، ويتم استخدامه عالميًا في إنتاج العطور المميزة، بالإضافة لأهميته كغذاء يُضاف للسلطة والكوكتيل والحلويات وزينة الموائد، وَيُعتَقد بأن لقشوره فوائد مُنشطة ومنبهة كما في الطب الشعبي الهندي. 

استغلّت إسرائيل أجواء الأغوار الفلسطينية لزراعة "أصابع بوذا" وتصديرها، في حين تُكبّد الزراعة الفلسطينية خسائر مليونية

 وشجرة "ليمون أصابع بوذا" صغيرة الحجم دائمة الخضرة، لا تمتد للأعلى كثيرًا، ولها فروع كثيرة تكسوها الأوراق والشوك، وثمرها في غالبه بلا لُب أو عصير. ولها أكثر من 12 نوعًا  عالميًا، وهي تحتاج إلى الدفئ ولا تتحمل الصقيع أو الأجواء الباردة. ولذا كان من السهل أن تعيش في الأغوار الفلسطينية، وأن تعطي منتوجًا عالي الجودة، لملائمة المناخ الفلسطيني في الأغوار لدورة حياة هذه الشجرة.

وعلى الرغم من تفاخر دولة الاحتلال بأنها من أهم الدول في تطوير الزراعة، وأنها قادرة على خلق بيئات مُلائمة لأصناف عالمية، ومنها شجر "أصابع بوذا" الذي أصبح منافسًا لمنتجات الشجرة الأم في موطنها الأصلي في شرق آسيا، إلا أن كل ذلك يجب أن لا يُسقط عن الاحتلال جرائمه بحق الأرض الفلسطينية، ويجب أن لا يغيب أن ما تُفاخر به من إسهام زراعي كان على حساب الزراعة الفلسطينية التي كانت نامية ومتطورة في عصرها، ولم تكن بلادُنا يومًا صحراء قاحلة بلا شعب يزرعها، كما في مقولة اللورد البريطاني آرل شافتسبري: "أرض بلا شعب وشعب بلا أرض". 

واللافت في هذا النجاح الإسرائيلي أنه كان على حساب طبيعة البلاد، تحديدًا في الأغوار الفلسطينية التي يتم استغلالها بشكل جيد من قبل المشروع الصهيوني الاستيطاني، حتى أن خسائر الفلسطينين - بحسب آخر إحصائية للسلطة الفلسطينية - تُقدر بنحو 800 مليون دولار، نتيجة استغلال الاحتلال للأغوار الشمالية. ولأجل ذلك يأبى الاحتلال بأن يكون الغور محلاً للتفاوض لما يُشكله من أهمية زراعية له، قبل أن يكون للبعد الأمني مُبرر بالتمسك به.


 اقرأ/ي أيضًا:

كنز مدفون في إحدى دفئيات وزارة الزراعة بغزة

انثروا البذور تحصدوا خضارًا في كل مكان

"حسبة" رام الله.. هل هي مكب لخضار وفواكه إسرائيل؟