26-يونيو-2019

يبرر البعض سوء الحاضر الذي نعيشه بأمجاد الماضي، ويستندون في تبرير ما يتمتعون به من رخاءٍ حاليٍ إلى نضالات الماضي، وكأن مجد الماضي من صُنْعهم الشخصي وحدهم، وليس صنع آخرين أيضًا، وبهذا زاوجوا بين نفوذهم السياسي والمال، فنشأت طبقة حكم جديدة، برز بين ظهرانيها أمراء تمتعو بمزايا ومنافع على حساب الآخرين، وخلقوا حول أنفسهم هالة أخلاقية تحميهم من ألسنة الناس، مصدرها نضالات الماضي، وهي بالأصل نضالاتٌ خاضتها الغالبية، لكن من قطف الثمرة قليلون.

اختلط المال بالسياسة، وتكوّن لدينا أثرياء لا تقل ثرواتهم عن طبقات الحكم في الخليج

ليس سرًا أن يقول لك قائلٌ "هذا البيت العريق يملكه فلان من أمراء المرحلة"، وتلك العمارة ملك ذاك الحزبي المعروف، والشركات الفلانية ملكٌ لذاك القيادي، وهذه الأراضي ملك ذاك المسؤول، وهذه الوكالة التجارية ملك المناضل الفلاني، وذلك وذاك...، فقد اختلط المال بالسياسة، وتكوَّن لدينا أثرياء لا تقل ثرواتهم عن ثروات طبقات الحكم في الخليج، فقد صدقت القاعدة التي تقول أن لكل حرب أغنياءها، تمامًا كما لكل ثورة أغنياؤها.

اقرأ/ي أيضًا: همسة في أذن الرئيس لجلسة استماع حول القضاء

يتم تداول هذه المواضيع بكثرة في المجتمع الفلسطيني لكن داخل الصالات المغلقة، فبمجرد جلوسك مع أي فلسطيني يروي لك قصصٌ عديدةٌ عن ساسةٍ أصبحوا أثرياء، لكنهم لا يجرؤون على تناول هذه القضايا في العلن، فتاريخ هؤلاء الأشخاص لا يمكن المس به، فهذا الثري قائدٌ ابن قائد، وذاك تاريخ أسرته النضالي يبرر له الانتقال إلى طبقة الأثرياء، وغير ذلك من التبريرات.

ما يحدث في فلسطين ليس بعيدًا عن ما يحدث في بلدانٍ عربيةٍ أخرى حدثت فيها ثوراتٌ على الحكم، مثل مصر والجزائر والسودان وغيرها، حيث احتاجت شعوبها إلى عدة عقودٍ لتكشف مدى تغلغل وتمدد طبقة الفساد على ظهر الثورات، ومع ذلك حاولت الشعوب بثوراتها استئصالها لكنها فشلت، فهذه الطبقات الناشئة تغلغلت وتعمقت في مفاصل الدول، قد تجتث كل مفاصل الدولة ولا يمكن اجتثاثها.

طريقة عملها تشبه إلى حدٍ كبيرٍ طريقة عمل المافيا، لباس أمرائها يشبه لباس زعماء المافيا، قصة شعرهم تتشابه، ثقتهم بالنفس متشابهة، صراعاتهم الداخلية متاشبهة، لكل قطاعٍ فيهم عائلة، وعلى رأس كل عائلةٍ أمير. حالة التشابه كبيرة كون أن النشأة متشابهة، فكلهم جاءوا من قلب الثورات.

أصل المافيا حركةٌ ثوريةٌ تعود إلى القرن الثالث عشر، إبان الغزو الفرنسي لأراضي صقلية في إيطاليا

كثيرون يعرفون كيف نشأت طبقات الحكم في هذه البلدان، لكن قليلون يعلمون أن أصل المافيا حركةٌ ثوريةٌ تعود إلى القرن الثالث عشر، إبان الغزو الفرنسي لأراضي صقلية في إيطاليا، حيث تشكلت منظمةٌ سريةٌ لمكافحة الغزاة الفرنسيين كان شعارها “MORTE ALLA FRANCIA ITALIA ANELA” ويعني "موت الفرنسيين هو صرخة إيطاليا"، فجاءت كلمة "مافيا- MAFIA" مشكَّلة من أول حروفٍ من كلمات الشعار.

اقرأ/ي أيضًا: اقتناص الوظائف العليا في دولة يحدها حزب واحد

كانت المافيا تتويجًا للتمرد والعصيان الذي ظهر في صقلية عقب قيام أحد الغزاة الفرنسيين بخطف فتاة في ليلة زفافها عام 1282، وهذا وفقًا لما دونه التاريخ، أشعل نار الانتقام في صدور الإيطاليين، ثم امتد لهيبها من مدينةٍ إلى أخرى، فقتلوا عددًا كبيرًا من الفرنسيين في ذلك الوقت انتقامًا لشرفهم المذبوح في هذا اليوم المقدس لديهم، وكان شعارهم في ذلك الوقت هو الصرخة الهستيرية التي صارت ترددها أم الفتاة وهي تجري وتبكي في الشوارع كالمجنونة. 

لاحقًا، أصبحت المافيا قوة اقتصادية وسياسية واجتماعية، وهرب -في مرحلةٍ تاريخيةٍ ما- الكثير من أعضائها إلى الولايات المتحدة خشية الاضطهاد والسجن، لينشؤوا ويسيطروا على الولايات المتحدة الأمريكية، وما نشاهده الآن في الولايات المتحدة يظهر حجم التداخل والتزاوج بين الحكم وعمل المافيا.

أمجاد الماضي لا تبرر الثراء الفاسد في الحاضر، وعلى الجميع تقع مسؤولية مقاومته، لكن المسؤولية الواقعة على الدولة أكبر

حالة التزاوج القائمة عالميًا بين السياسة والمال، دفعت بعض الحكومات الغربية للقيام بذات الأفعال التي تقوم بها المافيا، فأبرز أعمال المافيا هي الدعارة وتجارة السلاح وتجارة المخدرات وتجارة الكحول. العديد من الحكومات أقرت في بلدانها قوانين أتاحت بموجبها للدولة احتكار هذه الأفعال وجني أرباحها، وهذا يعكس عمق التزاوج بين السياسة والمال، كظاهرةٍ عالميةٍ وليست محلية، فهذه هي إحدى مخرجات العولمة.

إن ما ذكرته سابقًا لا ينفي أن الفئة الأوسع من المناضلين، ومن بينهم قياداتٌ سياسيةٌ -كان الشهيد ياسر عرفات على رأسهم- رفضوا بشدة أن يتحول النضال وسيلة للثراء، ورفضوا أن تتزاوج السياسة بالمال، واكتفوا بحياةٍ يسيرةٍ بسيطة، وتوفي العديد منهم دون أن يتركوا شيئًا.

إن أمجاد الماضي لا تبرر الثراء الفاسد في الحاضر، وعلى الجميع تقع مسؤولية مقاومته، لكن المسؤولية الواقعة على الدولة أكبر. لدينا أدواتٌ وقوانين للمساءلة والمحاسبة، مفعلةٌ على المستوى النظري، لديها قدراتٌ كبيرةٌ على تسويق نفسها محليًا ودوليًا، لكنها لا تفعل الكثير على أرض الواقع، وكأن الواقع ابتلعها، فالناس ترى وتلمس وتحس، وليس كل ما يقال شائعات، فالتاريخ يفسره الشواهد، وتفسير الشواهد لا يصنف شائعات.


اقرأ/ي أيضًا:

الجوع عدو الكرامة.. هل التمرد عليه مشروع؟

الديموكتاتورية نظام حكم فلسطيني

سلطة مُقاصة