12-أغسطس-2019

في ذلك الصباح، وجهٌ في المرآة، تنظر إليه فترى فيه صراع وجهين يجب أن يُحسم بسرعة؛ قبل أن تحين ساعة الالتحاق بالأصحاب في الساحة، أؤلئك الذين سبقوها في عيش الصراع أمام المرآة، واستطاعوا بشق الأنفس خنق دمع الحنين إلى دواخلهم حتى الليل، واستعادوا ابتسامةً دافئة جريحة في ذات الوقت. إنها اللحظة التي تقف فيها الأسيرة أمام نفسها عبر المرآة قبل أن تبدأ سلامها وتهنئة صاحبتها بالعيد، في لحظةِ تَكثُّفِ الحنين للذكريات والأهل في مواجهة مشقة البعد.

إنه صباح العيد في السجن.

إنها اللحظة التي تقف فيها الأسيرة أمام نفسها عبر المرآة قبل أن تبدأ سلامها وتهنئة صاحبتها بالعيد، في لحظةِ تَكثُّفِ الحنين للذكريات والأهل في مواجهة مشقة البعد.

عطايا أبوعيشة من القدس، شابةٌ يافعة، روحها مرحة، تجيد صناعة النسكافيه و هو المشروب الصباحي الثابت في السجن.

اقرأ/ي أيضًا: أعياد الأسرى.. قطايف و"بوظة" وشوق لـ"تفاصيل صغيرة"

صباح العيد، بينما تتجمع الأسيرات في الساحة تكون عطايا قد خلقت جوًا مرحًا وهي تعلمهن كيف يصنعن رغوة النسكافيه، وذلك بوضع السكر وقليلٍ من الماء في الكوب وتحريكها باستمرار، وهذا يصدر صوتًا أقرب لاحتفالٍ موسيقي مثير لضحكٍ خفيف يملؤ القلب بهجة.

حين تنتهي جميع الأسيرات من ارتداء أحسن ما لديهن من ملابس في ذلك الصباح، تكون طريقة عطايا السحرية في صنع رغوة النسكافيه قد أتمَّت آثارها، يسلمن على بعضهن وتبدأ أصوات التكبيرات للأسيرات مجتمعاتٍ تصدر في الساحة. تسري قشعريرة شوقٍ للأهل، لرائحة العيد وبهجته الدافئة، وكل واحدة في داخلها تبتلع غصةً ودمعةً بصمت، الكل يتغافل عن هذا الحنين لئلا تتفتح الجروح في لحظة!

يتحلقن في ساحة الفورة حول الطاولات، يكبرن تكبيرات العيد مستذكراتٍ أن العيد فرحٌ رغم غصة البعد والغياب عن الأهل، يواسين أنفسهن بأن السعي إلى الفرح عبادةٌ حتى في أشد ساعات الكرب. ثم يتبادلن بطاقاتٍ ورقيةٍ عليها عبارات تهنئةٍ ورسائل لرفع المعنويات تكون قد أعدت قبل العيد بأيام، بما يتوفر من أوراق وأقلام ملونة، فيما تكون الطاولات قد جهزت بما توفر من الحلوى كضيافة.

و تبدأ أحاديث الذكريات، عن الأعياد في الحرية وطقوسهن فيها.

حلوة حمامرة من بيت لحم تذكر أنها كانت تحب تدليل ابنتها في العيد، فكانت تختار لها لباسًا يشابه لباسها، وتُباشران منذ الصباح جولة على الأهل والأقارب في قريتها حوسان، لكن حلوة للعيد الثامن على التوالي بعيدة عن ابنتها، لا تدللها كما يشتاق قلبها ولا تتمكن حتى من إهدائها قبلة العيد! حوكمت حلوة في نهايات عام 2016 وحكم عليها بالسجن لست سنوات، ستظلُّ على امتدادهن تحلم بصغيرتها وبالأعياد معها حتى يحين لقاء.

ما يقارب ثلث الأسيرات أمهاتٌ مغيباتٌ ظلمًا عن أطفالهن في يومٍ سِرُّ بهجته الخالص اجتماع العائلة

تجدر الإشارة إلى أن ما يقارب ثلث الأسيرات أمهاتٌ مغيباتٌ ظلمًا عن أطفالهن في يومٍ سِرُّ بهجته الخالص اجتماع العائلة.

اقرأ/ي أيضًا: ما وراء الضحكة!

بانتهاء الفورة الأولى تعود الأسيرات إلى غرفهن، يتبادلن أطراف الحديث عن الأمل بعيدٍ قريبٍ مع الأهل، وحنينٍ لصلاة العيد التي ترفض إدارة السجن أن تقيمها الأسيرات في الساحة، فيُصلّينها في الغرف.

يترقبن مضي الساعات حتى حلول العصر، حيث يحين موعد برنامج "على جناح الطير" الذي كان الوسيلة الوحيدة للأسيرات في سجن الدامون للتواصل مع أهلهن، فإدارة السجن تمنعهن بشكل كليّ من أي نوعٍ من الاتصالات الهاتفية مع الأهل حتى في العيد. يتصل الأهالي مهنئين بناتهم بالعيد، يخنقهم الدمع حينًا وحينًا يخنقهن، وعلى أي حالٍ فإن انتظار هذا البرنامج يوم العيد يهون عليهن وحشة اللحظة.

كما تفعل الأصوات، تفعل الصور، فتجدها حاضرةً إما في صمتٍ تتأملها صاحبتها، وإما في جَلَبَة الحديث الذي يُحاول التغلب على الغصة. تُحكى قصص أصحاب الصور وتفاصيلهم في العيد، إنه استحضارٌ حنونٌ لظلال الأحبة، يَجبُرُ شيئًا من كسر القلب لحظةَ الاشتياق.

قبيل عيد الأضحى عام 2016، نجحت الأسيرات في الحصول على قالبٍ لكعك العيد من مطبخ سجن "هشارون"، واستطعن نقله بين الملابس من "هشارون" إلى "الدامون". كان الحصول على هذا القالب يخلق شعورًا بأن بهجةً إضافية استطعن انتزاعها لأنهن وأخيرًا سيصنعن كعك العيد، ورغم شح المواد إلا أنهن نجحن في صنع الكعك والابتهاج برائحته التي ملأت أرجاء القسم قبل العيد بيوم، وتم توزيعه في اليوم التالي.

يعتمد مطبخ الأسيرات على جهاز كهربائي اسمه المتداول "البلاطة"، وإعداد الكعك يأتي بأن توضع كل قطعةٍ في طنجرة صغيرة الحجم، تُقْلَب عليها البلاطة فتغلقها وتتركز الحرارة فيها لينضج الكعك

ولا يُخيَّلُ إليك عزيزي القارئ أن إعداد الكعك في السجن يتم كما في الخارج، فلا غاز ولا أفران. يعتمد مطبخ الأسيرات على جهاز كهربائي اسمه المتداول "البلاطة"، وهي قطعةٌ دائريةٌ من الحديد تسخن تدريجيًا حين وصلها بالكهرباء. وإعداد الكعك يأتي بأن توضع كل قطعةٍ في طنجرة صغيرة الحجم، تُقْلَب عليها البلاطة فتغلقها وتتركز الحرارة فيها لينضج الكعك، وهذه عمليةٌ تحتاج وقتاً طويلاً وتعاونًا في الإعداد.

إن هذه اللحظات هي التي قيل لأجلها "إن لذة العيش اختلاس". وربما لا أحد يدري أن قطعة بلاستيكية زهيدة الثمن في السوق، هُرِّبت بين سجنين وعدد من البوسطات كانت سرَّ بهجة عيد أكثر من 20 أسيرة منسياتٍ وراء أسوارٍ وأسلاكٍ ظلماتها وظُلْمها بعضها فوق بعض.

هذه القطعة التي ستُخَبَأُ من العيد إلى العيد ككنز وستظل سر بهجةٍ فيها شيءٌ من مرارٍ حتى يفرغ السجن ممن فيه، وتصير هذه القطعة ذكرى.

في عيد الفطر الماضي استطاعت الأسيرات انتزاع حقهن في الصلاة في الساحة، فصلين العيد في جماعةٍ وأقمن خطبة الصلاة. صادف أن كان يومها هو يوم زيارة الأهالي لهن، ما جعل للعيد اكتمالاً أقرب لمعجزةٍ تتجلى في ضحكة التئام الشمل، ولو لأقل من ساعة رغم كل القهر. وأقولُ "انتزاعًا"، لأن حياة السجن لا يمكن الحصول فيها على أي شيء مهما كان حقًا إنسانيًا بسيطًا إلا بشراسةٍ وطول مطالبةٍ ومواجهةٍ مع إدارة السجن.

قُبيل العيد، تنهمك الأسيرات في إعداد بعض المشغولات اليدوية لأهلهن كنوع من المعايدة عليهم، وإشعارهم بقربهن رغم البعد المفروض قسرًا وظلمًا، فتجدهن يحضرن ما أمكن من هدايا ويرسمن في خيالاتهن صورًا عذبة لفرح أهلهن بهذه الهدايا، وأحلامًا بقرب الحرية وتمام اللقاء دون غصةٍ ودمعٍ وحنينٍ.

يومًا ما ستحين ساعة الفرج، تعود حلوة لابنتها وعطايا لأهلها، و تصير الساحة خالية خلوًا كلنا نرجوه. تتحقق "كل عام وانتو بخير يا أهل الضفة الغربية" التي تظل الإذاعات تبثها خلال برامج تواصل الأهل مع أبنائهم وبناتهم في السجون. يصير العيد في "الدامون" ذكرى، وتقرُّ القلوب بعيدٍ في بهاء الحرية.


اقرأ/ي أيضًا: 

صور | هدايا الأسيرات.. فيضُ حُب وأمل حُرية

"زهرات" تحكي كيف تقضي الأسيرات القاصرات أيامهن

رسائل صغيرة كبيرة