01-سبتمبر-2019

انتهى المقال السابق "أكرم زعيتر.. بواكير قيامة البنادق" بالإشارة إلى النقلة النوعية التي أحدثها أكرم زعيتر في صحيفة مرآة الشرق وخطابه التحريضي فيها. لكن زعيتر الذي بدأت الأجهزة الأمنية الاستعمارية بمتابعة نشاطه الصحفي والسياسي، قرر أن يخطو خطوة عملية تتجاوز التحريض المكتوب.

اتخذ أكرم زعيتر خطوة عملية تتجاوز التحريض المكتوب، بينما كانت البلاد المستَعمرة تتابع محاكمات ثوار البراق

اتخذ زعيتر هذه الخطوة بينما كانت البلاد المستعمَرة تتابع محاكمات ثوار البراق، وتتابع إصدار أحكام الإعدام بحق العشرات من الفلسطينيين، وسوق شباب الأمة إلى ساحة الموت كالماشية، كما عبرّ زعيتر عن ذلك. كتب زعيتر يوم 5 نيسان/ إبريل 1930 افتتاحية قصيرة بعنوان "أحكام الموت"، جاء فيها:

"نحن الذين نشعر بالخطر الداهم يكاد يقضي علينا، ونرى البلاد موضوعة في حالات اقتصادية من شأنها إبادة الأكثرية العربية، نحن الذي نشاهد القوة تطرح شبابنا في السجون. أخذنا نحتقر الدنيا ونستهين بها. [.....] فننتظر من اللجنة التنفيذية أن تكون صريحة في معالجتها لهذا الموضوع، جريئة في حق الأمة على باطل خصومها، باسلة في أعمالها، ولله رجال إذا أرادوا أراد".

اقرأ/ي أيضًا: ثورة البراق.. حين قال الفلسطيني كلمته

لم تكن هذه خاتمة القول، وإنما قدم زعيتر في ذات الافتتاحية، مقولته لبرنامج عملي بعنوان "جيش الدفاع":

"شبعنا أقوالاً، نريد أعمالاً، هذا ما تردده الأفواه الآن. وقد اعتزم فريق من الشباب المخلصين أن يعملوا، فقرروا تأليف كتلة تسمى جيش الدفاع لها من اسمها ما يدل على مقاصدها تطوف فلسطين مدنها وقراها، لإيقاظ الروح الوطنية وهزها وللتبشير بمبدأ الاحتفاظ بالأراضي وتشجيع المصنوعات الوطنية وسنتفق على يوم البدء بزحفها[...]الوطن في خطر، فمن هو الذي يعمل ولا يقول ويقتحم الميدان غير هياب؟فلسطين تستنجد؟ فمن لها؟"

دوّن زعيتر في يومياته ليوم 9 نيسان/ إبريل 1930 بدء التفاعل مع فكرته، فأشار إلى أن الكثير من الشبان أخذوا بالكتابة له أو الوفود إلى إدارة مرآة الشرق ليعلنوا تطوعهم في جيش الدفاع، وفي يوم 12 نيسان/ إبريل أبرز زعيتر في صدر الصفحة الأولى من مرآة الشرق بعض أهداف الجيش، فأشار إلى أن غاية الغايات من الزحف ستكون التبشير بمبدأ الاحتفاظ بالأرض، وقد يبدأ العمل في منطقة طولكرم "التي امتلأت بالسماسرة الأنذال لأنه لن تبقى فلسطين لنا إذا ابتاع اليهود أراضيها".

وأبرز زعيتر بأن غايته الانتقال من التبجح بالأقوال الضخمة التي لا تجدي والمقالات الحماسية والخطب الرنانة والاحتجاجات الشديدة، إلى العمل ولو عملاً واحدًا، فكل ما سبق لا يكفي لإنقاذ أمة تبيع أراضي وطنها. فالأولى مجابهة الداء في موطنه، ومجابهة السماسرة بخيانتهم في عقر دارهم.

نشر زعيتر هذه الكلمات إلى جوار قصيدة "الفدائي" لشاعر فلسطيني كبير، سيكشف عنه لاحقًا -أي إبراهيم طوقان- في نشر تال للقصيدة في حزيران/ يونيو 1930، وسبق نشرها، نشره لقصائد ومقالات تهاجم عملية بيوع الأراضي عمومًا، وخصوصًا في منطقة طولكرم التي كشف بعض سماسرتها.

لكن لن يمضي مشروع زعيتر، إذ كانت أجهزة أمن الحكومة الاستعمارية بالمرصاد، فاستُدعِيَ زعيتر إلى دائرة الشرطة في القدس لمقابلة مدير المباحث الجنائية يوم 9 نيسان/ أبريل طالبًا المساعدة في تهدئة الحال والدعوة إلى السكينة، وهو ما لم يلتزم به زعيتر كما أورد الاقتباس السابق، ولم يكتف زعيتر بما كتب في الصحيفة، فخطب في المحتفلين بموسم النبي موسى لحظة وصول الموكب النابلسي، داعيًا للاستقلال واستمرار النضال لتحقيقه، ومسى بخطبة أخرى في نابلس أعاد فيها التأكيد على ما كتبه سابقًا: "يجب علينا نحن العرب أن نفهم جيدًا أن بليتنا من إنكلترا نفسها وأن الصهيونية قد وجدت عند الإنكليز لتمكينهم من بلادنا. أما أن الصهيونية عتلة أو فحل للرفع مقدمة إلى الإنكليز فصحيح أيضًا، ولكن هذه العتلة ستكون يومًا آلة لرفع الإنكليز أنفسهم".

استُدعِي زعيتر إلى دائرة الشرطة في القدس لمقابلة مدير المباحث الجنائية طالبًا المساعدة في تهدئة الحال والدعوة إلى السكينة، وهو ما لم يلتزم به زعيتر

صباح 11 نيسان/ إبريل 1930، صدر القرار باعتقال زعيتر، وكانت التهمة يوم المحاكمة، التحريض على الثورة، والعمل على خلق الاضطرابات، وكان دليل الادعاء مقالات زعيتر في مرآة الشرق، ودعوته لتأليف جيش الدفاع الذي فهمت المؤسسة الاستعمارية أنه دعوةٌ لتهييج الناس وحملهم على الثورة.

اقرأ/ي أيضًا: ذكر الرجال بحفظ تاريخهم: هامش على "الفدائي" لطوقان

شهد على زعيتر في هذه المحاكمة جاسوسٌ سريٌ محليٌ أوعزت إليه المؤسسة الاستعمارية اختراق جيش الدفاع، فتوجه إلى زعيتر طالبًا الاشتراك في الجيش، واعتبر كلام زعيتر له دليل إدانة إضافي. أبرزت هذه المحاكمة التي انتهت بصورة درامية دوّن تفاصيلها زعيتر في يومياته، وبحكم بالإقامة الجبرية لمدة عام، خشية الحكومة الاستعمارية من أي حراك قد يسهم في تحريك "الثورة"، والتأليب عليها، وسعيها لتوجيه ضرباتٍ مبكرةٍ واستباقية بالتعاون مع بعض المحليين لأي بذرةٍ ولأي فكرة مناهضة للمشروع الاستعماري، وتسخيرها للنظام الأمني والقانوني لوأد أي فكر أو نشاط ثوري.

أما لدى زعيتر، الذي ازدادت شعبيته وشاع صيته ولقي -كما عبَّر في يومياته- من التقدير ما هو أعظم بكثير مما لقي من اضطهاد، فالمكافأة فاقت التضحية. فكانت هذه المحاكمة كما يبدو عاملاً أساسيًا في تعزيز موقفه المنادي بضرورة الثورة المسلحة ضد المستعمر البريطاني، فدوّن زعيتر يوم 27 أيار/ مايو 1930، معلقًا على برقية رئيس اللجنة التنفيذية العربية موسى كاظم الحسيني، إلى الوفد الفلسطيني المتجه إلى لندن:

"إنني لم أر جديدًا فيما ورد في برقية كاظم باشا، لا يمكن أن نقنع الإنكليز بحقنا إلا بالتضحيات، والتضحيات، لا يمكن أن تكون عامة ومستمرة إن لم يتقدم الزعماء أنفسهم إلى ميدانها. تقول البرقية بأن شعبنا سيقاوم بكل ما لديه من قوة سلمية، فأية قوة سلمية هذه التي يمكن أن توصلنا إلى حكمها؟".

لم تنته نصوص زعيتر ولم تقف عند سجنه، فواصل الكتابة باسم مستعار، وكانت من أبرز نصوصه خلال هذه المرحلة ثلاثية بعنوان "صيحة بالمخلصين ودعوة للجهاد"

لم تنته نصوص زعيتر ولم تقف عند سجنه، فواصل الكتابة باسم مستعار، وكانت من أبرز نصوصه خلال هذه المرحلة ثلاثية بعنوان "صيحة بالمخلصين ودعوة للجهاد"، أكد في المقالة الثالثة منها التي نشرت في جريدة اليرموك يوم 10 تشرين الأول/ أكتوبر 1930 على ضرورة تأسيس التشكيلات المنظمة، داعيًا لتأسيس تشكيلات استقلالية صغيرة تسعى للاجتماع و"للتغلب على سياسة المضابط وتودع زمنًا تقدم للعمل فيه المتزعم، النفعي، الجبان، وتأخر فيه ذو المبدأ الذي لا يباري المتزعم في التكالب على تواقيع الناس".

ختم زعيتر هذه الدعوات التي أشارت إلى بواكير قناعات زعيتر بضرورة تأسيس تكتل وطني جديد متجاوز للقيادة المحلية، وساع للعمل الاستقلالي، وبهذا التقى زعيتر مع عدد من الشخصيات الفلسطينية الأخرى، فأعلن عن تشكيل حزب الاستقلال. 

ختم زعيتر مقالاته الثلاثة مستحضرًا قول الشاعر:

"أتلبسون ثياب الأمن ضافية   لا تفزعون وهذا الليث قد جمعا

فاقنوا جيادكم واحموا ذماركم   واستشعروا الصبر لا تستشعروا الجزعا

واشروا بلادكم في حرز أنفسكم   وحرز أهلكم لا تهلكوا هلعا

هيهات لا مال من زرع ولا إبل   يرجى لغابركم إن أنفكم جدعا

لا تثمروا المال للأعداء إنهم   إن يظهروا يحتووكم والبلاد معا

قوموا قيامًا على أمشاط أرجلكم   ثم افزعوا قد ينال الأمن من فزعا

هذا كتابي إليكم والنذير لكم   لمن رأى مثل ذا رأيًا ومن سمعا

فهل من سميع؟ وهل من مجيب، لقد جد الجد، وهذا أوان الشد، فهيا هيا للجهاد وحي على الخلاص".


اقرأ/ي أيضًا: 

موسم النبي موسى.. سيرة أمة مقاتلة

اغتيال عند باب الأسباط

13 صورة عن الحياة في فلسطين قبل القرن العشرين