21-سبتمبر-2021

4650 أسيرًا وأسيرةً بينهم 25 تعتقلهم "إسرائيل" قبل توقيع اتفاقيّة أوسلو

أثناء رحلة حريّته المنتزعة من سجن جلبوع، قصيرة المدة عظيمة الأثر، أكل محمود العارضة الفواكه التي اشتهاها طوال سنوات سجنه التي قاربت ربع قرن. في أوّل فرصة له بعد انبثاقه من النفق وإعادة اعتقاله، بعث برسالة لأمّه "يبشّرها" بأنّه أكل من خيرات البلاد، من التين والصبر والرمّان والجوافة. 

 "أبشّرك يا أمّي، لقد أكلت التين والصبر والرمّان والجوافة" من رسالة العارضة لأمّه بعد تحرره المؤقت من سجن جلبوع صيف 2021 

رسالة محمود العارضة لأمّه، لم تكن الوحيدة التي تدلل على اشتياق الأسرى للفاكهة في السجن، فقد دار حديث بين الأسير محمد العارضة مع أمّه هو الآخر أثناء زيارتها له في سجنه، حيث تلوّع قلبها لحديثه عن اشتياقه للفواكه. أخبرها يومًا أنّه هام حين رأى "دالية عنب" في إحدى عيادات السجن، وبلا وعي ركض نحو "الدالية" وبدأ يقطف ثمارها، ويلتهمها. أيقنت الأمّ حينها أنّ ابنها لم يأكل منذ زمن طويل البطيخ والعنب وأنواع أخرى من الفاكهة. 

مؤلم، حرمان الأسير من أصناف معيّنة من الفاكهة في سجون الاحتلال الإسرائيليّ، لكنّ هذا الحرمان "مؤلم أكثر" لدى الأسرى الذين يقضون أحكامًا طويلة بالسجن، وبعضهم شارف على إنهاء أربعة عقود، أسيرًا، كما تقول سلام أبو شرار، التي خاضت تجربة الاعتقال عدّة أشهر. وأكثر الفواكه التي أحدث غيابها ألمًا بالنسبة لها، كان البطيخ والعنب. فتقول إنها لم تكن تتخيّل صيفًا دون بطيخ، أمّا العنب، فقد سُمح للأسيرات (المحكومات) بشرائه على حسابهنّ الخاص، ولمرّة واحدة، وبالطبع بكميّة قليلة.

وعادةً، تسمح إدارة سجون الاحتلال الإسرائيليّ بحبّة فاكهة واحدة فقط للأسير/ة مع وجبة الغداء. الكثير من أصناف الفاكهة لا يُسمح بدخولها. وقد يتكرر الصنف المسموح بدخوله لمدة طويلة يوميًا، حتى "يطلع من روس الأسرى" مثل التفاح والأجاص وبعض أنواع الخوخ، كما تقول سلام لـ "الترا فلسطين".

أمضى عبد الله أبو شلبك عقدين في سجون الاحتلال، تحرر في "صفقة وفاء الأحرار" بين المقاومة والاحتلال عام 2011، وخلال مدّة سجنه كان شاهدًا على كثير من الأحداث والتغيّرات التي مرّت بها السجون والحركة الأسيرة. يقول إنّ الإنسان العاديّ يخوض صراعًا لتحسين ظروف حياته، لكن في داخل السجن فإن الصراع يُخاض لأجل أساسيات الحياة، فحبّة الفاكهة أو رغيف الخبز قد لا يعنيان شيئًا لمن هم خارج جدران السجن، لكنّهما يعنيان الكثير لمن هم خلف القضبان.

 في إحدى المرّات خاض الأسرى إضرابًا لتحسين الشوربة 

يشير "أبو شلبك" إلى أنّه ومع بداية تسعينيات القرن الماضي، كان كل شيء شحيحًا في السجون، حيث يعيش الأسير بالحد الأدنى، ودائمًا يشعر بالجوع وينتظر حضور الوجبة "أتذكر أنه في 1992 خاض الأسرى إضرابًا لتحسين الشوربة، بحيث تكون بالعدس بدل البيكيا التي تزرع للأغنام أساسًا".

في تلك السنوات (قبل توقيع اتفاقية أوسلو) يوضح "أبو شلبك" أن الأسير كان يحصل على طعامه من ثلاثة مصادر، الأوّل مقدّم من إدارة السجون، ويكاد يكفي الأسير للبقاء على قيد الحياة. أما المصدرين الآخرين فهما من خارج السجن، أحدهما من الغرف التجارية أو التجار في المدن الفلسطينية حيث كانت السجون في مدن الضفة، وقد يتضمّن في بعض الأحيان حلويات أو عنب أو بطيخ. أمّا المصدر الثالث فكان مما تصادره الجمارك الإسرائيلية -في حينه- مثل شاحنة خضار أو فواكه يتم جلبها إلى السجون.

لكنّ هذا الوضع تغيّر بعد نقل جميع سجون الاحتلال إلى الداخل الفلسطينيّ، وصار ما يدخل من طعام مقتصر على ما تسمح به إدارة السجون ويتمثّل في القائمة الأساسية من الوجبات مع حبّة فاكهة واحدة لكل أسير، من أصناف مثل التفاح أو البرتقال أو الكلمنتنيا أو الأجاص، وفي بعض الأحيان "الفرسمونا" أو ما تعرف بفاكهة "الكاكا".

 أصناف البطيخ والشمام والصبر والتين ممنوعة عن الأسرى غالبًا 

يقول أبو شلبك إنّه تحرر من الأسر وأصناف البطيخ والشمام والصبر والتين ممنوعة عن الأسرى الذين ظلوا يضعون هذه الأصناف وغيرها، وزيادة كمياتها، ضمن مطالبهم أثناء الإضرابات عن الطعام، وعلى نفقتهم الخاصّة، لكن إدارات السجون كانت ترفض وبقوة وكأنّ الأمر "مسألة قومية"، دون توضيح الأسباب.

وبحسب أسير تحرّر مؤخرًا بعد سنة ونصف في الاعتقال، فإنّ مصادر الطعام الحالية للأسير في السجون تتمثّل في "مطبخ الإدارة" ومنه تأتي الأصناف الأساسية من ألبان وجبنة صفراء، وخبز وبيض ولحوم وكميّات قليلة من الخضار، وبالطبع رديئة الجودة، أما المصدر الثاني فمما يتوفر في "كانتينا السجن" وهي أصناف يشتريها الأسير على حسابه الخاصّ، وأسعارها غالية الثمن، وتشمل (حليب، معلبات، مكسرات، عسل، مواد تنظيف، شفرات حلاقة، راديوهات، شوكلاتة، كورن فليكس، سميد، مشروبات ساخنة وباردة). ويتمثل المصدر الثالث في ما توفّره "هيئة الأسرى" وتتمكّن الفصائل من إدخاله للأسرى بالتنسيق مع إدارة السجون، من لحوم وبعض أصناف الفواكه التي تدخل بشكل استثنائي مرّة كل عام، فمثلًا تم خلال الشتاء إدخال "البطاطا الحلوة" للأسرى في "عوفر"، كما حظي أسرى "النقب" قبل سنوات بحبّة جوافة لكل منهم. أمّا التمر فهو متوفّر غالبًا لكن بسعر باهظ.

محمد عصفور أمضى هو الآخر عقدًا ونصف في السجون، يقول لـ "الترا فلسطين" إن "المونة" كانت تدخل أقسام الأسرى مرتين أسبوعيًا، ويدخل أربعة أصناف من الخضار (صندوقان من كل صنف) لنحو 120 أسيرًا في القسم، أمّا الفواكه فتدخل مع "المونة" غير أنها توزّع بشكل يومي فقط، وبمعدّل حبة لكل أسير، وبالطبع الأصناف الممنوعة أكثر من المسموحة، ويؤكد أنّ التين، والبطيخ، والأناناس، والجوافة، والفراولة، والصبر، والمانجا، والشمّام من الأصناف الممنوعة، باعتبار أن إدارة السجن تعتبرها "ترفيهية" فتحرم الأسرى منها.

بطيخ! يا ربّاه

"فرحة عارمة، وغير مسبوقة" يقول عصفور إنها كان شاهدًا عليها عام 2004، حين تم إدخال كميّة محدودة من البطيخ ولمرّة واحدة فقط إلى سجن بئر السبع، إذ حظيت كل غرفة (8 أسرى) ببطيختين، ويشير إلى أنّ الإدخال استثنائي للفاكهة، وتربطه الإدارة بحالة الهدوء.

وبالعودة إلى "سلام أبو شرار" فإنه وفي مرّات شحيحة، تحدث "مفاجآت" فمثلًا جرى إدخال الفواكه المجففة إلى "كانتينا" سجن "الدامون" ومنها المشمش المجفف، وفي حين آخر جرى إدخال المانجا، كان أمرًا غير مسبوق، استثمرت الأسيرات البذرة وصنعن الهدايا منها، وكتبن عليها عبارات تذكارية بعد تجفيفها، ليقدمنها بدورهن لأهاليهن أثناء الزيارة.

اشتياق الأسرى للفاكهة التي حُرموا منها طويلًا كان يلحظه عصفور كما يقول أيام الإضراب عن الطعام، أو حين تأتي لقطات للفواكه على التلفاز، فيبدأ الأسرى بالحديث عن أصنافها ويسترجعون قصصهم وذكرياتهم عنها ومعها.

"الفواكه غمد الذكريات"

ويلفت الأسير السابق فؤاد الخفّش الانتباه إلى أنّ ما توفّره "إسرائيل" للأسرى الفلسطينيين يتمثّل ببعض الفواكه الموسمية المزروعة لديها، وبالطبع بكميّات مكررة لبعض الأصناف، وشحيحة لأخرى، حيث يتواصل إدخال بعض الأصناف لعشرة أيام، وبعضها مرة كل عدة مواسم.

 الفواكه التي لا يتم إدخالها مشهورة لدى الفلاح الفلسطينيّ مثل التين والصبر والمشمش، يحبّها الفلسطيني ويتغنّى بها، وللأسير معها ذكريات 

ويشير إلى أنّ الفواكه التي لا يتم إدخالها تلك المشهورة لدى الفلاح الفلسطينيّ مثل التين والصبر والمشمش، وهي الفواكه التي يحبّها الفلسطيني ويتغنّى بها، وللأسير معها علاقة وذكريات، بالتالي فإنّه يشتاق لها، ويتذكرها حين يتحدّث مع أهله مثلًا ويخبرونه أنهم قطفوا ثمار التين اليوم، أو تناولوا العنب، تمامًا كما يحنّ الأسير لأكلات المسخّن أو المنسف أو المفتول أو السماقيّة التي يشتهر بها أهالي قطاع غزة.

ويروي الخفش أنّ أحد الأسرى كان يروي لهم دومًا قصصًا عن شجرة توت أمام منزله، وبالطبع التوت مما لا يتوفّر للأسرى، فكان دائمًا يحنّ لهذه الفاكهة التي تُذكّره بطفولته وعائلته وبيته.

تجدر الإشارة إلى أنه وحتّى نهاية آب/ اغسطس 2021 بلغ عدد الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال 4650 أسيرًا وأسيرةً يقبعون في 23 سجنًا، ومركز توقيف وتحقيق، بينهن 40 أسيرة في سجن "الدامون"، ونحو مئتي طفل وقاصر. وبين الأسرى 25 تعتقلهم "إسرائيل" قبل توقيع اتفاقيّة أوسلو، أقدمهم كريم وماهر يونس المعتقلان بشكلٍ متواصل منذ 38 سنة.

"اكلت صبر يمّة" جدارية رسمها فنانون على بيت عائلة الأسير محمود العارضة

اقرأ/ي أيضًا:

حلّاق في سجن مجدو

البوسطة وثلاث أمنيات لم تتحقق!

سامية وتمر بالعسل في سجن الدامون