22-أكتوبر-2018

حقيبة ملابس وأوراق ثبوتيه، إلى جانب بعضٍ من كعك القدس، كانت تلك زوادة المسافرين عبر خط "تاكسي السفريات الموحدة"، الذي يبدأ مشواره من أمام باب العامود في القدس المحتلة، باتجاه مجمع العبدلي في العاصمة الأردنية عمان، التي تعد نقطة استراحة للمسافرين، ومنها إلى العاصمة السورية دمشق، في وقتٍ لم يكن فيه لـ "الفيزا" مكانٌ بين الدول العربية.

"تاكسي السفريات الموحدة" قبل النكسة كان مشواره يبدأ من أمام باب العامود، ويستريح في عمّان، وينتهي في دمشق

بقيت أبواب الدول العربية مفتوحة للعرب أجمعين، حتى الوقت الذي انقضت فيه إسرائيل على ما تبقى من فلسطين، وانتزعت منها قلبها المتمثل بمدينة القدس، حيث احتلتها إلى جانب قطاع غزة وهضبة الجولان السوري المحتل، والجنوب اللبناني، وكذلك صحراء سيناء المصرية. حدث ذلك خلال نكسة عام 1967، ومع اشتداد وطأة الحرب، شُرّد الناس وهجروا من مدنهم وقرانهم، كما وخلفت الحرب دمارًا واسعًا طال كل شيء، ناهيك عن روح الانكسار التي تسللت إلى نفوس الشعوب العربية، وجعلتهم يفقدون الأمل بنصرٍ جديد.

[[{"fid":"75280","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":480,"width":640,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

دفع الخوف بالكثيرين في فلسطين لترك بيوتهم ومصدر رزقهم، وبعد انتهاء الحرب شرع الناس ممن تبقوا في فلسطين بتفقد آثار الدمار ، والسؤال عن أحوال الأقارب والمحبين.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا تنكر الفلسطينيون لـ"سفينة نوح"؟

انتهت الحرب وصارت فلسطين جميعها تحت الاحتلال الإسرائيلي، تغير كل شيء إلا أن شواهد الحرب لم تختف جميعها، ومما بقي منها مركبة من نوع مرسيدس 180 يعود طرازها للعام 1958، ألمانية الصنع، يعمل محركها على "الديزل"، وهي الوحيدة المتبقية في فلسطين من هذا النوع، وقد عثر عليها المواطن خالد أبو مؤمن من مدينة طولكرم قبل 10 سنوات، مركونة في أحد أدوية المدينة.

كانت السيارة ملقاة في واد قريب من أحد أحراش مدينة طولكرم، أتى عليها الصدأ والعفن، وأصبحت مقرًا للحيوانات والحشرات والأفاعي، التفت لها أبو مؤمن وقرر إحياءها بعد 51 عامًا من الإهمال.

[[{"fid":"75281","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"2":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":640,"width":480,"class":"media-element file-default","data-delta":"2"}}]]

يقول إنه عرضها على تجار الخردة وتجار المعادن، لكنهم رفضوا شرائها، أخبروه أنها كومة حديد مهترئ لا تصلح قطعها لشيء، فذهب إلى شخص آخر قال له إنها لا تساوي أكثر من 200 شيقل، أي ما يعادل 65 دولار . لكن أبو مؤمن لم ييأس، فهاتف أحد المهتمين بإعادة إحياء السيارات الكلاسيكية واسمه عمر السعدي، الذي بدوره اشتراها منه بـ20 ألف شيقل، أي ما يعادل (5700) دولار.

إحياء سيارة من "تاكسي السفريات الموحدة" عمرها 60 عامًا بعد أن سكنتها الحشرات والأفاعي في طولكرم

لم يُدخل السعدي تغيرات جوهرية على المركبة، فقد أبقى على محركها الأصلي بعد إعادة إحيائه. ورغم أن الهيكل القاعدي أو كما يطلق عليه عموم الناس "الشصي" كان متآكلاً، إلا أنه عمل على ترميمه وإعادته على شاكلته القديمة.

اقرأ/ي أيضًا: "حنتور" غزة.. لأنهم يحبون الحياة

يرى السعدي أن شراء المركبات القديمة والمحافظة عليها هو جزء من الأمانة والمحافظة على الزمن الماضي، فهي تعيد له ذكريات أيام الخير والبساطة، يوم كان يخرج المسافر صباحًا من القدس إلى دمشق ويعود مع حلول المساء.

استمرت رحلة إعادة المركبة إلى عهدها القديم نحو 5 أشهر، أُعيد بناء أبوابها وأجنحتها المدمرة، وكان يجب تغيير محركها، إلا أن السعدي أصر على إعادة تشغيل الموجود داخلها، فهو الوحيد في الشرق الأوسط، ومن الصعب العثور على محرك شبيهٍ له في هذا الزمن، كما يعتبرها ملكًا للمواطنين فقد كانت مركبة عمومية.

[[{"fid":"75282","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false},"type":"media","field_deltas":{"3":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":false,"field_file_image_title_text[und][0][value]":false}},"link_text":null,"attributes":{"height":480,"width":640,"class":"media-element file-default","data-delta":"3"}}]]

هذه المركبة ليست الوحيدة التي يملكها السعدي، ومسيرة إحياء المركبات القديمة بدأت معه منذ العام 1975، عندما أهداه جده وهو في عمر الخمس سنوات، مركبة من نوع مرسيدس؛ غيَّرت مسار حياته. ومنذ ذلك الوقت انغمر بهواية جمع السيارات القديمة ليتخذ مسارًا مختلفًا عن عائلته التي تعمل في تجارة اللحوم.

وبعد أن بلغ 14 عامًا، بدأ السعدي بجمع المركبات القديمة وإعادة إحيائها، واستطاع خلال 30 عامًا من العمل، إصلاح 40 مركبة كانت مملوكة لرجال أعمال وأطباء ومهندسين، كانوا يستقلونها من البلاد نحو الكويت وعمّان وبغداد والقاهرة وبيروت، كما أنه نجح في إنتاج مركبة تعمل على الطاقة الذاتية وh2o.

والسعدي واحدٌ من عدة أشخاص أسهموا في تصميم (باص47 ) الخاص بأحد البرامج التلفزيونية، حيث جرى من خلاله التعرف على طبيعة الحياة التي كانت تسود البلاد العربية قبل نكبة عام 1948، إذ أحضر إحدى المركبات القديمة وأزال منها محرك القاعدة "الشصي"، وقام بتصميم هيكلها الخارجي، مستخدمًا قناديل مضيئة من مخلفات الجيش البريطاني، وأضاف إليه خشب السويد والصنوبر والزيتون.

يعتبر السعدي عمله "إنقاذًا للتاريخ أولاً، فلهذه المقتنيات أصحابٌ تركوها مجبرين وهاجروا هربًا من الموت الذي أحاط بهم جراء العدوان الإسرائيلي. ولكلٍ من تلك المقتنيات حكاية وقصة يجب أن تروى للأجيال، فالتاريخ بشتى أشكاله يجب أن لا ينسى".


اقرأ/ي أيضًا:

قطار غزة - تل أبيب.. 45 عامًا على إخفاقه

سيارات تأجير غير صالحة للسير على الطرقات

فيديو | تصرفات تزعج السائقين.. هل تفعلونها؟