27-أغسطس-2020

مقال رأي |

من أبلغ التعبيرات التي نسمعها من مواطنين وصحفيين وطلبة جامعات في الفترة الأخيرة جملة مضمونها: "إذا بقول اللي ببالي بنحبس"!!، مصدر هذه البلاغة ليس في ذات الجملة فقط ولا بمن يقولها رغم أهمية ذلك بل بالفكرة التي أصبحت مزروعة في أذهان المواطنين بأن من يكتب أو يعبّر عما يجول بخاطره في حال كان على عكس توجهات السلطة الحاكمة ورجالاتها سيكون مصيره السجن والاعتقال. 

   80% من الصحافيين الفلسطينيين في المؤسسات الرسمية يمارسون الرقابة الذاتية على بعض أو معظم أعمالهم  

تتكثف الدلالة عندما تتعمّق بالحديث مع من يرددون الجملة أعلاه لتكتشف أن ما يقولونه لا يُفترض فعليًا أن يقود بهم إلى سجن أو إلى أي مساءلة. فكل ما لدى هؤلاء المواطنين الخائفين هو تعبيرات عامة وآراء في قضايا الشأن العام يمنح القانون الفلسطيني المواطنين الحق فيها، بل إن القانون على علاته يكفل ما هو أكثر من ذلك. فمن أين جاء هذا الاعتقاد المدمر والساذج معًا؟ وما أثر أن تسود مثل هكذا أفكار وتعبيرات قاتلة لروح أي مجتمع؟

تأديب.. وترهيب

أحد أبرز أسباب تلك الظاهرة هو حالة الجهل بالقوانين الفلسطينية على اختلافها، حيث نعاني ضعفًا كبيرًا في الثقافة القانونية لدى عموم المواطنين، وهو أمر امتد إلى بعض دارسي القانون أو من يمتهنون مجالات عمل يفترض أن يكون لهم دراية ومعرفة قانونية بها كالإعلاميين على سبيل المثال.

يضاف إلى ذلك ممارسات أجهزة الأمن الفلسطينية، حيث يرى المواطن ويسمع قصصًا كثيرة لنشطاء وإعلاميين تعرضوا للملاحقة الأمنية والقانونية بفعل التعبير عن مواقفهم السياسية والاجتماعية والدينية، وهي ملاحقات كثير منها غير قانوني، فبعضها لم تصمد أمام القضاء والبعض الآخر لم تصله أساسًا، وكان الغرض منها قمع الملاحقين وترهيبهم والتأثير في محيطهم، لتصبح هذه الحالات مصدرًا ومادة يقاس عليها في مواقف المواطنين ووجهات نظرهم المرغوب في التعبير عنها. فلعبت دورًا كبيرًا في عملية الترهيب.

هنا لن نتحدث عن حملات التشويه و"التحفيل" التي قد تمارس بحق بعض النشطاء، وهو ما أصبحنا نرصده على شبكات التواصل الاجتماعي من خلال حسابات مزيفة وأخرى حقيقية. ويبدو جليًا أن هناك جهات أمنية أو حزبية أو جهات تمثل تزاوجًا بين الأمني والحزبي تقف خلفها.

  الإجراءات الأمنية "غير القانونية" تشجّع مواطنين أو عائلات أو فئات اجتماعية أو حزبية على ممارسة أفعال تقمع الحريات   

ما يهمنا هنا هو الحديث عن الأثر الذي يترتب على هذا السلوك الذي أصبح ظاهرة ماثلة للجميع، حيث نادرًا ما يمر شهر من دون أن نشهد حالة أو أكثر من الملاحقات الأمنية والقانونية بحق نشطاء وإعلاميين ومعارضين، والتي يبدو أن الهدف منها هو التأديب والترهيب. 

خطورة الإجراءات الأمنية "غير القانونية" ليس فقط في تكريس ثنائية التأديب أو الترهيب، بل في كونها تشجّع مواطنين أو عائلات أو فئات اجتماعية أو حزبية على ممارسة أفعال وتصرفات تقمع الحريات وتضعف مظاهر التعبير عن الرأي، وهو أمر أصبحنا نلحظ تجذره في المجتمع، ويعد أخطر، وتأثيره أعمق من ممارسات الأجهزة الأمنية.

قتل روح المجتمع

أما فيما يتعلق بأثر الخوف من التعبير عن الرأي فنمو "الرقابة الذاتية" Self-censorship مظهر دال عليه، والتي تعني أن تكون أنت من تراقب نفسك وتحاصرها وتفتك بها وتمنعها من ممارسة حقها في التعبير في قضايا الشأن العام، وهي المشاركة التي إذا ما تراجعت وضعفت ستكون قاتلة لروح أي مجتمع حر، فكيف والحال مع مجتمع محتل؟!

صحيح أن الرقابة الذاتية كمصطلح معرفي مرتبط بالحقل الإعلامي حيث يعني في إحدى تعريفاته "تجنب الإعلامي الكتابة في أمور جدلية أو إشكالية لاعتقاده أنها تخالف القانون، أو بسبب خوفه من التعرض للمضايقات والتهديد، أو بسبب سياسة بعض المؤسسات الصحفية". لكن مع تنامي الحضور التكنولوجي وارتفاع قدرة الوصول والتعبير للمواطنين من خلال شبكات التواصل الاجتماعي نرى أن هذا الأمر امتد وطال مجمل المواطنين في ضوء أنهم يمتلكون منصة أو وسيلة للتعبير عن مواقفهم ووجهات نظرهم. وبالتالي تمدد هذا المصطلح وشمل مجمل أفراد المجتمع العاقلين الذين يشكل تفاعلهم عليها بيئة صحية لتشكل الرأي العام المعبر عن المصلحة العامة أو القول الأكثر رجحانا وبرهانًا. 

الرقابة الذاتية التي تعتبر من أخطر اشكال الرقابة التي يعمل الإعلاميون في ظلها، والتي تعود جذورها إلى سنوات الاحتلال واستمرت بعد قيام السلطة الفلسطينية، وتعززت بشكل كبير بعد الانقسام سنة 2007، حيث الممارسات والانتهاكات وإشاعة الخوف في نفوس الصحفيين أصبحت سمة سائدة تلقي بظلالها على مجمل ما ينتجه الصحفيون يوميًا. 

    نعاني ضعفًا كبيرًا في الثقافة القانونية لدى عموم المواطنين  

يحظر القانون الفلسطيني الرقابة على وسائل الإعلام قبليًا، لكن ممارسات الرقابة البعدية بمستوياتها المختلفة أصبحت سائدة وذات تأثير ثقيل في بيئة العمل الصحفي، وهو ما ضاعف من "الرقابة الذاتية" التي تكرست مع ارتفاع مستوى الرقابة والقمع المجتمعيين، في ضوء ضعف سيادة القانون.

المستوى الرقابي الذاتي يتناقض مع المعايير المهنية التي على الصحفي الالتزام بها أثناء ممارساته المهنية، رغم أن البعض يخلط بينهما جهلًا، كما أنه يختلف عن مدونات السلوك والمعايير الأخلاقية التي أصبح من واجب المواطنين الالتزام بها أثناء تعبيراتهم عن مواقفهم ووجهات نظرهم على شبكة الإنترنت.

أحدث الدراسات في هذا المجال أشارت إلى أن 80% من الصحافيين الفلسطينيين في المؤسسات الرسمية يمارسون الرقابة الذاتية على بعض أو معظم أعمالهم وإنتاجهم الصحفي.

تتضاعف الرقابة الذاتية في مختلف المجالات مع تطبيق سياسة "الإفلات من العقاب" على الجرائم التي ترتكب بحق وسائل الإعلام أو المواطنين الذين يمارسون ما يكفله القانون لهم. والأمثلة على ذلك كثيرة جدًا وتكشفها التقارير السنوية للمؤسسات الحقوقية والإعلامية، علمًا أن تجمعات ومؤسسات مهنية ونقابات تتورط في تكريس الإفلات من العقوبة.

 تبقى الصعوبة كبيرة في إقناع من يرددون جملة "إذا بقول اللي ببالي بنحبس" بأن القانون يضمن لهم قول ما يريدون من دون أن يُسجنوا، وفي حال سُجنوا فلن يكون ذلك السجن قانونيًا 

أخيرًا، تبقى الصعوبة كبيرة في إقناع من يرددون جملة "إذا بقول اللي ببالي بنحبس" بأن القانون يضمن لهم قول ما يريدون من دون أن يُسجنوا، وفي حال سُجنوا فلن يكون ذلك السجن قانونيًا.. وهي ذات الصعوبة، وربما أكبر، في إقناعهم بجملة الرئيس محمود عباس الذي قال ذات مرة أن "الحرية سقفها السماء"، فلن يصدق المواطن الجملة أو الشعار الدعائي، طالما ما تخطّه الإجراءات الأمنية وبعض الممارسات القانونية على الأرض نقيض ذلك تمامًا.

الجملة الرئاسية التي قيلت في لحظة اندفاع وحماس، لم تتأرجح بفعل ظرف سياسي أو تطور ميداني، بل انقلبت رأسًا على عقب، فجلست "الرقابة الذاتية" مكان مفردة "الحرية" لتصل سقف السماء في دلالة حضورها اللحظي، وعمق توغلها في كل تفاصيل حياتنا.


اقرأ/ي أيضًا:

وهم الحرية!

"إثارة النعرات الطائفية" تهمة فلسطينية بلا مواصفات

اعتقالات تعسّفية باسم الشعب العربي الفلسطيني