21-نوفمبر-2018

يتحرك رائد أبو عودة (36 عامًا) في بحر غزة بحذرٍ شديد، فأي مغامرة قد تعني اعتقاله وبالتالي تحويله لقضاء 6 سنواتٍ في سجون الاحتلال، استنادًا إلى حكمٍ غيابيٍ علِم به بعد احتجاز مركب الصيد الخاص به عندما كان أبناء عمومته يستخدمونه بحثًا عن رزقهم.

أبو عودة من مدينة غزة، يعمل صيادًا منذ سنة 1994، لا يذكر أيامًا أصعب على الصيادين في قطاع غزة من السنوات العشر الأخيرة، "فالصياد أصبح يخاطر بروحه من أجل لقمة عيش أطفاله"، دون أن ينسى أنه تعرض للاعتقال سابقًا، وتم احتجاز مركبه الذي تعتاش منه 50 عائلة، هذا قبل أن يعلم لاحقًا بأنه أصبح مطلوبًا للاعتقال.

"نحن نلعب معهم لعبة القط والفأر لساعتين أحيانًا قبل اعتقالنا، وقد ننجح بالهروب"

يقول أبو عودة: "الاحتلال يتفنن في الضغط على الصيادين وخنقنا بإجراءاته التعسفية، ومنها ملاحقتنا داخل البحر حتى لم نعد قادرين على الصيد لتوفير قوت يومنا وتغطية تكاليف المركب والوقود".

اقرأ/ي أيضًا: صيادو غزة: كان ناقصنا أسماك سامة

ويُبين أبو عودة أن اعتقال الصيادين لا يتم بسهولة، "فنحن نلعب معهم لعبة القط والفأر لساعتين أحيانًا، والشرطة البحرية تطلق النار عليها حتى يتم الإمساك بنا واعتقالنا".

"احتجاز مراكبنا يعني سلبُ أرواحنا"

لا تكاد تمرُّ أيامٌ دون اعتقال صيادٍ أو أكثر ومصادرة مركبته، أغلب المعتقلين يتم الإفراج عنهم لاحقًا، وآخرون يُنقلون إلى سجون الاحتلال. لكن ما الذي يحدث مع الصياد قبل الإفراج عنه؟ يشرح أبو عودة ما يحدث مبينًا أنهم يخضعون لتحقيقٍ مكثفٍ يبدأ بأسئلةٍ عن حياة الشخص واسمه وعمره وسكنه وعائلته، إضافة لأسئلةٍ أخرى عن غزة وما يحدث فيها.

يقول: "عندما يسألني عن ما يحدث في غزة لا أجيب إلا بأنني صياد أمارس عملي فقط ولا أهتم بباقي الأمور. بالطبع الاحتلال يستخدم العنف اللفظي، يشتم بمختلف الألفاظ، ولكنني لا أهتم له كثيرًا لأني لا أفهم مايقول بشكل كامل وأتركه يشتم ويهدد ويتوعد".

احتجاز مراكب الصيادين الغزيين أمرٌ مأساويٌ لعشرات الأسر التي تعتاش من خلالها

ويُضيف أبو عودة، "بعد انتهاء التحقيق والشعور بالملل مني يبدأ المحققون بوضع شروطٍ وقيودٍ من أجل إطلاق سراحي، أهمها أن أعمل لصالحهم والتخابر معهم. بالطبع لأنني ناضج وأفهم مايريدون ولا أخاف من تهديداتهم أوافق على طلبهم كتسهيل لعملية إطلاق سراحي، ولكن بعد دخولي معبر بيت حانون أنسى ما طُلِبَ مني ولا أهتم لأمرهم وأكمل حياتي بشكل طبيعي وكأن شيئًا لم يحدث".

اقرأ/ي أيضًا: صانعوا قوارب الصيد.. ملوك بلا عروش

أكثرُ ما يثير قلق الصياد عند اعتقاله هو مصير مركبه، فاحتجازه -كما يقول رائد- "أمرٌ مأساوي لعشرات الأسر التي تعتاش من خلاله"، وهو ما لمسه رائد ذاته عندما تم احتجاز مركبة لستة أشهر، ففي تلك المرحلة "الأصعب في حياته" اضطُر رائد للعمل بمراكب أخرى، "لم تكُن اليومية كافية لمصاريف أسرتي المكونة من ستة أفراد، فإذا تم إتلاف أو حجز المركب كأنه أخذ روحنا وقتلنا بدون رصاص" وفق تعبيره.

"الموت أو المجهول.. أو خسائر اقتصادية"

إسلام الهبيل (27 عامًا) من منطقة السودانية، أبٌ لثلاثة أطفال، ويعمل صيادًا منذ كان ابن 10 سنوات، ولذلك يقول إنه "تربى في البحر، وكان شاهدًا على تغيرات سياسة الاحتلال مع الصيادين، وفرض عقوبات ومضايقات كثيرة عليهم".

يروي الهبيل أن الشرطة البحرية الإسرائيلية تُطلق النار باتجاه قارب الصيد "الحسكة" وتُطالبهم بتسليم أنفسهم أو إغراق "الحسكة"، وهنا يكون على الصياد الاختيار بين الهرب مُغامرًا بروحه ومصدر رزقه، أو تسليم نفسه للمجهول.

ويضيف الهبيل، "بعد الاعتقال كل صياد هو ونصيبه، إما يكمل ليلة ويخرج في الصباح، أو يومين، ومن الممكن أن تطول فترة الاعتقال إذا كان مطلوبًا للاحتلال. لكن عادة ما يجري معي ترهيب وتخويف وتهديد للضغط علي من أجل العمل معهم، وإن لم يكن الصياد ناضجًا ويتفهم أغراض الاحتلال سوف يقع في فخهم ويعمل لصالحهم بسبب سياسة الترهيب الذي يستخدمونها خلال التحقيق".

تعنيف لفظي وجسدي خلال التحقيق مع صيادي غزة، وابتزاز لمحاولة تشغيلهم كعملاء

ويُبين الهبيل أن تيار البحر سحب شبكة الصيد الخاصة به لما بعد المسافة المسموح الصيد بها بعدة أمتار، فأطلقت الشرطة البحرية الرصاص نحوه، ما اضطُره إلى قص الشباك والاستنغناء عنه من أجل العودة سالمًا مع قاربه إلى الميناء. كانت نتيجة ذلك خسارة بقيمة أربعة آلاف شيكل، لكنها بالنسبة له أقل سوءًا من أن يخسر روحه أو "الحسكة" أو يتعرض للاعتقال.

تضحيات متتالية من أجل مهنة الصيد

أحمد الهسي (50 عامًا) من مدينة غزة، يعمل منذ أكثر من 40 عامًا في البحر، وهو ابن عائلة خسرت الكثير ماديًا وبشريًا في إطار عملها بمهنة الصيد، لكنها لا زالت متمسكة بها حتى اليوم.

يُبين الهسي أن الاعتقال يتم عادة في ساعات متأخرة من الليل، إذ يقترب "الطراد" الإسرائيلي نحو المركب، ثم يطلق النار حتى يتوقف المركب ويعتقل بعض الصيادين ويترك البقية يعودون بالمركب، أو يعتقل الجميع ويحتجز المركب أيضًا، في رحلة تستمر حتى الفجر أو حتى مساء اليوم التالي.

ويوضح الهسي أن الصيادين يتعرضون لتعنيف لفظي قد يتطور إلى الضرب، لكنه يرى أن أصعب مرحلة في الاعتقال هي بدايتها عند الملاحقة ثم إطلاق النار، قبل اقتياد الصيادين إلى التحقيق.

وتوثق نقابة الصيادين يوميًا أسماء صيادين يتم اعتقالهم ومراكب يحتجزها الاحتلال، وفق ما أفادنا به نزار عياش نقيب الصيادين، مبينًا أن الصيادين بعد اعتقالهم يُنقلون إلى ميناء أسدود ثم إلى المخابرات في معبر بيت حانون، وهناك يتم إخضاعهم للتحقيق، "ويكون على الصياد الحذر أثناء الإجابة حتى لا يقع في خطأ تحت تأثير الخوف والترهيب".

ويضيف عياش أن الكثير من الصيادين يتكرر اعتقالهم أكثر من مرة، تحديدًا أولئك الذين يصطادون على "حسكة" صغيرة ولا يستطيعون الهرب من الزوارق البحرية، مضيفًا أن الأجهزة الأمنية بغزة تتابع مع الصيادين الذين يتم اعتقالهم لمعرفة ما حدث معهم.

يُشار إلى أن تقليص مساحة الصيد من قبل سلطات الاحتلال أدى إلى عجزهم عن صيد أنواعٍ كثيرة من السمك، وكذلك تراجع كميات السمك الذي يصيدونه واقتصارها على أنواعٍ محددة، حتى أصبحت نسبة 85% من الصيادين تحت مستوى الفقر، وفق ما أفادنا به النقيب عياش.


اقرأ/ي أيضًا: 

صيادون غزيون يهجرون مراكب الصيد إلى المراكب السياحية

كيف يصبح السمك الفاسد طازجًا في غزة؟

إسماعيل الفصيح.. رائحة بحر يافا في بحر غزة