21-يونيو-2021

Majdi Fathi/ Getty

مقال رأي |

مهما تعددت أشكاله وظواهره يظل ممكنًا ردّ كل خلاف سياسي فلسطيني داخلي إلى مسألة "التمثيل والاعتراف". وكلما غابت هذه المسألة عن ظاهر السجال الداخلي وتراشق الفرقاء في الوسائط الإعلامية، تعود في نهاية المشهد لتؤكد موضعها بصفتها المعضلة السياسية الأهم والأبرز، بل تتأكد حقيقة أنها محرّك وغاية الفاعلية السياسية عند الفصائل والحركات الفلسطينية جميعها.

 ما الذي اختلف اليوم في الممارسة السياسية عند فتح وحماس في خلافهما الطاحن على موضوع الاعتراف والتمثيل؟ 

إن المقابل الذي حصلت عليه منظمة التحرير من أوسلو كان باختصار "الاعتراف" بها "ممثلة" للشعب الفلسطيني، اعتراف من "إسرائيل" يعكس اعترافًا دوليًا بها. وبعد هذه السنوات من أوسلو لا يجد المتنصلون منها، وهي مشروعهم، بقيّة باقية من الاتفاقية لتسويقها أو تسويق ما نتج عنها كمكسب فلسطيني في سياق تاريخي، إلا هذا "الاعتراف" الدولي.

ما الذي اختلف اليوم في الممارسة السياسية عند فتح وحماس في خلافهما الطاحن على موضوع الاعتراف والتمثيل؟ حصل قلب، أو تطوّر علاقة باتجاهين بين "الاعتراف" و"التمثيل". منطق فتح بصفتها الأغلبية في المنظمة، أو الحركة التي اتّسعت حتى ملأت المنظمة، أو ضيّقت المنظمة على حجمها، أنها "تمثّل" الفلسطينيين في الشتات والداخل والثورة، ولذلك جاء "الاعتراف" بها وبهذا التمثيل. وحين تحاول حماس اليوم، أو منذ الانتفاضة الثانية عمليًا، استخدام هذا المنطق، والقول إنها "تمثّل" قطاعًا واسعًا من الفلسطينيين، أغلبية طفيفة أو قريبًا منها، وهذا ما يستتبع ضرورة "الاعتراف" بهذا التمثيل داخليًا وفي المنظمة ومن العالم. 

هذا المنطق أو محاولة حماس تكرار مسار فتح، مع الاستعانة برصيدها في التجارب الانتخابية الشحيحة فلسطينيًا، وبرصيد "التضحيات" الذي لا يخلو خطاب سياسي فلسطيني من ذكره، وصولًا إلى فجاجة تعداد الأرقام من شهداء وأسرى، هذا المنطق وفي ظل رفض الوصول إلى آليات تقرر أو تحسم "حجم التمثيل" لكل فصيل فلسطيني، وعلى رأسها الانتخابات، تعرّض لعملية قلب أو تطوّر لعلاقة باتجاهين بين ثنائية "التمثيل والاعتراف".

صار ثمة اشتراط لـ"اعتراف" داخلي بالمنظمة وبرنامجها لقبول "التمثيل" فيها، ثم اشتراط "الاعتراف" الدولي أو القبول الدولي كمدخل لـ"التمثيل" في المنظمة والسلطة. بمعنى أن رأس مال هذا الكيان السياسي هو الاعتراف الدولي به ممثلًا للفلسطينيين، وليس تمثيله للفلسطينيين الذي أفضى للاعتراف به دوليًا. بل وصار الاعتراف بهذا الكيان هو ما يثبت تمثيله للفلسطينيين، في ظل تغييب أي آليات ديمقراطية لفحص هذا التمثيل. هذا القلب الواعي والمدروس والمحمي من طرف تشكيلة المنظمة الحالية، أنتج بنية راسخة للانقسام والخلاف الفلسطيني، ويشرّع الباب لممارسة سياسية خطيرة تستند إلى منطقه نفسه.

يمكن أن يرى كثيرون أن زيارة إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحماس إلى المغرب، دعوة من حزب إسلامي يريد مصالحة قواعده بعد توقيع رئيس وزراء منه على اتفاق تطبيع، ويمكن اعتبار الأمر استمرارًا للتواصل مع "الشعوب العربية والإسلامية الحيّة" كما تحب حماس أن تقول. ولكن لا يمكن إنكار أن هذا الحراك السياسي فيه دوافع وإشارات على مسألة "التمثيل"، هذا الاستقبال من دول رسمية، يقول إن هذه الدول لا تتعاطف أو تتضامن، بل تعمل سياسيًا مع حماس، أو ببساطة تعترف بها ممثلًا لفلسطينيين على الأقل، لا الفلسطينيين كلهم. ومن البدهي استنتاج أنّ استمرار الاستعصاء في مسألة التمثيل والاعتراف داخليًا وضمن ما يعرف بـ"البيت الفلسطيني" ستفضي إلى مزيد من هذه التحرّكات الساعية للاعتراف السياسي، الذي يضمر الاعتراف بالتمثيل.

 قد يتطور الانقسام بين غزة والضفة إلى انقسام في التمثيل السياسي، ما يعني خسارة مستمرة للطرفين، وتآكلًا للاعتراف الذي صار أهم من التمثيل لفتح والسلطة 

بالنظر إلى السياق التاريخي لهذه الثنائية، يمكن أن ترى فتح في ما يجري تهديدًا، ولعلّها تراه وتتحرك ضدّه، ولكن الأهم أن يرى الفلسطينيون خطورة هذا القلب للعلاقة، وجعل تمثيل الفلسطينيين محددًا بالاعتراف من دول في الإقليم أو ما يسمى المجتمع الدولي. ليس جديدًا استخدام هذا الاعتراف ضد مصالح الفلسطينيين الوطنية، وفي سبيل استدامة خلافاتهم أو وضعهم في توازنات تتعلق بالمعترِف أكثر من المعترَف به. خاصة مع سهولة الادّعاء بحجم التمثيل دون توفّر طريقة لقياسه. يكفي للتدليل على الأمر التمعّن في خطاب الاستحقاق والتمثيل عند أحزاب وفصائل وجبهات فلسطينية منعدمة الفاعلية سياسيًا ولا يكاد الفلسطينيون يعرفون شيئًا عن "نضالها" في زمنهم الواقع هذا، هذا الخطاب المستمد من حقيقة كونها جزءًا ولو بمقعد أو مقعدين في تشكيلة منظمة التحرير المعترف بها دوليًا ممثلًا للفلسطينيين.

لقد تنبّهت حراكات ونشطاء شباب لمسألة التمثيل والاعتراف من بدايات الانقسام الفلسطيني، ونظمت احتجاجات ومسارًا متصاعدًا من التظاهر والعمل السياسي والشعبي لتأكيد مركزية هذه القضية، واقترحوا انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني في كل نقاط تواجد الفلسطينيين، كمدخل للخروج من انقسام الفصيلين الأكبرين، ولفترة غير يسيرة صار هذا المطلب شعبيًا. ولكن إجهاضًا مستمرًا لأي تطور باتجاه تحقيقه كان استراتيجية السلطة، وتأزيمًا لمسألة الاعتراف والتمثيل، وصولًا إلى ما نشهده اليوم. يلتقي كل فصيل مع من يعترف به أكثر مما يلتقيان. وإن استمر الأمر على حاله، سيتطور الانقسام في السلطة بين غزة والضفة إلى انقسام في التمثيل السياسي، وإن كان يمكن التعايش مع انقسام السلطة، وهذا حاصل منذ سنوات، لا يمكن التعايش مع انقسام في التمثيل، وسيعني خسارة مستمرة للطرفين وتآكلًا للاعتراف الذي صار أهم من التمثيل لفتح والسلطة.

هذا المسار أفضى لخفوت هذه الدعوات والجهد الشبابي لحسم مسألة التمثيل، ويقع خلط مؤخرا بين الاحتجاج على الحركات والفصائل الفلسطينية وقيادتها، وفكرة التمثيل نفسها وضرورة وجود فاعلين سياسيين ممثلين لنضال الفلسطينيين. ففي الانتفاض الأخير في كل فلسطين يبرز الحديث عن قدرة الشعب على تنظيم نفسه بعيدًا عن الكيانات التقليدية، ولكن هذه الدعوة يجب ألا تغفل أهمية وجود فاعل سياسي يعبّر عمّا يريده الناس، وبتعبير أدق "يمثّلهم". فغياب هذا التمثيل ممن يستحقونه يعني أن يدعيه آخرون لا يستحقونه.

إن الاعتراف الإسرائيلي والأميركي يناسب سلطة محدودة الصلاحيات ملحقة بالاحتلال، ولا يصلح مع "منظمة تحرير"، هذا يحتاج اعترافًا من الفلسطينيين في كل مكان بتمثيلهم، ثم اعترافًا من كل الكيانات السياسية المناصرة للحق الفلسطيني وعدالته حول العالم. وفي الجهة المقابلة، تبدو مخاطر التعويل على اعتراف دول هنا أو هناك بحماس ممثلًا للفلسطينيين أو المشاركة في مشهدية الضغط على فتح للإقرار بالتمثيل، بوابة للعب سياسي من نظم لها غاياتها، ومن المحبط وربما المهين أن يكون الأمر مجرد دعاية سياسية لكسب جولة انتخابات للبقاء في حكم لمن لم يمنع وجودهم في الحكم أصلًا، تعطيل اتفاق تطبيع.


اقرأ/ي أيضًا:

أنا أونلاين إذًا أنا موجود