25-نوفمبر-2017

بعد مضي 8 ساعات على "رحلة البوسطة" في حافلتها الكئيبة، بدأت عظام جسدي بالتيبّس ويداي بالتورّم، ورجلاي بالانتفاخ بسبب الكلبشات اللعينة. الحديد يُحيط بي من كلّ جانب، عن يميني وشمالي، من فوقي ومن تحتي، من أمامي ومن خلفي، عبثًا أحاول النوم فلا أقدر، أفتّش عن سِنة فلا أجدها، أبحث عن غفوة فلا استطيع الوصول إليها، رغم تغيير وضعيّة الجلوس عدة مرات.

 معاناة الساعات التي يقضيها الأسير في "حافلة البوسطة"، تجعله يتمنى امتلاك مصباح علاء الدين السحريّ، ليحقق له ثلاث أمنيات!

مع مرور الوقت بدأت معدتي بالزوفان ورأسي بالدوران وعيناي بالزوغان بسبب المطبات الأرضية والاستدارة الفجائية على المنعطفات الحادة والتوقّف المفاجئ الذي كان يترافق مع ارتطام رأسي بحافة المقعد الأماميّ، أو بالسقوط من الجنب على أرضية الحافلة، عمودي الفقري كان بالتأكيد أكثر المتضررين والشاكين، كنت أسمع طقطقته بين الفترة والأخرى.

في هذه الحالة كنت أتمنى لو أني أمتلك مصباح علاء الدين السحري ليحقق لي مارده السجين مثلي، واحدة من ثلاث أمنيات: لو أني أستطيع النوم واقفًا كالطيور، أو أنّ مؤخرتي تصبح أعرض كي تمتصّ بعضًا من وزني (قيل إنّ الدهون تضر بالصحة، أعترف أنّي كنت أحسد الأسرى أصحاب المؤخّرات الكبيرة، كانت أشبه بالمخدّات المتنقلة) أمّا الثالثة؛ فتمنيت لو أنّي أستطيع فكّ الكلبشات بسلك معدنيّ صغير كما يفعل الأبطال في الأفلام السينمائية.

حاولت ذلك عدّة مرات لكن كاتب السيناريو والمخرج لم يساعداني، هذه العملية لن تكون بغرض الهروب قطعًا فهذا ضرب من الخيال والجنون، ولكن حتى أتمكّن من حماية نفسي من الوقع والارتطام. أمعنت النظر في الكلبشات الحديدة الفضية التي كانت تحيط بمعصمي وقدماي، كان محفور عليها بالإنجليزية (made in britain ) أيّ أنه مصنوع في بريطانيا، زاد ذلك من انزعاجي، فيبدو أنّ المملكة التي كانت لا تغيب عنها الشمس، تأبى إلّا أن تترك بصمتها على أيدينا، فهي لم تكتف بوعد بلفور ولا بعشرات السجون والزنازين التي وزّعتها في بلادنا، ولا بالسياسيات التي مارستها خلال فترة احتلالها السوداء، وتصرُّ على تذكيرنا بها، قيّدت بلادنا بالمستوطنات والقوانين العنصرية فيما مضى، واليوم تقيّد أيدينا وأرجلنا.

اقرأ/ي أيضًا: راجع إلى حيفا..

في البوسطة يُجبر الأسرى على الاستعانة ببعضهم والتعاون فيما بينهم بغض النظر عن انتمائهم السياسيّ ومستواهم الاجتماعي ودخلهم الماليّ، فالكل في المحنة سواء، فقيود القدمين والرجلين تحولان الأسير إلى شخص عاجز لا يقوى على فعل كل شيء لوحده، ففتح سحّاب السترة أو غطاء زجاجة الماء أو ظرف الطعام أو إخراج منديل ورقيّ من الجيب أو رفع البنطال، كلها بحاجة لمساعدة أسير آخر، وكذا محاولة النوم لا تتم إلا بعد أن يضع الأسير رأسه على كتف زميله، في حين كان الأسرى يُضطرون للسير معًا ويُجبرون على تنسيق خطواتهم عندما يقيّدون بنفس الكلبشات لأنّ تأخر أو استعجال أحدهم يعني وقوع الآخر وتعثّره.

الجلوس إلى جانب الشبّاك في حافلة البوسطة بمثابة "غنيمة"، فبذلك يتمكّن الأسير من مشاهدة المناظر على جانبي الطريق في الأرض المحتلة

غالبًا، كنت أجلس في مقعد الحافلة الأوّل ما استطعت إلى ذلك سبيلا، حتى أتمكن من مشاهدة المناظر على جانبي الطريق من خلال فتحات دائرية صغيرة بحجم حبة الحمص، كانت توجع العينين حال أطلتُ النظر من خلالها، فيما كان جنود "النحشون: وحدة إسرائيلية لإدارة السجون" يجلسون على مقاعد أخرى وافرة ومنفصلة عنّا بباب حديدي داخليّ في مشهد غير مستغرب على دولة عنصرية. ينشغل الجنود عادة بتنظيف أسلحتهم ونظّاراتهم الشمسية العريضة وتناول الشوكلا وشطائر "الجاتوه" وشرب الكولا والمياه الباردة، بعد ذلك كانوا ينتقلون للتحديق في هواتفهم الخلوية لعبًا تارة والتحدّث مع عشيقاتهم عبر الواتس أب والتقاط صور السلفي وهم يجلسون فوق حقائبنا وأكياسنا تارة أخرى، ثم بعد ذلك كانوا يغطّون في نوم عميق.

اقرأ/ي أيضًا: الشتاء يقرع أبواب السجون: بردٌ في كلّ مكان

بعد مرور كثير من الوقت يزيد عن عشر ساعات سفر متواصلة، يبدأ الجوع والعطش بالتسلل إلينا وكذا الزحم الشديد، وهو ما كان يدفعنا بشكل فطري للطرق على الأبواب بقوة مطالبين بالطعام والماء وقضاء الحاجة مستلهمين رواية كنفاني بالدق على جدران الخزان، الأمر الذي غالبًا ما يقابل بالتطنيش والتجاهل والاستهزاء، وبعد طول إلحاح وطرق وصراخ كان يسمح لنا بقضاء الحاجة لمدة 3 دقائق فقط ودون فكّ الكلبشات.

في إحدى المرّات طلبت من أحد جنود "النحشون" أن يخفف شدَ الكلبشات عن معصمي قليلًا فقد كانت "حزاك" كما يسمى باللغة العبرية، فما كان منه إلّا أن شدّها أكثر مما كانت، في تصرف استفزازي صدر عن جندي من أصول أثيوبية خبر أجداده معنى العبودية والقيود، عندها ضحكت ضحكة صفراوية في وجهه قائلًا: سادي، أنت سادي، في حين وقف متجهمًا دون أن يعرف معناها بالتأكيد.

على جانبي الطريق كانت تشدني المناظر الطبيعية الخلابة لبلادنا المحتلة عام 1948، تحتار فيما تنظر إليه، كُنّا نقطع آلاف الأمتار المزروعة الخضراء، وبعدها عشرات المصانع الصناعية والغذائية وناطحات السحاب، على ذات الطريق ترى مئات الشاحنات الكبيرة تحمل البضائع المنوّعة، فتصل إلى نتيجة أن دولة الاحتلال اهتمت بالزراعة والصناعة والتجارة ونجحت في بناء اقتصاد متنوّع مستغلة كل متر في أرضنا المحتلة.

من فتحات النافذة الحديدية الضيّقة كنت أسترق النظر إلى أرضنا المسروقة، كانوا يحاولون بكل قوتهم تغيير ملامحها العربية وتبديل هويتها الفلسطينية وتنكير سحنتها الكنعانية وكأنهم في سباق مع الزمن، هم يعرفون تمام المعرفة أنهم عبرانيون عابرون، كسارق يحاول إخفاء آثار جريمته.

اقرأ/ي أيضًا: عندما فرض الأسرى إنهاء القمع مقابل وقف "تشفير" الوجوه

مع مرور الوقت في السجن وتعدد البوسطات أصبحت لديّ خبرة متواضعة في التمييز بين السجين المدني والأسير الأمني بمجرد النظر إليه، حتى الأمني صرت أستطيع معرفة الفتحاوي من الحمساوي من الجبهاوي من الداعشي، وكذا المدني العربي، من اليهودي، والعربي سكان الضفة من فلسطينيي الداخل، فالمدني كانت تبدو ثيابه رثة وشعره منفوشًا وبشرته سمراء محروقة من أشعة الشمس ووجهه (مشفر) متعدد النتوء والضربات، كان المدنيون يحسدوننا ويقولون إنهم مهدوري الكرامة، وأن إدارة السجون تحترمنا وتخاف منا عكسهم تمامًا.

السجناء المدنيون الإسرائيليين كانوا أكثر هدوءًا منا، كانوا قليلي الكلام وزاهدين في التواصل بينهم، عكسنا، فقد كانت لدينا سرعة كبيرة في بناء العلاقات، بصراحة لا أعرف هل نحن اجتماعيون أكثر منهم أما أننا فضوليون؟ كان السجناء الإسرائيليون يخافوننا ولا نخافهم مع أنهم كانوا أكثر منّا عددًا في كثير من البوسطات.

 خلال رحلة البوسطة في الحافلة كان غالبًا ما يتقمّص أحد الأسرى خاصة القدامى شخصية المرشد السياحي

خلال رحلة البوسطة في الحافلة كان غالبًا ما يتقمّص أحد الأسرى خاصة القدامى شخصية المرشد السياحي، فيبدأ بالحديث عن السجون التي كُنّا نتوقف عندها، وتاريخ إنشائها وأهم المدن والبلدات العربية والإسرائيلية، على كل حال كان باستطاعتنا تمييز العربية قبل أن يتحدث عنها الدليل، فاللوحات الإعلانية كانت تشير إلى ذلك، وقبل هذا مآذن المساجد وبيوتها المتلاصقة وخدماتها المتواضعة.

أسئلة كثيرة كانت تراودني وتلح عليّ بقوة خلال هذه الرحلة الشاقّة، متى سترجع هذه الأرض المسلوبة الحزينة لأصحابها؟ هل سيكون ذلك في زماننا أم في عهد أبنائنا وأحفادنا؟ هل سيتم ذلك دفعة واحدة أم على مراحل؟ أي الجيوش ستأتي لهذه البلاد فاتحة محررة؟ هل ستكون أردنية أم مصرية أم سورية؟ عربية أم إسلامية؟ هل ستأتي من الشمال أم من الجنوب أم من الشرق؟ أم سيكون جيشًا محليًا يعرف جنوده البلاد تمام المعرفة؟ هل سنحسن إدارة وتوزيع ما سيتركه الاحتلال من خلفه أم أننا سنتقاتل عليه أيضًا؟!


اقرأ/ي أيضًا:

عندما صليّت دون حجابي في سجن الرملة!

سجن النقب الصحراوي.. أحلام بالثلج!

"تقزيم الآخر".. عن الهوس الأمنيّ في السجون