26-مارس-2018

يجادل غسان كنفاني في دراسته "ثورة 1936- 1939 في فلسطين: خلفيات وتفاصيل وتحليل"، بأن تفكك وتشوه المجتمع الفلسطيني في الفترة الممتدة من عام 1936-1939؛ كان نتيجة عدة عوامل، ونتيجة التحولات المجتمعية وخصوصًا، تحول اقتصاد المجتمع الفلسطيني من اقتصاد إقطاعي زراعي إلى اقتصاد صناعي من خلال نمو الصناعات اليهودية.

ويجادل كنفاني أن هذا التحول أحدث تشوهًا بنيويًا في المجتمع الفلسطيني، كان له آثاره المختلفة على العمال الفلسطينين، وعلى المثقفين، والحركة النقابية، ومكانة القيادات الإقطاعية والدينية، وأحدث تشوهًا في بنية الريف الفلسطيني، وغيَّر في صيروة نمو المدينة الفلسطينية. كما بيّن كنفاني أن تلك التحولات غير الطبيعية أو التي يمكن أن نسميها التحولات القيصرية، أثرت في بنية الاقتصاد الفلسطيني والملكيات الفلسطينية، حيث يسرد عددًا من التغيرات مثل انخفاص الصادرات العربية، وطرد العمال العرب من الصناعة الإسرائيلية، وضعف الحركة النقابية العمالية العربية، وتركز ملكيات الأرض في يد الإقطاعيين الفلسطيني.

هناك ثلاث نقاط مركزية أثرت في بنية المجتمع الفلسطيني وحركته الثورية، وهي: القيادات المحلية الرجعية، والأنظمة العربية المحيطة في فلسطين، والحلف الإمبريالي الصهيوني

كما يفترض كنفاني في بداية دراسته أن هناك ثلاث نقاط مركزية أثرت في بنية المجتمع الفلسطيني وحركته الثورية، وهي: القيادات المحلية الرجعية، والأنظمة العربية المحيطة في فلسطين، والحلف الإمبريالي الصهيوني. ويركز على فكرة أن فترة 1936-1939 هي الفترة التي أفسح فيها الاستعمار البريطاني المجال للحركة الصهيونية لتقوية ودعم الاقتصاد الصهيوني في فلسطين، من خلال امتيازات الحكومة البريطانية للحركة الصهيونية في فلسطين، وفي هذه الفترة تطورت النزعة العدوانية للصهيونية وتصلب عودها واشتد ساعدها.

اقرأ/ي أيضًا: سياسات صنع العدو: قراءة في كتاب بيار كونيسا

ويمكن القول إن كنفاني غالى في تحليه الماركسي في توصيف الحالة الفلسطينية، فهي ليست مسألة طبقية بحته، وإنما هي جزء من حالة نضال ضد هيمنة استعمارية إمبريالية عدوانية. كذلك هناك تعميمات مطلقة تجاه القيادة المحلية وبعض الشخصيات الوطنية، وهناك هجوم حاد يصل إلى درجة التخوين، في أن القيادة المحلية كانت تريد أن تلعب دور الوكيل "الكمبردور" مع الاستعمار البريطاني؛ لكن الحركة الصهيونية أخذت هذا الدور من بريطانيا الاستعمارية، بدل أن تتولاه القيادة الفلسطينية المحلية آنذاك، دون أن يجادل كنفاني بأن الاستعمار البريطاني هدفه بناء استعمار جديد في فلسطين، يتمثل في الاستعمار الصهيوني، وهذه هي المجادلة المركزية، وليست تنصيب وكيل مكان آخر، بقدر ما هي حالة استعمارية هدفها خلق تشوه بنيوي لكل البنيات الفلسطينية.

في حين يجادل غرشون شافير في مقال له بعنوان " الأرض، العمل والسكان في الاستيطان الصهيوني"، بأن هناك عدد من أنماط الاستعمار، وينتقد فكرة المؤرخين والسياسين اللذين يعتبرون الاستعمار الإسرائيلي هو ما بعد 1967، وإنما يطالب بالعودة إلى جذور الصراع، وأن هناك نمط استعماري أيضًا ما قبل 1967. وبين شافير أن هناك ثلاثة عوامل حاسمة في مسألة الاستعمار الإسرائيلي، وهي سوق الأرض، وسوق العمل، والنسبة العددية بين المستوطنين والسكان المحليين.

هناك ثلاثة عوامل حاسمة في مسألة الاستعمار الإسرائيلي، وهي سوق الأرض، وسوق العمل، والنسبة العددية بين المستوطنين والسكان المحليين

كما يمايز شافير بين أنواع المستوطنات ويوضح الفروق بينها؛ وينطلق إلى نقطة مركزية في التفريق بين طبيعة الاستعمار الأوروبي ذو الاعتبارات الاقتصادية والاستراتيجية، وطبيعة الاستعمار الإسرائيلي ذو الاعتبارات الدينية؛ كذلك الاختلاف في تركيبة السكان وعلاقتهم بالأرض وطبيعة نظام الملكية، وهي أن عملية التفريق هذه قد سبق وأن أشار إليها فايز الصايغ في ستينات القرن العشرين، في كتيّب صادر عن مركز الأبحاث الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، بعنوان الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين.

في ذلك الكتيب، بيّن الصايغ أن الاستعمار الصهيوني هو استعمار استيطاني إمبريالي، وفرَّقه عن الاستعمار الأوروبي ذو الأهداف الاقتصادية والربحية. كما يشير شافير إلى ذلك الرأي بشكل غير دقيق؛ حيث يقول إن الباحثين الفلسطينيين شبَّهوا الاستعمار الصهيوني بالاستعمار الفرنسي في شمال إفريقيا، وهذا غير دقيق، إذ فرَّق الصايغ بين الاستعمار الصهيوني والاستعمار الأوروبي من حيث الهدف والبنية والأدوات والدور. وبين شافير طبيعة استملاك الأرض من قبل الحركة الصهيونية في الفترات التاريخية المختلفة، وشرح طبيعة البنية الوظيفية للمؤسسات الصهيونية في استملاك الأرض، وعملية إدارتها لسوق العمل وفق التغيرات التاريخة المختلفة.

يقدم كنفاني صورة لحالة المجتمع الفلسطيني ما قبل النكبة، بتركيزه على فكرة الطبقية المجتمعية، وملكية الأرض وأسلوب الإنتاج الفلسطيني. كذلك يحاول شافير التركيز على نفس الصورة المقابلة التي سادت في المجتمع الصهيوني ما قبل النكبة وما بعدها؛ بتوضيح العوائق التي واجهت الحركة الاستيطانية، وشكل أنماط الاستيطان، وتحولات الاستيطان وتراوحها بين سوق العمل وسوق الأرض، والتبادل فيما بينهما، وفق الظروف المختلفة، ويرى في الكيبوتس نموذجًا استيطانيًا في تطبيق مفهوم احتلال العمل، واحتلال الأرض.

كما يرى شافير أن هناك مؤسسات صهيونية عملت على تعزيز الاستعمار، وهما الكرين كيمت والهستدروت؛ أما غسان كنفاني فبين طبيعة البنية النقابية والاقتصادية والدينية التي فشلت في صد المشروع الاستعماري. ويمكن الاستفادة من المنظورين لكنفاني وشافير في إنتاج دراسات مقارنة تبين التحولات المجتمعية والاستعمارية، وأثر ذلك على تشوه البنيات المجتمعية الفلسطينية، كون عمليات تخليق الاستعمار الصهيوني وتحولاته، وانكساراته وانتصاراته أدت في المحصلة النهائية إلى كسر الحداثة الفلسطينية، وانبتار نمو البنيات المجتمعية الفلسطينية بشكل طبيعي، مما جعل بعض البنيات الفلسطينية تنمو بشكل مشوه وغير طبيعي إلى مراحل تمتد إلى ما بعد النكبة.


اقرأ/ي أيضًا:

مغلوب وغالب: الذاكرة الشفوية في مواجهة المكتوبة

يهود الروح: الاستعمار الأمريكي والأسطورة التوراتية

يهود الشرق: أسئلة وفصام الهوية