12-سبتمبر-2019

في شارع عمر المختار التجاري الذي يخترق مدينة غزة القديمة من غربها إلى شرقها، لا ينفكّ أصحاب المتاجر الصغيرة عن إغراء المارّين بالدخول، فيما ينهمك آخرون بتوضيب بضاعتهم استعدادًا لموسم الشتاء، بعد مواسم صيفٍ وأعياد وعودة للمدارس، لم يتمكن الكثيرون منهم من جني الأرباح المقبولة فيها وقد شارفت على نهايتها.

بمجرّد توقّف حركة الزبائن لدقائق سُرعان ما يعود تجارٌ لممارسة "ألاعيب لا إرادية" ضد منافسيهم باعتبارها آخر الأساليب "غير الأخلاقية" لتعويض بعضٍ من تجارتهم الكاسدة

هؤلاء التُجار الذين تضرروا ماليًا لسنواتٍ طويلة بسبب الحالة الاقتصادية الراكدة، بمجرّد توقّف حركة الزبائن لدقائق سُرعان ما يعودون لممارسة "ألاعيب لا إرادية" ضد منافسيهم باعتبارها "آخر الأساليب غير الأخلاقية" لتعويض بعضٍ من تجارتهم الكاسدة.

اقرأ/ي أيضًا: تجار وموظفون "رايحين جايين" على سجون غزة

"إطلاق الشائعات وتصديق الأكاذيب هي مُهمّتُنا" يقول مؤنس. ش (27 عامًا)، وهو يعمل في متجرٍ للألبسة النسائية ويعترف أنه يُمارس تلك العادة بتوجيهٍ من صاحب المتجر.

يقول مؤنس الذي بدا متخوّفًا حيال ذكر اسمه: "لا يروق للتجّار ذوي الحرفة المشابهة رؤية بضاعة جديدة مُكدّسة وصلت للتوّ من تركيا أو الصين في أكياس النايلون تستعد للعرض على واجهات المحال المنافسة. ذلك يعني باختصار تهافت الزبونات إلى هُناك واختفائهم من متجرنا، لذا فترويج كذبة بين التُجّار أنفسهم أو حتى للزبائن أن صاحب ذلك المتجر يُعاني من إفلاس وأنه سيُغلق متجره في غضون شهر كفيلٌ باسترداد بعضٍ من أولئك الزبونات".

وعلى بُعد أمتارٍ من مؤنس، يُقنع عبد الهادي. ق زبونةً مع أُمها أن متجر مساحيق التجميل المقابل لا يتوانى عن مغازلة زبوناته اللاتي يضجرن منه، ويقول لزبونتيْه: "انظري يا خالة كيف خرجت تلك الفتيات من هناك دون كيس. لم تشترِ شيئًا، فالأخلاق فوق كل شيء".

صحيحٌ أن السيّدتين اكتفتا بشراء طلاء أظافر زهيد الثمن، "لكنني لو لم أفعل ذلك فلن أتمكن من توفير ثمن سيجارة طوال اليوم" يقول بائع أدوات التجميل الذي اعتبر ما حدث "حِنكة تجارية".

لكنّ ثمة نوعٌ آخر من ترويج الشائعات أكثر تعقيدًا بين ذلك الوسط التجاري المُنهار أصلاً، فقد يلجأ بعض التجّار إلى ممارساتٍ مُضادة تُظهرهم أنّهم لا زالوا ماليًا بخير وأن ما يُروّج حول إفلاسهم مجرد كذبة. يقول سليمان .ص تاجر الأحذية: "أحد تُجّار الجملة يعمد سنويًا لنحر أضاحي متعددة من العجول ويضطر لاستئجار سيّارة فارهة لإظهار أنه حوت السوق، لكنّه سُرعان ما يتحول بذخه وبالاً عليه بإطلاق شائعة أنه (يتبغدد على حساب التجّار) الذين ينتظرون دُفعاتهم المالية، فيُباغتونه ويضغطون عليه لتسديدهم بمجرّد تلقيهم الشائعة".

يؤكد تُجّار كُثر التقاهم الترا فلسطين أن نحو 80% من التجار الكبار منهم يُعانون الإفلاس، فيما يقضي 60% من التجار الأقل حظًا أيامهم في زيارة السجون أو المحاكم بسبب القضايا البينية التي تُهدد أعمالهم.

الخبير الاقتصادي ماهر الطباع، يقول إن العام الماضي وحده شهد تسجيل أكثر من 45 ألف قضية مالية لدى النيابة العامة في غزة، وأكثر من 800 رجل أعمال وتاجر باتوا محتجزين لدى الأمن.

أكثر من 45 ألف قضية مالية لدى النيابة العامة في غزة، وأكثر من 800 رجل أعمال وتاجر باتوا محتجزين لدى الأمن خلال عام 2018

وفي ذات الشارع المأزوم بشائعاته التي لا تنتهي، سرت شائعةٌ أثناء إعداد التقرير أن متجرًا للأدوات الكهربائية المنزلية تعرّض للخطف أثناء سفر صاحبه إلى الصين، وأنه مطلوبٌ للشرطة الدولية (الإنتربول) بتهمة الاحتيال والتأخر عن سداد مديونيته. لكن الحاج منتصر ف. فسّر لنا حقيقة ما حدث قائلاً: "حالة الكساد في السوق لا تروق لصديق ولا عدو، لذا فقد يكون ذلك التاجر الناجح سافر إلى دولةٍ أخرى لتوريد بضاعة؛ لذا فإن تأخره في العودة يفتح الباب أمام إطلاق الشائعات التي سُرعان ما تقف بمجرد وصوله، ولا يعتبر مطلقوها فيعودودن لاختلاق كذبةٍ أخرى. المهم ألاَ يروا زبائن يتقاطرون هنا أو هناك".

اقرأ/ي أيضًا: الدجاج والحبش أولاً في غزة.. واللحوم الحمراء للمناسبات

التقينا السيّد حمدي ك. الذي يمتلك متجرًا بطابقين للألبسة الشبابية، قال لنا: "نجحت العام الماضي في تجديد ديكور المحل وحصلت على وكالة لإحدى ماركات سراويل الجينز التركية. لكن في غضون ساعات نقل إليّ العاملون من عاملين في محلاتٍ مجاورة أخرى أن شائعة ضدّي مفادها أنني أعمل في غسيل الأموال لصالح حركة حماس وأنّ لديّ شحنات من عقاقير مخدّرة بانتظار تهريبها إلى غزة".

تلك الأمواج العاتية من الإشاعات القاتلة تجاريًا لا يُمكن مجابهتها في نظر التاجر حمدي سوى "الاكتفاء بالاستغفار وطلب الرحمة، فالقطرة الواحدة من الإشاعات هنا تغدو بحرًا في دقائق" كما يقول.

في السنوات الماضية، وحتى قبل العام 2010 -بحسب حمدي- لم تكن للإشاعات مكانٌ في أسواق قطاع غزة، لكن الأزمات الاقتصادية المتتالية وانخفاض سقف صرف الرواتب إلى النصف بين موظفي غزة والضفة الغربية وإغلاق الأنفاق الحدودية مع سيناء وحالة الإفقار المتعمّدة التي تمارسها الولايات المتحدة وإسرائيل، أجبرت الكثير من التُجّار على الجلوس أمام متاجرهم وإطلاق نظرات الحسد على من بقي في جُعبته رمق من الحركة التجارية، واختلاق أكاذيب تنفّر الزبائن من التفكير حتى في تخطي عتبات تلك المحال التي وقعت ضحية الشائعات.

تاجر الأقمشة الشاب رامي ص. يؤكد أن جدّه في أوائل التسعينيات كان يوجّه زبائنه الصباحيين إلى جاره ويُخبرهم أن له بضاعة مماثلة يمكنهم شراؤها بثمن أقل وأنه لم يستفتح بعد. "كان جدّي يعلم أن زبائنه ينقلون للتاجر الآخر ذلك الحوار الودّي، وهو الآخر لا يُفكر لثانية عن ردّ ذلك الجميل بزبائن آخرين، وبذلك تخلق عجلة ثلاثية من الثقة والاحترام؛ بين التاجر ونظيره والزبون اللاهث وراء الاطمئنان للسعر والجودة والصدق في التعامل" كما يقول.


اقرأ/ي أيضًا: 

"المحل للإيجار".. الإعلان الأشهر في قطاع غزة

الذهب في غزة في عصره الحجري

ثالوث التدمير لم يبق رجال أعمال في غزة

"ثالوث التدمير" لم يبق رج