10-أغسطس-2020

معلمة وطالباتها في صف دراسي بمدرسة في الخليل - gettyimages

من منطلق الجدل وأهميته كسياق للتحليل والاستشراف، نعيد طرح قضية "التعليم في ظل الأزمة الراهنة" للنقاش مرة أخرى. نقاشٌ لا يسعى إلا لجلب القضايا الواقعية الساخنة إلى منطق الرؤية (التأملية النقدية)؛ جلب الواقعي الذي هو حسب باشلار "ليس أبدًا ما قد نعتقده، إنما هو دومًا ما كان علينا أن نفكر فيه" الواقعي ليس الذي نراه، بل ما يجب أن نكتشفه لكي نراه.

نعيد طرح قضية "التعليم في ظل الأزمة الراهنة" للنقاش مرة أخرى

فالبحث ينجز موضوعاته ويبنيها من دون أن يعثر عليها جاهزة، وإذا ما كانت الظاهرة المدروسة هي ما يظهر للإدراك، فإن الإدراك ليس مجرد ملاحظة الظاهرة فحسب، إنما هو طريقة التفاعل معها والتعبير عنها، فالظاهرة الاجتماعية التي تُكتشف بحثيًا ليس هي ما يظهر على السطح الاجتماعي، بل هي ما يتحقق نتيجة تفاعل الظاهرة وطريقة إدراكها معًا، وما يتاح منها للعيش والمكابدة والاستثمار، فالتجربة الإدراكية هي مكابدة التفكير لظاهرة العالم.

اقرأ/ي أيضًا: هل يسير التعليم الإلكتروني بشكل جيد في حالة الطوارئ؟

فالظواهر الواقعية في حياتنا حسب باشلار "ليس هي ما نعتقد، بل ما يجب أن نفكر فيه" وهي أيضًا حسب منطق الدراسات الثقافية الاجتماعية "سيرورة حركية تاريخية وواقعة خطابية منبنية لغويًا"، أكثر من كونها ظاهرة محددة بوجودها الموضوعي والثابت، تلك الحقيقة التي تتطلب استحضار الواقعي في سياق حركته التاريخية وتعبيراته وصياغاته اللغوية.

لذلك، فإن استحضار هذه الظواهر في شكلها الواقعي يحتاج لرؤيا تمزج بين عين النقد وعين الاستشراف، الرؤية التي توصف "بعين على الميكروسكوب والأخرى على التلسكوب"، عين نقدية تسائل المطروح وتعيد تقييم التجربة، وأخرى استشرافية تقتحم القادم، فالأولى تزيح المسلمات والشعارات التي تسد الأفق الإدراكي، أما الثانية فتكشف القادم وجديده من المشكلات والممكنات.

فلا يمكن فهم ظاهرة اجتماعية أو حركة إنسانية إلا في سياقَيْ تشكلها التاريخي والخطابي.  لذلك، سوف ننطلق من التجربة التي تحققت، والأخرى التي في سبيلها إلى التحقق، الأولى: تجربة التعليم عبر الوسائط الإلكترونية المسماة (بالتعليم الإلكتروني أو التعليم عن بعد، أو التعليم المنزلي)، أما الثانية فهي التجربة المقترحة التي تقوم على المزج بين التعليم الوجاهي المباشر والتعليم الرقمي الوسائطي والتعليم المنزلي، تحت مسمى جديد هو التعليم المدمج  (Blended).

بين التجربتين تاريخ قصير زمنيًا وإرث عارم من الطموح والإخفاق، فالأولى تجربة حدثت وتملك رصيدها الخاص وحساباتها في الربح والخسارة، أما الثانية فما زالت أفقًا مفتوحًا على ممكنات للإنجاز وأخرى للفشل، لكن ثمة فرصة بينهما للتأمل والتحليل بغية التحليل والاستشراف.

ثمة فيضٌ من التعريفات والمواصفات والتوصيفات التي اخترعت واُطلقت حول التعليم في مرحلة الأزمة وعلى حدود مواجهتها

فعلى الرغم من قصر المسافة الزمنية والعملية بين التجربتين، فإن ثمة فيضًا من التعريفات والمواصفات والتوصيفات التي اخترعت واُطلقت حول التعليم في مرحلة الأزمة وعلى حدود مواجهتها، التي قدمت كأجوبة وحلول على (مشكلة ما)؛ مشكلة ظهرت وتجلت وفرضت نفسها في كل مكان من العالم بوصفها مشكلة اللحظة (الآن وهنا). وعلى الرغم من عالمية المشكلة وتعدد طروحات المواجهة، فإن ما يطرح حتى اللحظة يصفه الممارسون للتعليم والمعايشون له (المعلمون والمتعلمون والأهل) بالغموض وعدم الإمكانية وعدم الواقعية معًا.

اقرأ/ي أيضًا: معلمون: صعوبات تواجه التعليم الإلكتروني.. ولا خطة واضحة

كل هذه المسميات والأشكال قدمت كمقترحات للحل.  نعم لقد تم إبداع كل هذه الحلول سواء على المستوى المفاهيمي النظري أو العملي التطبيقي، كل هذه الحلول تم اقتراحها لحل (مشكلة ما)، لكن السؤال الذي تم إغفاله والقفز عنه بوصفه مسلّمة لا تحتاج للتفكير أو التعريف أو البناء الخطابي هو: ما هي هذه المشكلة؟ وما طبيعتها الاجتماعية التاريخية؟ وكيف يمكن تعريفها معرفيًا وصياغتها كإشكالية بحثية؟ وما الأسئلة المركزية المضمنة فيها؟ ما يعني أن البحث والتفكير قد انطلقا للبحث في حلول لمشكلة لم تدرس بشكل كاف، ولم تحظ بفرصة التحديد والتعريف الدقيق، وهذا ما جعل حصان البحث يعجز عن جر العربة التي تقف أمامه.

يبدو من المتابعة لما يطرح ويكتب أن ثمة عشرات المقالات والكتابات التي انشغلت وتنشغل في تقديم الحلول الجاهزة والتنظير لها أو التنظير في نقدها وتفكيكها دون العودة إلى أصل البحث؛ ألا وهو تعريف المشكلة، فما حدث هو الانهماك في البحث عن حلول لمشكلة لم تحدد اجتماعيًا كظاهراة محددة، ولم تتم صياغتها في إشكاليات واضحة ومحددة. 

إن ما حدث هو نوع من الغفلة الإبستمولوجية (المعرفية)، أو القفزة العملية، حيث تحالف المألوف العقلي مع التسويغ العملي لتفضيل البحث في الحلول بدل الانشغال في تحديد المشكلة، ما يجعلنا نفسر هذه الغفلة بخضوع العقل الجمعي لمألوفه المعرفي ولضغط (المشكلة وحجمها وأهميتها) معًا، ولانشغال السياسيين ببلاغة الخطابة والحفاظ على بنية النظام ومؤسساته ومنها المدرسة على حساب منهجيات البحث، ما جعل العقل الجمعي والسياسي ينشغل في البحث عن الحلول العملية السريعة، حلول لمشكلة (انكشاف أزمة المدرسة وليس حلولًا لمساءلة عجزها) وينجرف خلف كسله وميله للتكيف الطبيعي، بدلًا من الخوض في الجدل الفكري التحليلي بوصفه فاعلية تفكيرية وتخيلية، ما يعني أن هذه المقالة تعمل على التفكير في الشكل الذي من خلاله تم طرح القضية، وترى أن جزءًا من المشكلة يقع في كيفية طرح المشكلة، وفي شكل صياغتها، ما يدفعنا إلى العودة للتفكير في (ماهية المشكلة التي نبحث فيها ونبحث لها عن حلول، وكيف تمت صياغتها؟ وكيف تم بناؤها كمشكلة اجتماعية وتعريفها كإشكالية في حقل التفكير؟).

إن تحديد المشكلة اجتماعيًا وتأطيرها معرفيًا يمثل الأساس المنهجي لمقاربة المشكلات وحلها كمنهجية عقلانية إبداعية تميز الكينونة الإنسانية وتسهم في تطويرها وتمايزها عن (التكيف الطبيعي للكائنات الأخرى)؛ فالكائنات الحيوانية تسعى إلى التكيف مع المستجدات بدلًا من التأمل فيها وإعادة تركيبها وتحويلها، تلك الميزة التأملية التحويلية المرتبطة بفرادة الإنسان في استعمال المفاهيم والرموز والمنهجيات التي اخترعتها الإنسانية وشكلت عبرها وعيها وكينونتها.

وفي ضوء ما سبق، يمكن رؤية كيف انساق العقل الجمعي وراء الحلول المقترحة مظهرًا إيجابياتها، ومفندًا لإشكالاتها قبل أن يبذل الجهد الكافي في قراءة المشكلة وصياغتها، فضمن حدود التفكير المألوف ومعاييره، تم طرح الحلول قبل تعريف المشكلة، وتم قبولها كحلول (لمشكلة لم تحدد بعد)، وطلب من هذه الحلول أن تدفع ثمن قبولها كحلول، وأن على هذه الحلول أن تقدم الحل بشكل آلي وبكل نجاعة فقط، لأننا قبلنا بها كحلول، ليس دون أن نفكر فيها أو نختبرها فحسب، بل قبل أن نقول لها (ما هي المشكلة) المطلوب منها حلها والإجابة عنها.

يمكن رؤية كيف انساق العقل الجمعي وراء الحلول المقترحة مظهرًا إيجابياتها، ومفندًا لإشكالاتها قبل أن يبذل الجهد الكافي في قراءة المشكلة وصياغتها

ولكي نرى الإشكالية في طرح المشكلة كمدخل لإعادة رؤية المشكلة الحقيقية والعمل على تعريفها، لا بد من موضعة أنفسنا خارج هذا المألوف لنفكر ليس في الحلول المقترحة، بل في المشكلة نفسها، وفي كيفية بنائها، وفي السؤال الذي يجب أن تصاغ من خلاله، عندها يمكننا أن نرى شيئًا مختلفًا عما هو مطروح، فما يجري هو البحث عن حلول لتعليم خرج من المدرسة، لكن البحث نفسه بقي محصورًا ومحددًا داخل حدود مفهوم (التعليم) المدرسي، حتى بعد أن طرد خارج أسوارها، ما يعني أن ثمة مشكلة حقيقية في طرح المشكلة الأصلية، وفي شكل مقاربتها ومعالجتها.

اقرأ/ي أيضًا: قبل أن ترسلوا أبناءكم إلى الجامعات

إن ما طرح من حلول للمشكلة التي ظهرت ووضعت نفسها في "بؤرة الحدث والرؤية معًا"، لم يكن حلولًا للمشكلة الحقيقية، بل كان حلولًا للمشكلة الناتجة عن الالتباس في تحديد المشكلة، فبمجرد ما تم إغلاق المدرسة، تم تأطير المشكلة على شكل سؤال: كيف ننقل المدرسة نفسها للأطفال في البيت طالما لم نتمكن من نقل الأطفال إلى المدرسة؟

ومن السؤال السابق انبثق التعليم عن بعد، أي كيف نعلّم الأطفال (التعليم المدرسي نفسه) لكن عن بعد، دون أي اعتبار للمسافة المكانية والثقافية وخصوصية السياق والموقف والموقع، ما جعل الحل يكمن في نقل الحصة من المدرسة إلى البيت، واستبدال الحافلة التي كانت تنقل الطلاب إليها بالحاسوب والإنترنت التي سوف تنقل المعلمة والكتاب والسبورة إلى البيت، وهذا التصور كان كامنًا في الاسم (التعليم عن بعد) وفي المحتوى الذي قدم، حيث كان في الغالب تسجيلات لمعلم أو معلمة يعيد تفسير الكتاب الذي ظهرت صفحاته على الشاشة في وضعية تشبه تمامًا ظهوره على سطح الدرج في المدرسة.

إن ما يظهر في هذه المفارقة شيء يستدعي أكثر من الابتسام أو الحزن. فما حدث هو محاولة لنقل المدرسة بشكلها التقليدي وأدوات عملها المعتادة إلى البيت دون مراعاة لكل ما حدث من تحولات في الموقف والسياق، وكأن المدرسة وأدواتها (كائن سماوي خارج العادة والتاريخ)، شيء لا يتأثر بما يحدث من حوله (فكرة قادرة على البقاء في شكلها وأدواتها بغض النظر عما يحدث) وقادرة على الاشتغال داخل أسوارها التقليدية وخارجها أيضًا، فبإمكان المدرسة أن تكون مدرسة حتى لو كان الأطفال في البيت أو الحديقة أو الحقل، وبإمكان التعليم أن يحدث بالشكل نفسه؛ سواءً كان على سبورة الحائط أو شاشة رقمية ذكية، دون أي مراعاة للوسيط وقوانينه أو للسياق ومعطياته.

ما حدث هو محاولة لنقل المدرسة بشكلها التقليدي وأدوات عملها المعتادة إلى البيت دون مراعاة لكل ما حدث من تحولات في الموقف والسياق

يتضح من هذا التصور، أن الإشكال يكمن في أن كل ما يجري هو البحث عن حل للتعليم بعد أن خرج من أسوار المدرسة، مع الإبقاء عليه في أسر مفهومها التقليدي، وهذا ما منع التفكير من (أن يفكر)، وأبطل فاعليته وقدرته وحد من حريته وإرادته، ومنعه من أن يفكر في كيف يخلق سياقات وآليات تمكّن الأطفال من التعلم عن بعد أو في المنزل، لينشغل بدل ذلك في كيف ينقل لهم التعليم المدرسي إلى البيت.

اقرأ/ي أيضًا: سقوط مدوٍ للتعليم القانوني في تعيين القضاة

وهذا التوجه يحمل في طياته مبرره ما دام أن الخوف لم يكن على الأطفال، وإنما كان على المدرسة نفسها كمؤسسة وممر أيديولوجي، فما كان أولوية بالنسبة للقائمين على المدرسة وحراسها، ليس اختراع أشكال تعلم جديدة تنبثق من ضرورات اللحظة وتحولات السياق، بل هو كيف نحافظ على المدرسة ونحتفظ بمفهومها على الرغم من إغلاقها، ففي اللحظة التي انغلقت المدرسة فيها على فراغها الواقعي، حصر التفكير نفسه في داخل مفهومها المغلق بدلًا من التقاط الفرصة لتفجير حدود المفهوم وفتحه على ممكنات اللحظة، لأجل إعادة توزيع التعليم بين أدوات المدرسة وأدوات البيت وبين فضاء الواقع وممكنات العصر الرقمي.

وإذا ما عدنا إلى وضع الظاهرة في سياقها الحقيقي، فما حدث هو توقف تعلم الأطفال المدرسي بسبب إغلاق المدرسة لأبوابها وانكفائها على فراغها الواقعي، ما يتطلب التفكير في مسارات للحفاظ على تعلّم الأطفال لضمان نموهم الاجتماعي والمعرفي من جهة، وضمان انشغالهم واشتغالهم الفكري والتخيلي ضمن سياقات آمنة توفر للأهل الفرصة لعيش حياتهم المهنية والاجتماعية من جهة ثانية.

لكن ما منع التفكير من "إيجاد الحلول واختراعها"، هو تغييب المشكلة الحقيقية، والبحث في قضية ليست هي المشكلة، بل هي بديلها المألوف الناتج عن قبول الوعي لما يعرف أو لما يشغله كعقل مؤدلج وممأسس، فالعقل الاجتماعي العام والعقل البحثي التصقا بالمدرسة كمبنى ومفهوم، وفكّرا في حل المشكلة وهما يدوران داخل أسوار مفهومها، بدلاً من العمل على تفجير حدود المفهوم وجدران المدرسة.

يمكننا طرح الإشكالية بشكل آخر، والقول إنه في اللحظة التي طرد الأطفال والتعليم من داخل أسوار المدرسة "بفعل الأزمة" وأصبحت أماكن مهجورة وغير قابلة لاستقبال الأطفال واحتضانهم بشكل آمن، ما زال العقل التربوي وكل تفكيره يدور ويبحث داخل أسوار المدرسة كمفهوم؛ أي إننا ما زلنا نعيش داخل مفهوم المدرسة التقليدي على الرغم من أننا خارج أسوارها الحقيقية.

لذا، فبداية الحل تكمن في العودة إلى إعادة الرؤية التماثلية للمدرسة كمبنى ومفهوم معًا، فلا يجوز الخروج من المدرسة كمكان، والبقاء داخل مفهومها الذي استقر في الذهن وسيطر على تصوراته وخيالاته، فبقي يبحث عن الحل في مكان لم يعد هو المكان الذي يمكن البحث عن الحل فيه، ما يعني أن البحث عن الحل للتعليم داخل مفهوم المدرسة الذي ارتبط بالجرس والطابور والسبورة والصفوف والمقاعد والمناهج، هو المشكلة التي تعيق التفكير وتحد من تصوراته.

فبداية الحل تكمن في العودة إلى إعادة الرؤية التماثلية للمدرسة كمبنى ومفهوم معًا، فلا يجوز الخروج من المدرسة كمكان، والبقاء داخل مفهومها الذي استقر في الذهن

إن العمر الحقيقي للمدرسة، بشكلها الحالي، ليس إلا قرونًا عدة، في حين أن عمر التعليم هو من عمر البشرية نفسه، فالبشرية عبر آلاف السنين طورت أشكالًا مختلفة في "التعليم والتعلم"، تلك الأشكال والخبرات والمعارف تمت تنحيتها جانبًا لصالح "التعليم المدرسي" كتعليم وحيد بفعل سلطة المؤسسة السياسية ودورها الأيديولوجي، أي إن رهن التعليم بشكل واحد من أشكاله؛ ألا وهو التعليم المدرسي، هو نوع من ربط المجال الأعم والأقدم بالمجال الأحدث، وهو رهن للمتنوع والمتعدد بالواحد المتشابه، وقمع للمخيال الجمعي لصالح أيديولوجية المؤسسة وسياساتها.

اقرأ/ي أيضًا: التعليم المهني: الطريق الأقصر لسوق العمل

لقد كانت الدعوات سابقًا لتجاوز المدرسة وجدرانها تبدو كما لو أنها دعوات طوباوية حالمة، يحتاج تحققها إلى ثورة في السياسة وفي السوسيولوجيا والمعرفة، لكن الواقع اليوم تجاوز المدرسة وخرج من أسوارها، وانفلت التعليم من سيطرة المؤسسات الرسمية، وخرج "ليس حرًا طليقًا"، بل هائم على وجهه، صارخ يطلب ويتطلب أشكالًا جديدة وأمكنة جديدة.

إن ما حدث هو "ثورة حقيقية جاءت على شكل أزمة"؛ أزمة أخرجت التعليم من المدرسة، حررته من جدرانها، لكن الأزمة باقية ما دام "التعليم المتحرر من الجدران" يبحث عن حل لأزمته داخل مفهوم المدرسة التي خرج منها.  لذلك، فإن "جوهر الأزمة هو تحرير التعليم من مفهوم المدرسة، والخروج به خارج أسوار المفهوم"، والعودة إلى المكان الحقيقي، أي الحياة نفسها بكليتها والمجتمع بكل أمكنته وممكناته، ما يوفّر للتعلم فرصًا حقيقية لتطوير الصيغ وإعادة إنتاج نظره ومساره بشكل متعدد ومتحرر، نزاع نحو الحرية والانطلاق والإبداع، مجتمعي وذاتي، مؤسساتي وحر.

فالتعلم الذي كان دومًا عمليًا في المزارع والورشات، حيث يتعلم الناس طرق العمل واستخدام أدواته ويتناقلون خبرة الإنتاج ويطورونها، والتعلم الذي كان يحدث في "الدواوين والفضاءات العامة" عبر الحوار الاجتماعي وتبادل الرأي، والتعليم في المعابد وحلقات الفلسفة للتأمل والتفكير في الكون، والتعليم التبادلي الذي يحدث في السوق وتبادلاته، كل هذه الأشكال التي تمت تنحيتها بفعل التعليم المدرسي ومصلحته، يمكنها اليوم أن تعود لتقدم شكلها وخبرتها، تلك الخبرة التي يمكن إعادة إنتاجها بشكل حقيقي وجاهي وشكل افتراضي عن بعد، وشكل رقمي مبرمج، وأشكال تواصل متعددة واقعية وسيريالية وافتراضية.

فالمشكلة كما يمكن أن نعرفها هي مشكلة رهن التفكير في التعليم بحدود المدرسة كمفهوم، ما يعني أن الأشكلة الصحيحة للمشكلة تكمن في تحديد المشكلة طبقًا لهذه الصيغة، صيغة كيف يمكن للتعليم أن يكون بعد أن يتحرر من حدود المدرسة كمفهوم حتى لو عاد إلى داخل أسوارها؟

هذا هو المدخل المختلف، المدخل الضد للتفكير السائد الذي يبحث عن حل للتعلم خارج أسوار المدرسة، ولكن ضمن حدودها النظامية والتقليدية، هذا الذي أجهض إمكانية التعليم عن بعد، وأجهض تثوير التعليم المنزلي، وسوف يجهض التعليم القادم؛ سواء أكان تعليمًا وجاهيًا أو رقميًا أو مدمجًا منهما معًا؛ لأنه غرق في أزمته بدل أن يواجه الأزمة، ففقد القدرة على مواجهة شرط اللحظة وعن توظيفها كفرصة للتأمل في التعليم المدرسي، وفتحه على أشكال التعليم المجتمعي السابقة له، وعلى أشكال التعليم الممكنة من خلال الانفتاح على التعدد الفضائي والوسائطي، فانشغل في الحفاظ على شكل المدرسة، بدلًا من العمل على توسيع فضائها وعلاقاتها وتعددها من خلال تعليم (موزع)  من حيث المضمون، والمسؤولية، والسياقات، والوسائط.

فكيف للتعليم أن يحدث عن بعد وفي سياق افتراضي مختلف له قوانينه المختلفة، وهو محمّل بإرث التعليم التقليدي وضمن حدوده

فكيف للتعليم أن يحدث عن بعد وفي سياق افتراضي مختلف له قوانينه المختلفة، وهو محمّل بإرث التعليم التقليدي وضمن حدوده، وهذا ما جعل التعليم الإلكتروني يحمل الكتاب المنهاجي ومفهوم الحصة وأدواتها من الكتاب حتى السبورة (اللوح)، ولذلك فإن التعليم (المدمج) لن يكون مدمجًا، ولن يتمكن من التحقق كشكل جديد، إلا بعد تحرره من الإرث السابق له، وإعادة دمج هذا الإرث ضمن تصورات جديدة توظف الممكنات التواصلية المختلفة، بما فيها الوسائط الرقمية ليس كمجرد تقنيات، بل بوصفها تحولات فلسفية وأنطولوجية تتطلب توجهات جديدة وتوقعات مختلفة حول مفاهيم العالم والوجود والكينونة.

فلا يمكن بناء تعليم مدمج؛ تعليم يدمج المعرفة والحياة، ويدمج الخبرة الجماعية والتجربة الشخصية، ويدمج الفضاءات الافتراضية والواقعية، ويدمج السياقات والوسائط المختلفة مع مراعاة خصوصيتها وتفاعلاتها، وهو يفكر في الكتب المدرسية وفي كتابتها على اللوح، لا يمكنك بناء تعليم يخترق الأزمة ويؤسس لما بعدها من خلال تعليم مشغول بتغطية المنهاج وكتابتها على اللوح، لا بد من المجازفة لتحقيق تعليم يعمل على نقل التعلم من الكتاب إلى الحياة، ومن اللوح إلى الروح.


اقرأ/ي أيضًا: 

صور | مدرسة الرازي: قرن من الزمن ومازالت تكبر

رسالة إلى معلم