22-سبتمبر-2018

"لا شعور يُضاهي الطمأنينة المنبعثة من الطبيعة". تقول ذلك الحاجة زهرية ضاحكة، فهي واحدة من السيدات الفلسطينيات اللواتي يعشن منذ الصغر، التفاصيل الأولى للصباحات الريفية ويتمتعن بجمِال الأشياء فيها.

"كثريات الذهب"، كانت عناقيد العنب تتدلى في بستان زهرية التي تنتمي لعائلة شملخ، إحدى العوائل الشهيرة في زراعة العنب وبيعه في قطاع غزة. جنوب مدينة غزة، في الشيخ عجلين تحديدًا، تبدو كروم العنب على مد البصر كما لو أنها لوحة فنية آخذة، لا يمر العابر منها مرور الكِرام، استقبلتنا الحجة زهرية (65 عامًا) صباحًا بوعاءٍ من عنبٍ وتين، كتحية ترحيب عُرفت بها، "وقبل أن تبدأ بأي حديث عليكِ تذوق طعم السكر أولا في عُنباتي".

زهرية "أم ماجد" وَعت على الطبيعة الخضراء، فمنذ كانت طفلة بعمر 7 سنوات تعرفت كيف تزرع غرسة، وما هي أوقات الريّ المناسبة، ومتى يحين قطافها. عرفت أشياء كثيرة عن الزراعة، مارست المهنة مع والديها وإخوانها، كَبرت حتى وجدت أن ثمة ارتباطًا روحيًا بينها وبين الزراعة، فلا هي قادرة على تركها وهي عروس بأوج دلالها، ولا أخذ راحة فترة الأمومة، والآن لا ترتاح إلا بين الأشجار قائلةً: "الشجر مثل ولادي أنا ربيتهم كيف أتركهم؟".

زهرية شملخ مزارعة منذ 58 عامًا تهتم بالتين والعنب في غزة، ولا تجد نفسها إلا في الزراعة

وتتابع، "أجمل شيء في أنك تعيش بالطبيعة، هو أنك تعيش الأشياء والتفاصيل بتلقائية، دون تكلف، وكل شيء تملكه طازج، وتتذوق طعم تعبك بكل ثمرة، فيزداد تعلقك بها".

شاهد/ي أيضًا: فيديو | أناناس في غزة

منذ طفولتها وزهرية يُعرف عنها النشاط، فرغم صغر سنها - آنذاك -  إلا أنها كانت تستيقظ من الـساعة السادسة صباحًا مع عائلتها، لتُساعدهم في قطف العنب ثم وضعه في صناديق خشبية "سحارات"، قبل أن يعتلوا العربات متوجهين إلى سوق الخان في غزة البلد، لبيعه للتجار.

ركوب الدواب كوسيلة مواصلات، كانت من أكثر الأمور التي تُحبها زهرية منذ طفولتها، ولا زالت تقول: "أنا لا أرتاح إلا بركوب عربة الحمار".

كانت صغيرة على الفهم الكافي لكيفية زراعة العنب ورعايته، لكنّها كانت تسمع والدها وأعمامها وهم يُسمون أنواع العنب، وأساليبهم في العناية به، وتُمارس سُطلتها على أخواتها في التالي - كونها أكبرهم - كما لو أنها مزارعة خبيرة.

وتبدأ زهرية كغيرها من المزارعين والمزارعات، منذ منتصف شهر كانون أول/ديسمبر بتهيئة الأجواء المناسبة لزراعة العنب، فتقلّمه حتى منتصف آذار/مارس للتخلص من الأعواد والعُقَل النافقة لتبزغ الأوراق في الربيع (نوار، حُصرم، ثم ثمرة) ثم ترشه بالمبيدات كي يقاوم الأمراض، ليبدأ الحصاد في منتصف تموز/يوليو، لكن عزّ قطافه يكون في شهر آب/أغسطس. 

تزوجت زهرية بعمر 16 عامًا، وانتقلت من بيت إلى آخر لكنّ البيئة لم تختلف عليها، فزوجها هو الآخر ينتمي لذات العائلة التي تنحدر منها الحجّة زهرية، وهذا ما وثقّ علاقتها بالزراعة ليس كمهنة فحسب بل كحياة لا تستطيع العيش بدونها.

وتُكمل، "كانت الصباحات برفقة زلمتي، من أجمل الأوقات التي نقضيها معًا، أذكر أننا في فترة ما كنّا يوميًا نفطر السمك الطازج، نذهب معًا إلى البحر، نصطاد من رزق الله بقدر وجبة فطورنا، ولا ألذ من ذلك".

أما وجبة "الطشاطشة والعصافير" فهي ألذ وجبة افطار تعدها الجدة زهرية لأحفادها، قبل الانطلاق للعمل في المزارع. عن ذلك تقول: "زوجي صياد ماهر للعصافير والحمام أيضًا، فكان قبيل طلوع الشمس يصطاد عددًا من الطيور، ويُجهز قلاية البندورة الحارقة مع البصل ويُقلب العصافير معها، ويُجمع أحفاده وأولاده ليشاركونا إياها".

المزارعة الغزية زهرية ترعى في بستانها خمسة أصناف من العنب، وتتحدث عن عنب أيام زمان وخيره الوفير

ولا تحتفظ أشجار العنب، بإنتاج ثابت كل عام، إذ يكون الإنتاج جيدًا عامًا بعد عام، حسب كمية الأمطار، عدا عن أن ثمرتي العنب والتين موسميتين. "موسم العنب والتين هو الموسم مصدر دخل موسمي ورئيس، لذا فنحن ننتظره فارغ الصبر ونُولى له اهتمامًا كبيرًا ورعاية جيدة" وفق زهرية.

اقرأ/ي أيضًا: انثروا البذور تحصدوا خضارًا في كل مكان

والعنب في بستان الحاجّة زهرية أنواع، منه "الزراقي، الدابوقي، القريشي، بز البقرة، الزيتاني". ولكل نوع شكل وحجم يختلف عن الآخر، كما تتفاوت نسبة الحلاوة في مذاقِ كل نوع، فيما يحتفظ الدابوقي "بحلاة مُسكرة" كما تصفه ضيفتنا.

وبين الماضي والحاضر فروقات كثيرة فيما يخص موسم العنب وبيعه، "راحة البال واحدة الحمدلله، لكن قديمًا كان الخير كثير، والإنتاج وفير، والأسعار تُناسب البائع والمشتري". أما الآن فالكثير من الأراضي الزراعية تحوّلت إلى شقق سكنية، عدا عن قلّة نسبة الأمطار وارتفاع درجة الحرارة والتي تُساهم بشكلٍ سلبي على انتاج العنب، وفق ما بينّته لنا زهرية.

ويُستفاد من ورق أشجار العنب في إعداد أشهر المأكولات الشامية والتي تُسمى " البيرق" أو ورق العنب أو الدوالي، لكن هل يصلح جميع أنواعه لهذه الأكلة؟ تُجيبنا بنبرة المُعلم: "بالتأكيد لا، فورق العنب إن أردت تذوق طعمه اللذيذ فاختر الورق الزيتاني بالدرجة الأولى، ثم يليه الزراقي والقرشي".

وإجمالاً فإن سعر العنب في أسواق غزة يصل لـ 10 شواكل (3 دولار) للكغم الواحد في بداية الموسم، ثم تبدأ الأسعار بالتراجع لتتراوح من 5-7 شواكل (2-1,5 دولار).

المزارعة الغزية زهرية: ليس أكل ورق العنب يصلح للأكل، لكن الورق الزيتاني أفضله

ولم يحمل موسم العنب هذه السنة أخبارًا سارة للمزارعين، بعكس العام الماضي، إذ كان الإنتاج وفيرًا وامتد لأشهرٍ أطول من المعتاد، فما هي قاعدة الحجة زهرية في التعامل مع العنب؟ أجابت، "اطعميه بيطعمك"، بمعني أنه يحتاج عناية فائقة خلال مراحل زراعته وريًا مناسبًا وحرارة كذلك، كي يؤتي أُكله في الصيف.

اقرأ/ي أيضًا: الزبيب الفلسطيني ما تبقى لكم من حلوى

تبتسم ثم تُضيف، "ما بقدر أعيش من غير ما أمارس وظيفة الأمومة تجاه الأشجار" سألتها باستغراب أمومة!  فأجابت: "حقًا هذا ما أشعر به تجاه كل شتلة في البستان، فأنا لا أستطيع النوم خلال النهار لأتابعهم، وقبل طلوع الشمس، يبدأ يومي، ولا أرتاح إلا حين أشرف أنا بنفسي على الري والتعشيب، وجني الثمار".

وتُشاركنا بموقفٍ لا تنساه، في ليلة من ليالي العدوان الإسرائيلي على غزة قبل الانسحاب عام 2005، إذ كانت دبابات الاحتلال الإسرائيلي قد اقتحمت الحيّ الذي تسكن فيه الحجة زهرية مع عائلتها، واتخذ الجنود من سطح بيتها ترسانة لحماية أنفسهم ومراقبة خط البحر. تُبين زهرية أنها لم تكن في البيت، وحين علمت بوجودهم في بيتها عادت له، "كان الخوف يُساورني بالطريق، وبين التقدم والتراجع خطوة، لكن في النهاية تغلبت على الخوف ومشيت نحو البستان فسألني الجندي وين رايحة؟ قلت له أريد ري المحاصيل، أو اقتلني، فلمّا أصررت سمحوا لي بالدخول وسقي الأشجار".

ولا يقتصر استخدام العنب والتين على أكلهما فحسب، بل من الممكن تجفيفهما ليُصبحا "زبيب وقُطّين"، وتصنع بعض العائلات الخل، الدبس، والمُربى من كلا الصنفين. 

سألنا المزارعة الغزية زهرية: أين تجدين نفسك لو لم تكوني مزارعة؟ فأجابت بعد ضحكِة: "غير مزارعة بقدرش"

وإليك طريقة الحجة زهرية في تجفيف العنب. فهي أولاً تختار الثمار الناضجة ذات اللون الأصفر، وتغسلها بماءٍ عليه قطراتٌ من زيت القلي لتنقيتها من الأتربة وآثار المبيدات، ثم تنشر الثمار في صواني للتجفيف وتكون معرضة لأشعة الشمس مباشرة، وعند ساعات المساء يجب تغطيها بقطعة قماش خفيفة خوفًا من الرطوبة.

أما التين، فتختار النوع البحري منه وتغسله بالماء، ثم تنشره في صواني وتعرضه لأشعة الشمس بشكلٍ يومي حتى يجف، وكذلك تُغطيه عند ساعات المساء، كي لا تفسده الرطوبة.

ومدة التجفيف تعتمد بشكلٍ رئيسي على درجة الحرارة، كذلك التيارات الهوائية التي تتعرض لها الثمار، لكن غالبًا يحتاج العنب لثلاثة أيام متواصلة، أما التين  فقد يحتاج لشهرٍ كامل، ومن ثم يتم تعبئته في علب مناسبة للحفظ.

والتين، ثمرة يبدأ حصادها نهاية شهر حزيران/يونيو حتى نهاية شهر تشرين الأول/أكتوبر من كل عام، وقد تحدثت زهرية عن فوائد هذه الثمرة في تقوية الدم، وزيادة نشاط الإنسان. كما يُستخدم لبن التين في علاج بعض الأمراض الجلدية كالثآليل، وفق ما أفادتنا به.

في نهاية حديثنا معها سألتها أين تجدين نفسك لو لم تكوني مزارعة؟ فأجابت بعد ضحكِة: "غير مزارعة بقدرش".


اقرأ/ي أيضًا:

صور | كنز مدفون في إحدى دفيئات وزارة الزراعة بغزة

فيديو | غابة صبار في غزة

الفييجوا في غزة.. العين على الاكتفاء ثم التصدير