01-يوليو-2019

في فناء منزلها الذي تلفحه الشمس وتشتم منه رائحة البحر، تداوم الحاجة فاطمة اللحام (71عامًا) منذ أكثر من خمسة عقود على ممارسة هوايتها في صناعة الأواني المنزلية التراثية، مستخدمة سعف أشجار النخيل التي تنتشر بكثافةٍ في محيط منزلها الريفي الواقع في منطقة المواصي غرب محافظة خانيونس.

فاطمة اللحام تُنتج الأواني المنزلية منذ أكثر من 5 عقود في منزلها الذي تشتم منه رائحة البحر في خانيونس

على أرضية منزلها الذي تكسوه رمال البحر الذهبية، وتحتضنه جدران الصفيح المهترئ، تربعنا لمشاهدة عملية صناعة الأواني والتعرف عن قرب على تفاصيل حرفة "الخواصة" كما كان يطلق عليها قديمًا.

بأصابع يديها اللتين شققهما الزمن، تُمسك الحاجة فاطمة بإبرة كبيرة تطلق عليها اسم "الميبرا"، مشكوكٌ في نهايتها ورقةٌ ذهبيةٌ مرنةٌ من سعف النخيل تصنع منها عقدة صغيرة، ثم تحيطها بمجموعةٍ من سيقان نبتة "الحلفا"، ثم تعود لتنسج حولها بقطعةٍ ثانيةٍ وثالثةٍ من سعف النخيل بدقةٍ متناهية، تكرر هذه العملية مئات المرات لتصنع بعد جهدٍ طويلٍ طبقًا جميلاً ومزركشًا على شكل دائرة حلزونية.

ابنة الـ 15

"تعلمت هذه الحرفة وأنا فتاة صغيرة بعمر الخامسة عشرة من والدتي التي كانت هي ونساء جيلها يُتقنَّ هذه الحرفة. كنت أراقب حركات أصابع يديها وهي تمسك بالإبرة وأعواد نبتة الحلفا -نبته لينة- وتبدأ في صنع أشكالٍ مختلفةٍ من الأطباق التي كانت لا تخلو من أي بيتٍ آنذاك" تقول فاطمة.

اقرأ/ي أيضًا: أبو جميل الريس.. ملك الأنتيك في غزة

وتُبين أنها بدأت تصنع هذه الأطباق تدريجيًا، "وكُلّما نجحتُ في صناعة طبقٍ جديدٍ، كانت والدتي ووالدي يصفقان لي بشدة ويكافئانني بمنحي بعض قطع الحلوى، وكانت والدتي تبيع هذه الأطباق في السوق العام في الستينيات والسبعينيات، وفي بعض الأحيان كان التجار المصريون الذين يأتون إلى غزة يشترون منها ويبيعونها في مصر".

ميبرا وأعواد ذهبية

"الميبرا" -إبرة خياطة معدنية كبيرة- وسيقان نبة الحلفا، وأوراق سعف النخيل، وبعض الأصباغ الوردية والحمراء اللون، هذه فقط أدوات الحرفة، "صحيح أدواتها بسيطة لكنها حرفة صعبة وبدها طولة بال، ولا أعلم أحد يمارسها اليوم سوى سيدة واحدة فقط في مدينة خانيونس" قالت فاطمة.

وتبدأ رحلة عملية صناعة الأطباق عبر جمع الحاجة فاطمة مع زوجها الثمانيني "أبو العبد" أوراق سعف النخيل اللينة من الأراضي الخالية والمجاورة لمنزلهم المتواضع، ثم تجففها بعد ذلك بعنايةٍ تحت أشعة الشمس حتى لا تيبس، فيؤدي ذلك إلى تكسرها أثناء عملية صناعة الأطباق.

"الخواصة أدواتها بسيطة لكنها حرفة صعبة وبدها طولة بال"

وبعد تحول أوراق سعف النخيل من اللون الأخضر إلى الذهبي، تعمد الحاجة فاطمة إلى حفظها في قطعةٍ قماشيةٍ أعدتها بشكلٍ خاص تضمن الحفاظ على رطوبتها المناسبة وعدم تعفنها.

وحال طلب أحد الزبائن أو الجمعيات صناعة طبق معين من فاطمة، فإنها تستخرج الأوراق المجففة وتنقعها في الماء مدة نصف ساعة، حتى تكسبها نوعًا من المرونة لتبدأ حياكتها بسهولة ويسر.

تحف فنية وتراثية

وتتنوع أشكال القطع التي تصنعها فاطمة ما بين سلال الخبز والأطباق وصواني الضيافة بألوانها الزاهية، كما تصنع العديد من الأواني بغرض الزينة كصبابات القهوة والفناجين والأطباق المستديرة، إضافة لـ"المرجونة" الذي هو وعاءٌ كبيرٌ كانت تُوضع بداخله أواني الطبخ المعدنية لحفظ حرارتها.

اقرأ/ي أيضًا: الفلاحات مُطيّنات البيوت

وعلى الرغم من التراجع الكبير والعزوف عن شراء هذه المنتوجات في ظل انتشار الأواني الزجاجية والبلاستيكية ذات التصاميم العصرية في الأسواق، إلا أن هناك فئة من الناس لا يزالون يقبلون على شرائها ويستخدمونها في بيوتهم كقطعٍ تراثيةٍ وفنيةٍ تذكرهم بأجدادهم وتاريخ بلادهم.

وإضافة إلى كون هذه الحرفة تشكل مصدر رزق متواضعٍ لها ولعائلتها، فإن الحاجة فاطمة تتمسك بهذه الحرفة كونها تشكل جزءًا مهما من التراث والتاريخ الفلسطيني القديم، "فمن لا ماضي له لا حاضر له أيضًا" وفق قولها.

وتضيف، "هذه الأطباق تتميز بعدة أشياء عن مثيلاتها المستوردة والمصنوعة من الزجاج والحديد؛ فهي لا تصدأ ولا تنكسر، كما أنها خفيفة الوزن وتتحمل درجات الحرارة، لذا كان سكان غزة في الماضي يقبلون على شرائها ويحرصون على اقتنائها في بيوتهم".

توريث الحرفة

وتسعى فاطمة إلى توريث هذه الحرفة إلى الأجيال الجديدة خوفًا من اندثارها، فسرعان ما تستجيب لطلب أي مؤسسةٍ تدعوها للمشاركة في دورة لتعليم هذه الحرفة.

ولا تدخر فاطمة جهدًا في المشاركة بين الحين والآخر في المعارض النسوية والتراثية التي تقيمها المؤسسات والجمعيات المحلية في المناسبات والذكريات الوطنية، وتجد فيها فرصة لتسويق أعمالها وتعريف الجيل الشاب على هذه الحرفة التراثية القديمة.

وتتمنى المرأة السبعينية أن تجد أي جهة تدعمها في تسويق منتوجاتها، فهي لا تبيع سوى عدة قطعٍ طوال الشهر بعائدٍ ماديٍ لا يكفي لتلبية احتياجات عائلتها وزوجها الثمانيني.


اقرأ/ي أيضًا:

"تشبارة" الفلاحين.. صناعة حققت اكتفاء ذاتيا قبل قرن ونصف

صور | بالتجسيم.. نورا جردانة تفضي لـ"شيكيم" بسرها

سوق الرابش.. ليست ذاكرتنا وحدنا!

دلالات: