29-يناير-2019

قيل إنها الخُبّيزة، أو الخُبازي، وهي أيضًا الخُباز، أو الخبازة، والخُبيز، والبقلة. وهي إضافة لأسمائها العديدة بين التذكير والتأنيث، توصف بأنها "سِتُّ الطناجر"، أي سيّدتها، وتكمن قُـوّة حُضورها في كونها نباتًا شائعًا ومفيدًا وصحيًا وله جُملةٌ من المنافع الطبّية، والأهم هو توفرها بكثرة، والحصول عليها لا يحتاج لمجهودٍ أو نُقود، ولأجل ذلك سمّاها الفلسطينيون "رَبيعُ المَعِدَة". تقوم فلاحاتٌ اليوم بقطفها وتبقيلها ضُممًا ضممًا، ثم بيعها في أسواق المُدن لمن يشتهيها ولا وقت عنده لجمعها من البرية، وهُنَّ يُنادين: "خضرا وطرية يا خُبيزة"، "خضرا وبتشهي يا خبيزة".

الخُبيزة نباتٌ عُشبي حَوْليٌ شتوي، من فصيلة الخبازيات المُنتشرة أنواعها حول العالم، وهي مُغطاةٌ بزغبٍ تتبع الشمس حيث دارت

والخُبيزة نباتٌ عُشبي حَوْليٌ شتوي، من فصيلة الخبازيات المُنتشرة أنواعها في جميع أصقاع العالم، وجذرها مُتعمقٌ في التُربة، لها ساقٌ ممتدٌ وأوراقٌ شبه دائرية، وهي مُغطاةٌ بزغبٍ تتبع الشمس حيث دارت. وفيها ضُرِبَ المثل بالرجل المُتلوّن المُتتبع لمصلحته، "فلان مثل ورق الخبيزة وين ما دارت الشمس بدور معها".

اقرأ/ي أيضًا: خبيزة غزة.. لموائد المسحوقين رفيق

قال عنها داوود الأنطاقي في كتابه التذكرة: "الخُبازي اسمٌ لكل نباتٍ يدورُ مع الشمس حيثُ دارت، ويطلق في العُرف الشائع على نبت بري مُستدير الورق. وتُدرك في أكتوبر حتى آخر الشتاء".

وتنبت الخبيزة في درجة الحرارة المُعتدلة المائلة للبرودة، وتحتاج إلى رطوبةٍ أرضيةٍ وجويةٍ معتدلة، وهي من أوائل الأعشاب التي تنمو أواخر الخريف وتعيش طوال فصل الشتاء. وفيرةٌ وأفضل أماكن نُموها بالقرب من الوديان والأنهار والسياجات وسواقي الماء ومرابض الغنم والبقر، وكذلك في الخِرَب وأماكن تجميع روث الغنم "الزبل"، وفي الأراضي غير المزروعة.

وتنبت الخُبّيزة بكثرة في هذه الفترة، وقد يصل ارتفاعها في بعض الأحيان لأكثر من متر، خاصة في مرابض الغنم والبقر. وفي المثل نقول: "كبرتي يا خبيزة وطلعتي ع المزابل". وحين نرى رجلاً مُتكبرًا على أصله نقول له: "كبرتي يا خبيزه وبطلتي تطلعي ع الوديان".

يقول كبار السن أنها سُميت بالخبيزة لأنها تكون بديلاً عن الخبز في الشتاء، حيث يكثر جمعها وطبخها وأكلها. رأيٌ ورد ما يُؤيده في قاموس سميت للتوراة، حيث ذكر أنه في سنة 1600 مرّ بأناسٍ قرب القدس يجمعون الخبيزة كبديل عن الخبز. وقيل إنما سُميت بذلك لأن ورقتها ذات وجهين كرغيف الخبز، وجهٌ مُقمر على الرّضف "حجارة الطابون"، ووجه شِبهُ أملس. وفي ذلك قيل في المثل: "فلان زي ورق الخُبيزة ما بتعرف له وجه من قفا".

قيل إن اسم الخُبّيزة جاء من استخدامها بدل الخبز في الشتاء، وقيل لأن ورقتها ذات وجهين كرغيف الخبز

ويترقب الفلاحون نبات الخبيزة بنوعٍ من الاستبشار، ذلك أنها رمزٌ للخير ووفرة الطعام المجاني في الشتاء، حيثُ تقل المونة ويكادُ ينعدم القمح لصناعة الخُبز، ولذا قالوا: "خُبيزة ولبن يكثر، وافشر يا الغلا افشر". فتأتي الخُبيزة مع موسم ولادة الأغنام، حيثُ يكون اللبن حاضرًا، والخُبيزة واللبن يُغنيان عمّا سواهما. ولهذه الخُبيزة التي تُبَكّرُ بالنضوج قبل فصلِ الربيع تُرفع راياتُ المجد: "الراية البيضة للخبيزة والعشبة البدرية". وكذلك قولهم:

يا خبيـزة في الوديان تـتبـسـم زي الـسـتات

يا خضرا برفع لك رايات في سنين الغلبات

حضورٌ مميز للخبيزة في وقتٍ هامٍ للفلاحين، وهو ما يدفعهم مع حُلول أول الأمطار في الخريف للنزول إلى الغور للتعزيب، فيكون قُوتُ طعامهم الأساسي من الخبيزة والخُضروات والأعشاب الأخرى التي تنبت في الأغوار، و"لولا الخبيزة والقَطَفْ كان العُمر انقصف". لكن تبقى الخبيزة مُقدمةً على كل النباتات ولها حقُّ الدّلع، "ادلعى يا خبيزة في الزبادى العوج"، "ادلعي يا خبيزة ما ظل في الخضار غيرك".

ولا يغيبُ عن الفلاحين المُفاضلة بين الخبيزة والعكوب الذي يُعتبرُ الأغنى سِعرًا والأكثر طلبًا، وطالما أن العكوب يتأخر قليلاً عن موسم الخبيزة، فمن حق الأخيرة أن تأخذ مَجدها، "إذا غاب العكوب إلعبي يا خبيزة". ومع ذلك فإن هناك من ينحاز للخبيزة ضِد العكوب: "الخُبيزة سِت الطناجر، والعكوب شوكه مَلّى الحَناجر".

موسم تَبْقيل الخُبيزة هو موسم "الخراريف" للنسوة، وهو موسم رحلة وفسحة

وموسم تَبْقيل الخُبيزة هو موسم "الخراريف" للنسوة، إذ يلتقين ويجلسن لتبادل الحكايات والأخبار، ناهيك عن كون هذا الموسم رحلة وفسحة. وفي الدلعونا يُقال على لسان هؤلاء النسوة:

نزلـنا ع الغـور انْبَقّل خُبيزة

خضـرا وطريّه مثل الهريـسـه

ادلع يا وليفي وانـوي عَ الجيزة

كـرمى للنبي واللـي يحـبـونـا

فتنشغل النسوة بالتنقل من مكان لمكان، وقد طاب لهن الكلام، ناسيات مُهمتهن في تَبقيل الخبيزة، و"من نّقلت ما بَقلت"، فيضيع نهارهن في القيل والقال، ويقول فيهن الرجال: "عكوب ما عكَّبت، وخبيزة ما بَقَّلت، بس ريتها روحت قبل ما الشمس غابت". وبعض النساء يُقال فيهن: "عكوب ما عكَّبت وخبيزه ما بَقَّلَتْ، جابت طنعشر (12) صبي وبتقول أنا بنيّه".

اقرأ/ي أيضًا: الزبيب الفلسطيني.. ما تبقّى لكم من حلوى

ومما تقوله النساء على لسان أوراق الخبيزة أثناء تَبقيلها:

الخـبـيـزة تـقـول تـقــول

ابن عمتي يا قرين الفول

أنا قـلعـوا شـــروشــــي

ما خلـوا لي عرق يقـوم

ويعتبر طبيخ الخبيزة من رموز الطعام الشعبي الذي لا مُفاضلة فيه لأحد ولا تكبّر معه، ولذا كان الناس يطبخونه بأكثر من طريقة، فيكون إفطارهم وغداءهم في فصل الشتاء، ولذلك قيل "بوكل خبيزة وبستر غُربتي". ومرحبًا بالخبيزة كُل وقت، فهي خيرٌ من أن تأكل لحمًا بالدين من تاجر سيطالبك بثمنها، وفي هذا المعنى قيل: "بوكل خبيزة وبستر عرضي، ولا أوكل لحمه بالدين وأعيب".

ولأن طبيخ الخبيزة طبقٌ شعبيٌ عام، فغير مقبولٍ من آكله التكبر و"شوفة الحال"، وعلى هذا الأساس جاءت الأمثال الساخرة: "الفشر والنشر والعشا خبيزة"، "النبرة كبيرة، والعشا خبيزه". وهو طبقٌ لا يحتاج إلى التوابل والبهارات، ولذا يُقال لمن يظهر عليه البطر بسبب أمواله: " إللي معاه مصاري بِرُش على الخبيزة بهار".

طبيخ الخبيزة طبقٌ شعبيٌ عام، فغير مقبولٍ من آكله التكبر و"شوفة الحال"

ونقول لمن يقتله هَمُّ بطنه ويطيُر مُسرعًا إلى بيته يُريد أن يلتهم الأخضر واليابس بسبب الجوع: "بركض بركض والعشا خبيزة"، وهذا يُقال أيضًا لمن يتعب كثيرًا في عمله ويحصد القليل، وهو على غرار "صام صام وأفطر على بصلة".

ويُحكى أن صبيَّة كانت تُبقل الخبيزة، فمرّ بها شابٌ وقال لها مُلمحًا لغناه وفقرها: "أهدر يا دست الخبيزة، مالك بلحم الغصيب نصيب"، ولما تكرر الأمر منه تتبعته حتى عرفت مكان بيته، وذهبت في اليوم التالي وسألت والدته كيف تُشعلين النار؟ فقالت: "بنسل من الحصيرة كل يوم شوي"، بمعنى أنهم يوقدون كل يوم جزءًا من الحصيرة بسبب فقرهم، فقالت قاطفة الخبيزة لنفسها: "بوكل خبيزة وبستر عرضي، ولا بأكل لحم الغصيب وأعيب". فلما مرَّ بها الشاب في اليوم التالي وعاب عليها قطف الخبيزة، قالت له: "رحنا ع داركم شفنا حوالكم، لقينا قش الحصيرة إلكم وكيد".

تاريخ حافل بالمنافع

للخبيزة تاريخٌ قديمٌ ومنافع لا تحصى، فقد قيل إنها عُرِفَت منذ القرن الثامن قبل الميلاد، حيث كانت تُستخدم كخضارٍ وعلاجٍ كما يقول مؤرخون.

اقرأ/ي أيضًا: المفتول: طبخة النبي سليمان

وأوردت الموسوعات والكتب الطبية القديمة كما الحديثة للخبيزة قوائمَ ومعلومات لا عدّ لها من المنافع والفوائد للجسم وأعضائه، وذكروا أهميتها المناعية والعلاجية، تحديدًا في فصل الشتاء، حيثُ تكثر النزلات والإصابة بالبرد. وليس غريبًا أن يقول الإيطاليون عنها في القرن السادس عشر بأنها "علاجُ كُلِ الأمراض". ونحن نقول عنها "الخبيزة كلها منافع"، وهي تحتوي على معادن وفيتامينات عديدة، وموادّ فيها فوائد وقائيّة من الكثير من الأمراض.

الخبيزة أطباق ومذاقات

 يقول المثل المَطبخي للنساء: "لا توري جوزك طبيخ الخُضر ولا لحم البَقر"، لأن الخُضروات ومنها الخُبيزة ومثلها لَحم البقر يَنكَمِش عند الطبخ وتصبِحُ الكمية صَغيرةَ الحجم.

 وتطبخ الخُبيزة بعدة طرق، وتُصنعُ منها أطباق متنوعةٍ لسهولة طبخها وسرعة نُضجها، وإعدادها لا يحتاج لوقتٍ، ومن هنا جاء المثل "يا مخرطه الخبيزه ما تنضفى لها الطربيزه".

ويُذكر من أطباق الخبيزة، الشختورة "خُبّيزة مع الأرز"، والمغمومة "الخبيزة مع البرغل الناعم المنقوع"، والحوسة "الخبيزة مع الزيت والبصل"، والبحبوثة أو لمفتلة "الخبيزة مع مفتول الطحين"، والخبيزة باللبن.

ولإعداد حوسة الخبيزة، يُفرم البصل ويُحاس بالزيت، ثُمَّ تضاف إليه الخبيزة المفرومة وتحاس مع البصل، وحين تنضج يُضاف لها الليمون وتؤكل مع الخبز. وقد يُضاف لحوسة الخبيزة البيض.

أما الخُبّيزة بالأرز فتطبخ  بأكثر من طريقة، منها، ترتيب الخُبّيزة في وعاء الطبخ على شكل طبقات تفصل بين كلٍ منها طبقة أرز، ثم تغمر بالماء ويضاف لها الملح والسمن وتطبخ حتى ينضج الأرز. وفي طريقةٍ أخرى، تُفرم الخُبّيزة ناعمة ويُضاف لها الماء والأرز، وهناك من يطبخها كالملوخية ويُقدمها في الزبادي بجانب صحون الأرز.

 وتُطبخ الخُبّيزة أحيانًا على طريقة ورق العنب "الدوالي"، إذ يُلف ورق الخبيزة محشوًا بالأرز، وأخريات يضفنه لأقراص السبانخ والسلك، وشربت عند أحدهم عصيرًا للخبيزة مع البرتقال!

تطبخ الخُبّيزة مثل الملوخية، أو على طريقة ورق العنب، بل تُشرب عصيرًا مع البرتقال!

 ومما يجب معرفته أن لأكل الخبيزة وطبخها أوقات، فهي تطبخ في أوّل موسمها لعميم فائدتها، لكنها في آخر الموسم لا تصلح للأكل، وقد اختصروا خلاصة تجربتهم تلك قائلين "أولها شَرْبَة وآخرها مَرْضَة"، أو "أولها دواء وآخرها بلاء". يقصد بذلك أن الخُبّيزة أول نموها تكون خضراء طرية لها أوراق ناعمة، وعند الطبخ تكون لذيذة شهية، وتَعمَلُ على تنظيف المعدة كأنها شَرْبَة طبية، لكنها في آخر عُمرها تكون قاسية وسيقانها غليظة وأرواقها خشنة، وتنبُت لها بذورٌ تشبه حبة الترمس تُسمى "القِطْميس"، ويقال عنها "ترمست الخبيزة" أو "كبرت الخبيزه وعرنست"، حينها لا تصلح للطبخ والأكل.

ويصلح للطبخ في الخبيزة الأوراق والقصبة، أما العروق فإنها قاسية، وكبار السن يشكون منها ومن سوء مذاقها، "خبيزة بعروقها حلف الشايب ما يذوقها، وإن ذقتها ما ذاقها، وإن ذاقها ما أذوقها".

ويا طيب الخبيزة حين تكون طبختها مَحلاً للغزل والتلميح للسيدات الجميلات، كما في قولهم:

عـزمـوني عَ العـشــا آه يا بولاحة ..  وأتـاري العـشــا خُبيـزة وبطرف عيني لاحة

عشا مو قصدي عشا آه يا بولاحة .. والله قصدي أبو الغميزي وبطرف عيني لاحة

ولكثرة ما تطبخ الخبيزة في الشتاء، وُلِدَت نكاتٌ وطرائف كثيرة حولها، لعل منها قصة الرجل الذي كانت زوجته تُعدُّ له كل يومٍ طعامًا من الخضروات، ومن ذلك أن امرأة طبخت لزوجها عدة طبخات من الخضروات في أيامٍ متتالية، "خبيزة، سلك، لوف"، ثم بعد ذلك سألته: "شو أطبخلك اليوم؟"، فأجاب، "ريحي حالك اليوم برعى لحالي".

ومن طريف ما يُحكى في هذا السياق أيضًا، أن رجلاً كان متزوجًا من امرأة ضخمة جدًا لكنها كسولة، ومن كسلها أنها كانت تعد له الخبيزة طعامًا للعشاء طوال الشتاء، فشكى حاله قائلاً: "دِرْهَبَّعْ أو دِرْهَبّا والعشا خبيزة"، أي ليس من الإنصاف أن تكون له مثل تلك الزوجة، وأن يتعشى مثل هذه الأكلة كل يوم.


اقرأ/ي أيضًا:

"لحم الفقراء" في تراث فلسطين

هذا ما تبقى من أكلات فصل الشتاء

انثروا البذور تحصدوا خضارًا في كل مكان