02-ديسمبر-2019

بتاريخ 24 تشرين أول/أكتوبر 2019، قرر قاضي محكمة صلح رام الله إحالة المادة 39 من قانون الجرائم الإلكترونية للمحكمة الدستورية، بعد أن قرر قبل ذلك التاريخ بأسبوع حجب 59 موقعًا إلكترونيًا بناءً على طلبٍ من النيابة العامة، حيث قدم له إثر ذلك طلبٌ من الهيئة المستقلة ونقابة الصحفيين للرجوع عن الحكم الذي أصدره دون أن تتقدم له النيابة العامة بالموجبات التي تبرر الحجب، وبدل تراجع القاضي عن قراره  آثر تحويل المادة القانونية التي أُغلِقَت بها المواقع المذكورة إلى المحكمة الدستورية للبت في دستوريتها.

سرُّ حجب المواقع أو الجهة التي قررت الحجب بقي غامضًا، رغم تنصل الحكومة والرئاسة من قرار الحجب

رغم مرور ستة أسابيع على إلقاء حجاب الحجب في حضن المحكمة الدستورية، بعد أن تهربت محكمة الصلح من البت في طلب التراجع مع إبقائها على الحجب قائمًا، لم يصدر حتى هذا اليوم أي قرار عن المحكمة الدستورية، رغم أن الحجب قائمٌ، دون الاكتراث لشبهة عدم قانونية الحجب وما يُلحقه هذا الحجب من ضررٍ بالغ بالمواقع المحجوبة، فسرّ حجبها أو الجهة التي قررت الحجب بقي غامضًا رغم تنصل الحكومة والرئاسة من قرار الحجب.

اقرأ/ي أيضًا: حجب الصحافة.. السلطة تراهن على النسيان

واقعة الحجب بكافة آثارها أُلقيت في حضن المحكمة الدستورية، التي أضحت أقرب ما يكون إلى خلية إدارة الأزمات والخيببات الفلسطينية المتتالية، ويمكننها بفعل حنكتها أن توزان بين المصالح المتناقضة بدرجةٍ تفوق قدرتها على البت بقراراتٍ وفق ما ينص عليه القانون، فلا يمكن لأية محكمةٍ دستوريةٍ أن تعمل في بيئةٍ غير دستورية، لا توجد فيها سلطاتٌ ثلاث، ولا يُحترم فيها مبادئ دستورية ولا حتى قانونية، وبها نظامٌ سياسيٌ يريد أن يظهر في ذات الوقت بقبعة النظام الديمقراطي.

المحكمة الدستورية عليها أن تقرر، وعليها أن تسرع في البت في دستورية المادة المعروضة عليها التي تنص على أنه "لجهات التحري والضبط المختصة، إذا ما رصدت قيام مواقع إلكترونية مستضافة داخل الدولة أو خارجها، بوضع أي عبارات أو أرقام أو صور أو أفلام أو أي مواد دعائية أو غيرها، من شأنها تهديد الأمن القومي أو النظام العام أو الآداب العامة، أن تعرض محضرًا بذلك على النائب العام أو أحد مساعديه، وتطلب الإذن بحجب الموقع أو المواقع الإلكترونية أو حجب بعض روابطها من العرض. 2. يقدم النائب العام أو أحد مساعديه طلب الإذن لمحكمة الصلح خلال (24) ساعة، مشفوعًا بمذكرة برأيه، وتصدر المحكمة قرارها في الطلب، في ذات يوم عرضه عليها إما بالقبول أو بالرفض، على ألا تزيد مدة الحجب على ستة أشهر، ما لم تجدد المدة وفقًا للإجراءات المنصوص عليها في هذه المادة".

على المحكمة الدستورية أن تتاكد من أن هذه المادة تخالف نص المادة 27 من القانون الأساسي الفلسطيني التي تنص على أنه "تحظر الرقابة على وسائل الإعلام، ولا يجوز إنذارها أو وقفها أو مصادرتها أو إلغاؤها أو فرض قيود عليها إلا وفقًا للقانون وبموجب حكم قضائي".   

قرار المحكمة المتوقع صدوره خلال الشهر الحالي، يمكن أن يكون ثلاثة سيناريوهات:

- السيناريو الأول: أن تقرر المحكمة عدم دستورية المادة المذكورة، وتقرر إلغاءها، فعدم دستوريتها ومخالفتها للقانون الأساسي واضحٌ وضوح الشمس، بل بإمكان المحكمة أن تتصدى من تلقاء نفسها للعديد من النصوص المخالفة للقانون الأساسي وأن تقرر عدم دستوريتها، بل وعدم دستورية قانون الجرائم الإلكترونية.

عدم دستورية المادة التي استند إليها قرار الحجب واضحٌ وضوح الشمس، وبإمكان المحكمة الدستورية أن تقرر عدم دستورية قانون الجرائم الإلكترونية

- السيناريو الثاني: أن تقرر المحكمة عدم دستورية المادة المذكورة، وتعيد القانون إلى الجهة التي أصدرته ليتم تعديل المادة المذكورة بما ينسجم والقانون الأساسي الفلسطيني، بحيث يصبح الحجب بموجب حكم محكمة قابل للاستئناف وليس قرارًا قضائيًا.

- السيناريو الثالث: أن ترد المحكمة طلب التفسير شكلاً لأن قاضي الصلح سبق وأن حكم في القضية ذاتها، وكان يتوجب عليه أصلاً أن يحيل القضية إلى المحكمة الدستورية قبل البت في القرار وإصداره، حينها تتوقف إجراءات المحاكمة إلى أن تبت المحكمة الدستورية في شبهة عدم دستورية النص.

المحكمة الدستورية ملزمةٌ في كل الظروف بفك سحر إغلاق المواقع الإلكترونية. ووفقًا للظروف السياسية المعقدة، وغياب مجلس تشريعي يتولى عملية الرقابة وإقرار التشريعات، وبسبب سطوة السلطة التنفيذية، وكي يعاد إلقاء الكرة مرة أخرى، أعتقد أن المحكمة الدستورية غالبًا ما ستتبنى السيناريو الثاني، وتلقي بكرة الحجب مرة أخرى في حضن السلطة التفيذية التي يتوجب عليها أن تعيد تعديل المادة المذكورة.

المحكمة الدستورية ملزمةٌ في كل الظروف بفك سحر إغلاق المواقع الإلكترونية

ويتيح هذا الحل للسلطة التفيذية أن تماطل في إبقاء المواقع المحجوبة محجوبةً بالقدر الذي تراه مناسبًا قبل أن تعمل على تعديل المادة المذكورة.

اقرأ/ي أيضًا: كم يخجلني حجبكم للمواقع الصحافية؟

بهذا السيناريو تكون المحكمة الدستورية قد حكمت وفق القانون، وألقت بكرة الحجب في حضن القضاء مرةً أخرى، وإلى أن تبت كل هذه الجهات بما يتوجب عليها، تكون الأشهر الستة للحجب قد أوشكت على الانتهاء، وتكون القضية برمتها طي النسيان، وتكون كل سلطات البلد قد ضربت للعالم مثلاً يحتذى به في تطبيق سيادة القانون، وحققنا مثل "اتركها بتموت لحالها".

السناريو الثالث، هو سيناريو وجيه من ناحية قانونية، لكنه يبقي المشكلة قائمة، إذ تقوم المحكمة بواجبها برد الدعوى شكلاً، وتعاد الكرة مباشرة إلى حضن القاضي الذي أصدر القرار دون تحكم الدستورية بعدم دستورية النص، وتبقى القصة عالقة، وهو سيناريو أقل حظاً من الأول، لكنه يمكن أن يشكل رأيًا مخالفًا لقرار يكون أقرب إلى السيناريو الثاني المُبيَّن أعلاه.

أما السيناريو الأول، وهو الأكثر وضوحًا، وهو الحكم بعدم الدستورية مع الإلغاء، فقد يكون الأقل حظًا بسبب تعقيدات معادلة الحجب، وإمكانية أن يكون الحجب قد تم على بعض المواقع بناءً على طلب خارجي لا يمكن تجاهله، لكنه سيناريو ممكنٌ، ويشكل مفاجأة سارة في عمل المحكمة الدستورية لو قررت السيناريو الذي نراه الأقل حظًا.

في كل الأحوال ستنجح المحكمة في إدارة هذه الأزمة من خلال سيناريو قد يكون قريبًا من أحد هذه السيناريوهات، لكن السيناريو الذي أُخرِج من المعادلة من وجهة نظري هو أن تقرر المحكمة دستورية المادة 39 من قانون الجرائم الإلكترونية، فمخالفة المادة للقانون الأساسي واضحةٌ وضوح الشمس رغم أنها مرت مرور الكرام على العديد من المؤسسات الحقوقية التي اكتفت بالتعديل وقررت الاستراحة وعدم خوض جولة جديدة في التصدي لقانون الجرائم الإلكترونية، واعتبرت التعديل الذي جرى في عام 2018 انتصارًا ما بعده انتصار، مع أن بعض المؤسسات كشفت هذا العيب وخاطبت به لكن بطريقة خجولة.


اقرأ/ي أيضًا: 

حجب المواقع بالجملة.. وجهة نظر قانونية

خطيئة حجب المواقع الإلكترونية

يوم الحجب الأكبر