06-أكتوبر-2019

لعلّ حاجة المرء في السجن لقراءة شيء يخصّه مبعثها رغبته في أن يظلّ هناك ما يصنع لعالمه الساكن لحظات مختلفة، وما يبدد رتابة الأيام المتكررة بأشياء جديدة، وما يرطّب جفاف روحه بمشاعر صادقة، وما أسهل تمييز الصادق من المتكلّف في تلك المساحة.

     سيظلّ للكلمات دورها في صياغة معالم عوالمنا، أمّا حين تكون حبيسة القضبان فمن شأنها أن تحيي قلبًا ميّتًا، أن تغيّر مسارًا من التيه، وتنير فضاءً من الوعي  

وإن كان للكلمات المتبادلة داخل السجن مذاقها، فلتلك الواردة للأسير من خارجه مذاقها المختلف أيضًا، وكنت أرى مدى احتفاء الأسيرة برسالة تضامنية من غريب تطرق نافذتها وتنتشلها قليلًا من غربتها، واللافت أن رسائل وبطاقات التضامن كانت ترد للأسيرات من متضامنين أجانب فقط، ولم يحدث أن وصلت رسالة من متضامن عربي أو حتى فلسطيني، فكلمة التضامن حين يقرؤها أو يسمعها الأسير ممن لا تربطه به صلة قرابة تداوي لديه جرحًا وتشعره –على الأقل- أنه غير منسيّ ومتروك في عالمه البعيد.

وكان يحدث أن تُقرِئ الأسيرة ما يردها من رسائل أهلها أو المتضامنين لصديقاتها في السجن، فلا أسرار كثيرة هنا، ومساحة –الخاص- ضيّقة جدًا ويشقّ الاحتفاظ بها. لفتني مرة موقف لأسيرتين تجاه صديقتهما التي لم يكن يصلها رسائل، فقد أنشأتا رسالة لها حافلة بكلمات التضامن والمودة، وطلبن من ممثلة الأسيرات أن تسلمها لها على اعتبار أنها وردت من خارج السجن، قرأتها الأسيرة بعينين دامعتين لكنها اكتشفت فورًا حقيقة الأمر، لأن الرسالة مكتوبة على أوراق دفاتر السجن، لكنّها قدّرت لصديقتيها هذا الموقف كثيرًا.

اقرأ/ي أيضًا: السجن وعالم الكلمات (1)

مع نهايات الشتاء المنصرم وصلتني عبر البريد رسالة من ابنتي بيسان، شممتُ فيها عطر قلبها، لكنها أحدثت في فؤادي جرحًا عميقًا، وتحديدًا حينما قرأت: "أهلًا أمي من الرصيف الآخر من الشتاء، ذاك الرصيف البارد الذي وقفتُ به وحدي، أنتظر مظلّة قلبك لتحميني من برد الغياب". وختمتها قائلة: "كوني بخير دائمًا، وتذكري أنني لطالما وقفتُ في وجه العواصف وما مِلت، أفأميل الآن والدرب درب حبيبتي؟".

سكنني الألم بعدها أيامًا طويلة لم أتمكّن فيها من كتابة شيء، بقيتُ كمن يحدّق في الفراغ محاولًا لمس طيف بعيد، داهمني شوق شديد لهم جميعًا، تمنيّتُ لو أستطيع لقاءهم مدة يوم فقط، ثم أعود بعده إلى سجني، بدا لي كم أنّ هذا الغياب طويل وشاق، ويبدو أحيانًا مثل دهر من الآلام فاتني خلاله كثير من الأحداث والأشواق والأصوات المترددة في أعماقي.

       ما أثقل وأعزّ أن ترى في عيني رفيقك في الزنزانة والسجن فرحة حقيقية بحريتك، فيما هو سيمكث بعدك أشهرًا أو أعوامًا      

كانت أيامنا في (غرفة 2) حافلة بسيل من الأحداث التي أصبحت ذكريات، مرّت أيامنا فيها سريعًا –أو هكذا بدت بعد انقضائها- حين كنّا فيها نحن الخمسة (أنا وإسراء لافي وبيان فرعون وإستبرق التميمي وبتول الرمحي) استحدثنا فكرة توثيق الحدث بهاشتاغ، فكل حدث أو موقف، مهم أو مؤثر أو طريف، نرمز له بهاشتاغ مستقى من مضمونه، وندوّنه على دفتر صغير، وقد تراكم على مدى أشهر عدد كبير منها، كان خلاصة معايشتنا ومشاهدتنا مواقف وأحداث كثيرة في سجن الدامون.

حين أطالع الآن تلك (الهاشتاغات) ينسكب في فؤادي شلال من الحنين والابتسام والشوق للّحظات التي شكّلت فسيفساء حياتنا هناك، وأثْرتها وأثّرت فيها. قبل أيام أرسلت لي بيان من سجنها تقول إنه كلما ألمّ بها همّ أو أسى فتحت ذلك الدفتر لتقرأ الهاشتاغات وتُسرّي عن نفسها بالضحك وتذكّر ما مضى من أيام.

في آخر شهر لاعتقالي، وبعد أن تحررت بتول الرمحي ثم إسراء لافي، وقبلهن إستبرق، بقيتُ أنا وبيان فرعون في الغرفة، فانضمّت إلينا ياسمين شعبان، وبقينا فيها إلى حين خروجي، حيث عادت ياسمين إلى غرفتها، وانتقلت بيان إلى غرفة أخرى، فيما بقيت غرفة 2 فارغة، في آخر عشرة أيام لي كنتُ أتفاجأ كل مساء بورقة صغيرة ألصقتها بيان وياسمين داخل خزانتي الحديدية، عليها عبارة مع توقيعهما ورقم اليوم المتبقي لي في السجن، وظل هذا العد التنازليّ مستمرًا حتى آخر مساء لي، حيث كانت البطاقة رقم (صفر) آخر عهدي بعالم الكلمات في (الدامون)، ثم لوحة صغيرة مخططة كانت بيان وياسمين قد أعدتاها مسبقًا تحمل أسماءنا نحن الثلاثة، وموقّعة بهاشتاغ (إخوة الخندق)، وهو مصطلح له حكاية، وله معانٍ ثرية لدى من شاركن في نحته وجعله واقعًا، حلّت عبره الألفة والمودة والتقارب، مكان خصومات قديمة زال أثرها من القلوب والتعامل والعلاقات، في ظاهرها وباطنها، داخل السجن.

     بقدر ما كان العدّ التنازلي لأيامي في السجن يشعرني بدنو حريتي، فقد كان يترك في داخلي حسرة غامضة    

بقدر ما كان ذلك (العدّ التنازلي) لأيامي، الموثّق على البطاقات الصغيرة، يشعرني بدنو حريتي، فقد كان يترك في داخلي حسرة غامضة، فما أثقل وأعزّ أن ترى في عيني رفيقك في الزنزانة والسجن فرحة حقيقية بحريتك، فيما هو سيمكث بعدك أشهرًا أو أعوامًا، وما أجلّ أن تراه منهمكًا في صناعة عالم من الفرح لك، لكي يجعل لحظة خروجك محفوفة بذكريات لا تُنسى، فيما هو سيودِّعك على عتبة القسم في السجن ثم يقفل عائدًا إلى زنزانته، أسيرَ مدة أخرى من الزمن، واللحظات اليومية المتشابهة التي سيعاني منها طويلًا بعدك، قبل أن يظفر بحرية مماثلة.

سيظلّ للكلمات دورها في صياغة معالم عوالمنا، أما حين تكون حبيسة القضبان فمن شأنها أن تحيي قلباً ميتا، أن تغيّر مسارًا من التيه، وتنير فضاءً من الوعي، وأن تشيّد جسورًا من المحبة والثقة والاطمئنان.


اقرأ/ي أيضًا:

رسائل صغيرة كبيرة!

ما وراء الضحكة!

ناصر أبو سرور.. ظريف الطول الذي نادته مزيّونة لـ26 سنة