01-سبتمبر-2020

Issam Rimawi/ Getty

مقال رأي |

الناظر في الخارطة المجتمعية الفلسطينية اليوم، ما بين القمة والقاع، سيجد عواجيز في القمة، القمة الرسمية، القمة المدنية والأهلية، القمة الأكاديمية، وكل القمم، في تجلٍ لطبقية راسخة معيارها السن، بهذا يمكن اختزال الكفاءة والخبرة والمعرفة والحكمة. وفي المشهد الأدنى شباب كفؤ على امتداد واسع يحاول تلمس طريقه وسط الضباب والإحباط المنتشر.

 تبدو هذه البلد مثل "عمارة" سكنية توشك على الانهيار على كل من فيها، والكل عالق، لا يستطيعون إيقاف الانهيار ولا الخروج منها 

نعيش هنا، أي في فلسطين، في العام 2020 سيء الصيت والطالع واحدة من أصعب السنوات، لقد كانت سنة صعبة على العالم، لكنها أصعب علينا بحكم المهددات المتقاطعة. تتعالى مهددات وجودية في كل السياقات، من الناحية السياسية هناك "صفقة القرن" يرافقها "مخطط الضم" الذي يسعى من خلاله تحالف اليمين "نتنياهو – بني غانتس" لتحويل الاحتلال من مؤقت لدائم، وشرعنة سرديات القوة، عبر حكومة أطلقت عليها أوساط إسرائيلية (حكومة الفساد والضم) برؤية استعمارية عنصرية تراكم في سجل الانتهاكات ضد المدنيين الفلسطينيين، بدءًا بالقتل والإعدام الميداني، مرورًا بتقييد الحق في الحركة ومنعه، وليس انتهاءً بهدم منشآت الفلسطينيين أو مصادرتها أو إخلائها منشآت رسمية وتعليمية وترفيهية ودينية وسياحية وطبية وزراعية وتجارية وصناعية، من مركز لعلاج مصابين فايروس كورونا إلى حفر امتصاصية، في عام يستحق بجدارة أن يطلق عليه "عام الجرافات". وهي انتهاكات مرشحة للارتفاع مع تزايد وتيرة إنفاذ اليمين خططه في ضم أراضٍ فلسطينية في الضفة الغربية، طبعًا، ضم الموارد لا السكان.

أما على المستوى الاجتماعي، يتراجع السلم الأهلي وتنتشر فوضى السلاح، جرائم قتل ضد نساء وأطفال وآخرين، ذكور يسقطون ضحايا لشجارات تستخدم فيها الأسلحة، عدا عن ضحايا إطلاق النار في الأعراس والمناسبات، بالرغم من التناقض الإشكالي بين الفوضى والفلتان الأمني من جهة وانتشار الأجهزة الأمنية المكثف غير المسبوق من جهة أخرى، نتيجة تفشي فايروس كورونا، وهو تهديد صحي يمكن اعتباره ثالث الأزمات المهددة تعاني الأطر الرسمية في ضبطه لعوامل متعددة لا مجال لذكرها، ليس أقلها غياب السيطرة على المعابر وحركة العمال، وليس أكبرها ثقافة مشككة في وجود الفايروس تستقي من نظرية "المؤامرة" وتنتشر وينتشر معها الفايروس أمام تشوه أو انكسار بات يمكن تلمسه بوضوح يصيب الوعي الجمعي. 

وكورونا مصائبها لا تأتي فرادى، تضرب الجائحة الاقتصاد الفلسطيني الهشّ أساسًا والذي يعاني تحت وطأة اقتطاع أموال المقاصة في مقتل، قطاع رسمي عاجز عن دفع الرواتب بانتظام، وقطاع خاص عاجز ومشلول عن دفع الأجور والتوظيف، وتضاعف غير مسبوق لنسب الفقر والبطالة، وفوق كل ذلك، قطاع أهلي يترنّح من أزمة التمويل سيما بعد جدلية التمويل الأوروبي المشروط الذي يأتي في سلسلة ممتدة من الضغط على المؤسسات الأهلية الفلسطينية كنتائج لمقدمة رئيسية هي التحريض الإسرائيلي على آخر القلاع الرقابية بعد حل البرلمان الفلسطيني تتويجًا لتعطيله الأسبق، ومظلة القيادات المحلية التي قد تحول دون أي "أسرلة" إن غابت القيادة الرسمية والحزبية أو جرى تغييبها، ومصدر "وجع الرأس" الحقوقي للسلطة القائمة بالاحتلال في المحافل الدولية والمنصات الحقوقية. 

لا تبادر أي جهات رسمية أو حزبية أو مدنية لوضع بديل وحلحلة المشهد، في سياق يغلب عليه رد الفعل العشوائي الانفعالي العابر

أمام كل هذا المشهد المعقد، والذي يزيد من تعقيده الشعور المتزايد في الشارع الفلسطيني بانتشار ممارسات الفساد، وقمع الحريات العامة، لا تبادر أي جهات رسمية أو حزبية أو مدنية لوضع بديل وحلحلة المشهد، في سياق يغلب عليه رد الفعل العشوائي الانفعالي العابر في أحسن الأحوال أو الاكتفاء بلحظة ترقب مريبة للانهيار ومراقبة صامتة لهذا التداعي العريض، وبكثير من الإحباط يحاول جيل شاب متعلم وحيوي ولد في زمن الانقسام الرديء وعاش ويعيش فيه، ولم يمارس حقه بالانتخاب أو المشاركة السياسية أو تولي المناصب العامة الاستمرار. 

إحصائيًا تقول أرقام العام 2020 التي لم يعد هناك من يسعى لتحليلها، إن 22% من المجتمع الفلسطيني من الفئة العمرية (18-29) سنة، بعدد يبلغ 1.14 مليون. وأن 72% من الأسر الفلسطينية لديها شاب واحد على الأقل، وأن نصف الشباب ليسوا في دائرة العمل أو التعليم/التدريب، وأن البطالة تقترب من 40% بين الشباب وتتمركز بين حملة الدبلوم المتوسط فأعلى، مؤشرات تتناقض مع نسبة أمية شبه متلاشية تصل إلى 0.7% وهي نسبة تقارب - للسخرية - نسبة الشباب الفلسطينيين العاملين في مراكز صنع قرار، سواء كمشرعين أو موظفي إدارة عليا والتي تبلغ 0.9% في فجوة مع حضور الديمغرافيا الطاغي ومع منطق التنمية والتغيير والنهوض. 

تاريخيًا، الثقافة الذكورية لم تقمع النساء فحسب، بل الأصغر سنًا، مرتكزة على شعارات تمييزية ضاربة في العقل الجمعي "اسكت خلي الكبار يحكوا". وكثيرًا تقول الأرقام دون أن تجد الآذان التي تسمع قولها. 

 المشكلة ليست في إيجاد الحلول بل في إنفاذها، وأن أزمة الإنفاذ هي أن العواجيز في المتن يتسيدون الأفق ويسدونه والشباب على الهامش 

على طاولة بعيدة في مكان عام بمدينة رام الله، جلس خمسة شباب، تصادف أنهم من القطاع الرسمي (المدني والأمني) والخاص والأهلي، ناقشوا قضايا البلد وتفاعلات أزمتها، ناقشوا الحلول والرؤى الممكنة للتغيير والسيناريوهات، واتضح لكل منهم أن المشكلة ليست في إيجاد الحلول بل في إنفاذها، وأن أزمة الإنفاذ هي أن العواجيز في المتن يتسيدون الأفق ويسدونه والشباب على الهامش، دون أن يقرأ العواجيز إما لعدم الرغبة و/أو لعدم القدرة مؤشرات تململ الشباب من هذا البقاء الإجباري في الهامش، صحيح أنه قد لا يمكن التنبؤ بالتغيير، لكن جذوره تمتد عميقًا ولن يطول الوقت قبل أن تظهر. 

تبدو هذه البلد مثل "عمارة" سكنية توشك على الانهيار على كل من فيها، والكل عالق، لا يستطيعون إيقاف الانهيار ولا الخروج منها. لعل شبابها ينتظرون الانهيار كي يمارسوا إعادة البناء عبر الهدم – إن نجوا - فالأقوى من يصنع لحظة الحاضر، لكن الأفضل من سيصنع لحظات المستقبل.


اقرأ/ي أيضًا: 

"إذا بقول اللي ببالي بنحبس"!!

التَّعليم وإشكالية الحدود في الحيّز والمفهوم

المحافظون وبيضة القبان: تشويه للنظام السياسي