07-فبراير-2021

صورة توضيحية - gettyimages

مقال رأي|

فجأة.. بدا وكأن المؤسسات الإعلامية الفلسطينية انكشفت، وطغي حديث استمرارية عملها بصفته التحدي الأكبر الذي يواجه هذه المؤسسات، في الكواليس والدوائر المغلقة يدور لغط كبير بين المحررين والمراسلين والمصورين..الخ، لا أحد يشعر بالاستقرار أو الأمان الوظيفي، فمؤسسات غير مستقرة لا يمكنها أن تضمن استقرارًا لصحفي أو محرر.. وكأن السفينة ستغرق.

لكن أين المفر؟ فالسفينة تغرق فعلًا.

 كل ما ظهر من انهيار مؤسسات حتى اللحظة ليس إلا قمة جبل الجليد في ضوء أن الأمور في طريقها للانكشاف أكثر.

انكشفت هذه المخاوف بعد ظهور نتائج أولية على عدم استقرار بعض المؤسسات الإعلامية علنًا، حيث قررت إدارة شبكة أجيال الإذاعية (إذاعة خاصة) إنهاء عقود 11 موظفًا، فيما قررت فضائية النجاح (التابعة لجامعة فلسطينية) إغلاق أبوابها بعد سنوات ست على الإطلاق، وفصلت 17 موظفًا في المرحلة الأولى من عملية الإغلاق.

اقرأ/ي أيضًا: زمن إعلامي رديء

غير أن كل ما ظهر من انهيار مؤسسات حتى اللحظة ليس إلا قمة جبل الجليد في ضوء أن الأمور في طريقها للانكشاف أكثر. من دون أن ننسى أن أسبابًا مالية (إلى جانب ضغوط وممارسات احتلاليه) قادت إلى إغلاق قنوات فضائية تابعة لأحزاب فلسطينية قبل سنوات قليلة.

من المهم هنا التنبيه إلى أن فلسطين في هذه الحالة التي نعيشها ليست استثناء، فالعالم كله يشهد مجموعة كبيرة من التحولات، وتبعًا لذلك تغرق أعرق المؤسسات الإعلامية في أكبر مجزرة/ تحول تعيشه مهنة الصحافة.

مدخل للفهم.. 3 أسباب

السؤال المهم هنا هو كيف وصل الإعلام الفلسطيني لنقطة عدم الاستمرار أو التوقف عن العمل؟ وما الطريق أو العوامل التي سار بها هذا الإعلام، وعاش في ظلها، خلال سنوات ماضية، فجعلته يصل إلى ما وصلنا إليه الآن من دون خيارات بلا حول ولا قوة؟

ظل لسنوات طويلة صوت القضية يعلو على صوت المكاسب، تحديدًا تلك التي تضمن أن يستمر الإعلام في أداء عمله وتقديم رسالته

عَمل الإعلام الفلسطيني طوال سنوات طويلة رافعًا شعار القضية، الوطن المسلوب والمواطن السليب. كان ذلك المسار إجباريًا بحكم طبيعة التجربة النضالية التي عاشها الشعب الفلسطيني، نتيجة وجوده تحت سيطرة احتلال إسرائيلي – استعماري. هذا الواقع النضالي أثر على تجربة عمل المؤسسات الإعلامية الفلسطينية وصحفييها وجمهورها العريض، فغالبًا ما كانت أحاديث ربحية المؤسسة الإعلامية ومردود عملها اقتصاديًا تنزوي للخلف كثيرًا، حتى أن البعض عد ذلك نقيصة أو موضوعا جالبًا "للدنس"، في ضوء طهر القضية وقدسيتها التي يجب أن يقابلها رسالية الإعلام والإعلامي، وهو ما تم النظر إليه على أنه يتعارض مع تحقيق الكثير من الوسائل الإعلامية مردودًا ماليًا يمكنها من البقاء والاستمرار وضمان الاستقلالية.

اقرأ/ي أيضًا: فضائيات الجامعات: حداثة التجربة وإشكالياتها

فظل لسنوات طويلة صوت القضية يعلو على صوت المكاسب، تحديدًا تلك التي تضمن أن يستمر الإعلام في أداء عمله وتقديم رسالته، وهو ما جعله أسيرًا لنموذج اقتصادي أحادي يتمثل في أن يتم تمويله من النظام السياسي أو الأحزاب أو رجال الأعمال. فلم يكن الإعلام مشغولًا بالكسب طالما يخدم القضية الفلسطينية، وهو توجهٌ حكم عمل الإعلام الفلسطيني الرسمي والحزبي بشكل خاص، حتى بعد قدوم السلطة الفلسطينية عام 1993 بُعيد التوقيع على اتفاق أوسلو.

الجانب الآخر الذي أثر على تجربة وسائل الإعلام الفلسطينية من منظور اقتصادي، بدأ مع قدوم السلطة الفلسطينية عام 1993، حيث تنامت مؤسسات المجتمع المدني ذات المشاريع الإعلامية، المباشرة وغير المباشرة، وتمددت عبر تلقيها تمويلًا ضخمًا من المؤسسات الدولية والجهات المانحة، وهو ما أثر سلبًا على ظهور نماذج إعلامية مستقلة من ناحية التمويل، أو قادرة على تحقيق توازن بين النفقات التشغيلية ومصادر الدخل الخاصة بالوسيلة، وهو ما ظل لسنوات أمرًا مضمونًا من الداعمين الدوليين.

في السنوات العشر الأخيرة، تعرضت الكثير من منظمات المجتمع المدني ذات المشاريع الإعلامية إلى ضربة كبيرة مع تراجع التمويل الدولي لفلسطين، وذلك بعد أحداث الربيع العربي، فانهارت الكثير من المشاريع، وضعفت بعض المؤسسات الإعلامية وتراجعت خدماتها وقلصت طواقم العمل فيها، وتعرضت أكبر المؤسسات الإعلامية الأهلية لعملية إعادة هيكلة وتسريح للعاملين.

في السنوات العشرة الأخيرة تعرضت الكثير من منظمات المجتمع المدني ذات المشاريع الإعلامية إلى ضربة كبيرة مع تراجع التمويل الدولي لفلسطين

في ضوء المحددين السابقين ترسخت تجربة وسائل الإعلام الفلسطينية التقليدية والرقمية منها، وهو ما أثر على واقع هذا الإعلام في هذه اللحظة الفارقة، حيث جائحة كورونا التي دفعت بتراجع سوق الإعلان إلى نسب متدنية، على أثرها تهدد وجود مؤسسات إعلامية، فأغلقت بعض المؤسسات أبوابها، وقلصت مؤسسات كثيرة من طواقمها العاملة.

اقرأ/ي أيضًا: تعامل السلطة مع الإعلام.. محاولة لفهم الجنون!

غير أن عاملًا ثالثًا تضاعف تهديده لهذه الوسائل مع مرور الزمن، تمثَّل في التطور التكنولوجي الذي أفرز أنماط عمل جديدة وظهور منصات رقمية هرب الجمهور إليها، الأمر الذي ترتب عليه تراجع سوق الإعلانات التجارية الذي أصبح يتجه للمنصات الرقمية بدلًا من وسائل الإعلام التقليدية، وهو أمر زعزع عمل وسائل الإعلام، ووضع استمرار عملها في مجال الخطر في ضوء غياب الجماهير وضعف التأثير أيضًا. فتصاعد الحديث عن مسألة قدرات هذه الوسائل على الاستمرار في ضوء الخسارات المالية التي كانت مضمونة في فترات سابقة من سوق الإعلان التقليدي، أو من الأحزاب السياسية، أو رجال الأعمال، حتى الذين لن يستمروا بالدفع لوسائل عاجزة عن الوصول للجماهير.

تراجع الإعلان.. إنه زمن القارئ

منذ بضع سنوات بدأت تشعر المؤسسات الإعلامية التقليدية بتراجع سوق الإعلان (الضعيف أصلًا فلسطينيًا بفعل اقتصاد هش مربوط بإجراءات الاحتلال)، أصبحت الشركات التجارية تسلك طرقًا جديدةً للوصول إلى المستهلكين من خلال المنصات الرقمية، وهو ما خفّض من حصص جميع المؤسسات الإعلامية من الإعلانات.

بعض المؤسسات الإعلامية ذهبت نحو سلوك "بلطجي" بحق الشركات من أجل ضمان نسبة من الإعلان الذي يجعلها تستمر، كما أن بعض الشركات كانت تذهب بإعلاناتها نحو مؤسسات إعلامية تقليدية لأسباب مصلحية، لها علاقة باستمرار حياة المؤسسة، بمعنى أن بعض الشركات كانت تعلن في بعض المؤسسات الإعلامية من باب تأدية "واجب ما" وليس لوصول الإعلان إلى المستهلكين.

يخبرنا التحول العالمي أن سوق الإعلان أمرٌ لا يجب الرهان عليه، فالإعلانات التجارية لم تعد مصدرًا للاستقرار المالي لوسائل الإعلام كما كانت الأوضاع قبل 10 سنوات

وبالتالي يخبرنا التحول العالمي أن سوق الإعلان أمرٌ لا يجب الرهان عليه، فالإعلانات التجارية لم تعد مصدرًا للاستقرار المالي لوسائل الإعلام كما كانت الأوضاع قبل 10 سنوات، والإنترنت غيَّر نموذج عمل الإعلام التقليدي، ما جعل من الرهان على الإعلانات والاشتراكات، بالفعل الذي لا يضمن عدم الغرق التدريجي وصولًا لتوقف العمل.

اقرأ/ي أيضًا: إذاعة سرية في رام الله

بحسب دراسة "معهد رويترز لدراسة الصحافة" (2020) فإن ما يدفعه القارئ للحصول على الخدمة الصحفية هو الفرصة الوحيدة لإنقاذ الصحافة، فالمحتوى الجيد هو الحل الوحيد لعودة القارئ. أمّا بخصوص الإعلانات، فلن تكفي لدفع الرواتب بعد الآن.

لم يعد الأمر مجرد محتوى جيد!

أمر آخر له علاقة بالمؤسسات ذاتها، تلك التي دائمًا ما كانت ترفع شعار "المحتوى الجيد هو الأساس" بالنسبة لها، لكن اليوم وفي حال استمر التركيز فقط على المحتوى الجيد فأنت في مؤسسة خاسرة لا محالة.

الحلول كثيرة لكنها تتطلب عقلاً منفتحًا ودخولاً لعالم الرقمي بمنطقه، وليس بمنطق وأدوات وطرق عمل الصحافة التقليدية

الحلول كثيرة لكنها تتطلب عقلًا منفتحًا ودخولًا للعالم الرقمي بمنطقه، وليس بمنطق وأدوات وطرق عمل الصحافة التقليدية. من هنا، يتطلب الأمر تنويع مصادر الدخل، ومن أفضل مصادر العائدات المستدامة "تبرعات القراء المنظمين"، فضمان تبرعات القراء يرتبط بالعمل على خلق مجتمع مخلص لك كوسيلة إعلامية، أي قاعدة موالية من القراء، وهو ما يعد أفضل مصدر لتمويل مستدام.

المشكلة فلسطينيًا مضاعفة، فنحن نتقاسم واقع الحال مع العالم في التحديات التي تواجه مهنة الصحافة، لكن يضاف إليها أننا في صميم ظرف سياسي/احتلالي (شبه دولاتي)، وهو أمر يحرمنا الكثير من المكاسب، ويجعل من خطط معالجة الكثير من المشاكل مع المنصات التقنية العملاقة أمرًا أكثر صعوبة.

اليوم أصبحت قضية "عدم استقرار المؤسسات الإعلامية" إحدى المشاكل التي تواجه الصحفيين العاملين، وهي مشكلة كبيرة تضاف إلى جانب مشاكل لها علاقة بالمهنية والسلامة الشخصية وغياب الحريات والرواتب المتدنية..الخ. وللدقة علينا القول إن هكذا مشكلة تضرب صميم العمل الصحفي في هذه اللحظة، كيف لا؟ وهي ترتبط بالمؤسسات الإعلامية التي أعلنت انهيارها أو كادت.


اقرأي أيضًا: 

إعلام وزارة وليس إعلام وزير

 "إذا بقول اللي ببالي بنحبس"!!