08-نوفمبر-2017

لن تتوقف ظاهرة حضور المدن الفلسطينية على الفضائيات الإسرائيلية، وبالتالي لن يتوقّف الجدل حول هذا الحضور بكل ما يحفل به من قضايا تطرح بفعل التحوّلات الكبيرة التي طرأت على هذا الحضور. الإسرائيلي المحتل هُنا يفرض رؤيته علينا ويجعلها مجالًا بديلًا للنقاش، والتقاتل أحيانًا، عوضًا عن الحديث عن الخلاص من الاحتلال.

التطوّر التكنولوجي بدوره جعل من الريبورتاج التلفزيوني الذي يبث على قناة عبرية حاضرًا على حساباتنا الشخصية، والترجمة وعمليات النقل جعلت من المادة التلفزيونية التي صنعت لجمهور إسرائيلي على مائدة كل الشارع الفلسطيني، في ذلك خير كثير، أقلّه أنّك تعرف كيف يراك المحتل، أو كيف يفضّل أن يراك، فالشاشات بمقدار ما تنقل الوقائع تقوم بتشكيلها أيضًا.

هُنا، غنيٌ عن القول أن حضور المدن والمخيمات الفلسطينية يتنوع ويُغزل لأسباب كثيرة، دومًا هناك اعتبارات سياسية، وأخرى إعلامية، وفي أحايين يبدو أنّ الربح التجاري سبب لذلك، وكلّها عوامل تتداخل مع بعضها البعض ويصعب التفريق بينها.

"يتفتّل" المراسل الإسرائيليّ في المدن الفلسطينية، عارضًا التطور الاقتصادي من شركات ومطاعم وفنادق وترفيه ومرافق سياحية، مدهوشًا مما تقدّمه الكاميرا، ناقلًا دهشته للجمهور الإسرائيلي

فقبل سنوات ثلاث شاهدنا ريبورتاجات عن أربعة مخيمات فلسطينية، كان جوهرها تحريضيًا على سكانها بصفتها أماكن مخدرات وأسلحة وخروج على القانون، وجاءت متماشية مع حملات أمنية شنّتها أجهزة السلطة الفلسطينية على بعض المخيمات بعد حوادث خروج عن القانون.

قبل خمسة أشهر حقق ريبورتاجان تلفزيونيان رواجًا وجدلًا كبيرين؛ الأول لمراسل القناة الثانية "أوهاد بن حمو" عن مدينة "روابي" بصفتها مكانًا مختلفًا عن المدن الفلسطينية، وفي الثاني يذهب الصحافي الإسرائيلي "جال برجر" إلى مدينة نابلس، وفيها يعاين أجواء الحياة الليلية ويفحص العلاقة التي تجمع بين المدينة التجارية الأولى وبين الفلسطينيين القادمين من مناطق 48.

في الريبورتاج الأول تناول المراسل مكانًا لا ينتمي للجغرافيا والإنسان الفلسطينيين التقليديين، واحتفى بمن اعتبرهم "الفلسطينيون الحقيقيون الراغبون بالحياة". وفي الثاني حمل تأكيدًا على الانقلاب الحاصل بفعل التحوّلات التي شهدتها مدينة نابلس منذ سنوات، فبعد أن كانت تعج بالمقاتلين أصبحوا مسالمين ويتحدثون عن السلام.

استكمالًا لهذا التعاطي طفت على السطح مجموعة من الريبورتاجات ذات التوجّه الاقتصادي/ السياحي، وفيها "يتفتّل" المراسل "حيزي سيمنتوف" بالمدن الفلسطينية عارضًا التطور الاقتصادي من شركات ومطاعم وفنادق وترفيه ومرافق سياحية.

يبدو المراسل سيمنتوف مدهوشًا مما تقدّمه الكاميرا، ناقلًا دهشته للجمهور الإسرائيلي، "في شنتسل في رام الله؟!"، "...والله!!!"، "في زوار من إسرائيل؟!" أغلب أسئلته رسمت لهذا الغرض وكأنّه طفل صغير دخل مغارة للأشباح ولم يجد ما توقع أو توهم، الفلسطيني بدوره تطوّع بحماسة منقطعة النظير للحديث، مؤكدًا ذلك، بدا أنّ خطاب بناء المؤسسات فعل فعله معنا وتحديدًا فيما يتعلق بالشقّ السياحي الترفيهي والاستهلاكي، نرى ونسمع من يقول: "السياحة بترول الشعب الفلسطيني"، "بوابنا مفتوحة إلكم" (يقصد المجتمع الإسرائيلي)، "عنّا أفضل كنافة بالعالم"، فيما ارتبطت الانتفاضة الثانية بكلمة "للأسف"، الفعل الذي نسف وهم الرخاء الاقتصادي وحمل مطلب الشعب بالحقوق والحرية تحول إلى أمرٍ نأسف لحدوثه، "ظروف الشعب الفلسطيني السياسية تؤثر عليه" هكذا يقول مدرّب فريق كرة القدم من دون أن يحدد ما هية هذه الظروف، بدت مبنيًا للمجهول ومُجهّلة أيضًا، أهي مهارة المراسل عند منتجة مادته التلفزيونية أم جبن المدرب من قول الحقيقة؟!

الموسيقى التي استعان المراسل فيها في بناء ريبورتاجيه (الأوّل في بيت لحم ورام الله ونابلس، والثاني في جنين وبيت ساحور والبيرة والطيبة)، كانت موحية بعالم غريب، وكأنّ الكاميرا تتوغل في مكان غرائبيّ، يبدأ المصور بموسيقى شرقيّة، موسيقى مع خلفية آذان، إيقاع طبلة مع حركة ناس مسرعة بالشارع، موسيقى حديثة وعصرية تلبي حاجة عند الجمهور الإسرائيلي.

في التقارير الإسرائيلية، ارتبطت الانتفاضة الثانية بكلمة "للأسف"، الفعل الذي نسف وهم الرخاء الاقتصادي وحمل مطلب الشعب بالحقوق والحرية تحول إلى أمرٍ نأسف لحدوثه!

يبدو من السابق أن هناك اهتمامًا متزايدًا بالضفة الغربية بعيدًا عن التغطيات الخبرية التقليدية المرتبطة بالعمليات المسلّحة والاعتقالات وقتل "المخربين"... الخ، فبعد أن تثبّت الاحتلال وقلّ الخطر على مشروعه وسياساته ها هو نفسه الذي قدّم المدن على أنّها "مفارخ إرهابيين" يعمل على إعادة إنتاجها في ذهن الجمهور الإسرائيلي.

كل شيء نجح، حدث بشكل متقن، السياسة الأمنية التي يدعمها المجتمع الإسرائيلي ها هي حققت فعاليتها المطلقة، والفلسطينييون في رخاء وبحبوحة عيش، يشعرون بالرضا بالوضع القائم، إنهم شعب "سعيد يعيش تحت الاحتلال".

يترافق ذلك مع شيطنة مستمرة لغزة، مع حلقة طويلة من تقسيمنا، الضفة مشروع سلام ناجح، وغزة مدينة إرهابيين يستحقون الحصار، هذه صورة يتمنى المجتمع الإسرائيلي رؤيتها عن الضفة الغربية والشاشات الإسرائيلية تعزز ذلك، وهي صورة تتماشى مع خطاب "أفيخاي أدرعي" وغيره من المسؤولين الإسرائيلين الذين دومًا ما قدّموا الضفة على أنّها نقيض قطاع غزة، الضفة مكان للفلسطيني الذي يريد السلام وغزة مكان يُعجُّ بالإرهابيين.

وبذا تكون رام الله وغيرها من المدن مكانًا مغريًا ويتضمّن المادة الصحفية المثيرة التي تجعل من الإسرائيلي يصدّق نفسه أكثر، وبمقاييس صحفية مجرّدة فإن ما تفعله القنوات الإسرائيلية يعبّر عن حسّ صحفي جيّد، مواد عن الجار الخطر والذي تحوّل إلى "محب للحياة" في رسالة واضحة للجمهور الإسرائيلي، كما يقول الفلسطيني بلسانه.

يترافق ذلك مع شيطنة مستمرة لغزة، مع حلقة طويلة من تقسيمنا، الضفة مشروع سلام ناجح، وغزة مدينة إرهابيين يستحقون الحصار، هذه صورة يتمنى المجتمع الإسرائيلي رؤيتها عن الضفة الغربية

تغطيات شاشات دولة الاحتلال بمقدار ما تؤيّد الاحتلال نراها تنشط وتشتغل للتربّح منه أيضًا، المواد المتلفزة التي اختارت صيغة الريبورتاج التلفزيوني تحقق نسب مشاهدة عالية، وتجلب الإعلانات، تمامًا كما تفعل شركات الانتاج الدرامي هناك، فعلى سبيل المثال تمكّنت الشركة التي أنتجت مسلسل "فوضى" الذي يحكي عن وحدات المستعربين من أن تبيع الجزء الثاني لشركة Netflix الأميركية، وبإمكان مشاهدين من 130 دولة رؤية العمل، والاطمئنان من وجود هؤلاء الجنود الذين يضعون أنفسهم في الخطر بهدف تخليص العالم من الأشرار.

في نهاية إحدى ريبورتاجات "حيزي سيمنتوف" في قرية الطيبة نراه يزور مصنع النبيذ هناك، ويطلب أن يتذوّقه، ويقول ضاحكًا "سأخرج من هنا سكران"، فيرد عليه صاحب المصنع: "بتطلع مبسوط"، فيرد ضاحكًا: "أنا هلء مبسوط". الجملة الأخيرة هي التي تدخل المشاهد الإسرائيلي، الانبساط، بعد أن يشاهد التطور السياحي/ الترفيهي/ الاستهلاكي الذي نعيشه تحت الاحتلال، وهو أمر يتماشى مع الخطاب الفلسطيني الرسمي ورأس المال أيضًا، لكنّه تطور يقدّم عصرنة خادعة ومشوّهه في أقل وصف لها، ونحن أدرى بأحوالنا.


اقرأ/ي أيضًا:

إسرائيل تحوّل الضفة إلى "جنّة" في إعلامها.. لماذا؟

الإعلام.. جندي لصالح "إسرائيل"؟

نحن والإعلام الإسرائيلي.. ثلاث ملاحظات