29-أكتوبر-2020

المسخّن، أكلة تراثية فلسطينية تستمدّ مكوناتها من البيئة الفلسطينية (Ariana Lindquist)

ليس المسخّن طبقًا عاديًا، ولا هو طبق أسبوعي يصلح لأن يكون حاضرًا على الموائد كالمقلوبة، إنما هو من جملة الأطباق المُشتهاة التي تُعد موسمية أو عند اشتهائه، تمامًا كـ المفتول، وهو نموذجٌ لهوية المطبخ الفلسطيني العريق وتشكّله عبر الزمن.

يتركز صنع طبق المسخن في المناطق التي تشتهر بزراعة الزيتون، وخصوصًا في وسط فلسطين وشمالها

فما أن يُنهي الفلاحون في عموم فلسطين موسم قطاف الزيتون حتى يُسارعوا للاحتفال بإعداد طبق المسخن ابتهاجًا بخير السنة وتقديرًا لجهدهم الذي بذلوه، خاصة أنه طبق أساسه زيت الزيتون الذي يكون وفيرًا في تلك الفترة. وفي ذلك تغنّوا:

وحَبْ الزيتون من الوعر لمّيتي .. عبّيتي الجرة واسندتي البيتي

مسعد ياللي عبّى جراره زيتي .. يعمل مسخن بشهر كانونا

يتركّز صنع طبق المسخن في المناطق التي تشتهر بزراعة الزيتون، وخصوصًا في مناطق وسط فلسطين وشمالها. ويُعتقد أنه بدأ من هذه المنطقة أول الأمر، ثم انتشر في عموم فلسطين والعالم. كما أنه يُعتبر في بعض مناطق الضفة الغربية مُنافسًا أساسيًا لطبق المنسف، من حيث كونه الطبق الأساسي لإكرام الضيف والقيام بواجبه، وكذا طبق ولائم الأعراس وخصوصًا في أشهر تشرين ثاني والكوانين.

ما أحلاها لما التموا الحبايب .. والمسخن حاضر للأهل والقرايب

يا ربي اتجمّع شـملنا الغايب .. وتخلي الفرح بين كروم الزيتونا

 والمسخن كان أيضًا حاضرًا في بعض الاحتفالات وولائم المناسبات الاجتماعية كطعام أهل الميت (الخروجية).

خبز الطابون هو أساس هذا الطبق
يُخطئ من يتحدث عن المسخن من زاوية بساطة مكوّناته التي اعتاد على أكلها مُنفردة

اقرأ/ي أيضًا: كفتة الفلسطينيين.. داود باشا العرب!

ومن اللافت أن بعض المناطق تُطلق تسميات أخرى على هذا الطبق وإن كانت أقل شهرة منها اسم: (المُحمّر) نسبة للدجاج المحمر الذي يعلو الأرغفة ويُزيّن وجه الطبق الشعبي. كما يتم إعداد طبق ساحلي في بعض المناطق شبيه بالمسخن من حيث المكونات فيصنع من الخبز الرقيق (الرقاق) ويضيفون له البصل والسماق، والسمك بدل الدجاج ويسمى: (سمك برقاق).

في البدء كان الخبز

في اللغة نقول: مُسخّن لما يُسَخّن على النار، فقولنا: مَاءٌ مُسَخَّن أي تَمَّ تَسْخِينُه، ومنه قيل عن الخبز البائت إذا سُخّن في الفرن أو الطابون (خُبزٌ مسخّن).

تصطف الدجاجات المحمّرة على الأرغفة المتراكمة فوق بعضها كأنها حُقب التاريخ المُتعاقبة على البلاد

وفكرة تسخين الخبز في الطابون أو التنور كانت شائعة، حتى أنهم كانوا يبللونه بالماء ليصبح طريًا للأكل، أو يتم تحميصه ليصبح شهيًا، وآخرون كانوا يلجأون لدهن الخبز البائت بالزيت والزعتر ووضعه في الطابون، حتى قيل في المثل الشعبي: (إن كان بدك خُبزك يِقِل حمِّصْ وِبِلْ) بمعنى أن تحميص الخبز وبلّه بالماء أو الزيت يجعله شهيًا ومطلوبًا للأكل بكثرة.

المسخن لم يتشكل فجأة، وإنما تكوّن نتيجة تراكم زمني وتفاعل طويل مع مكوناته

وبحسب الشيف الفلسطيني سفيان مصطفى، فإن المسخّن في أصله "رغيف الخبز البائت يُرطّب بالزيت ويُسخّن في الطابون، ومع الأيام استبدل الرغيف البائت بالخبز الساخن الطازج، ثم أضيف له البصل والسماق ليُجَمّل طعمه، ثم ألحق بالدجاج فأصبح وجبة كاملة، وآخر ما أضيف له الصنوبر أو اللوز". فخبز الطابون إذن هو أساس هذا الطبق، مع أنه يُمكن استبداله بخبز الشراك المخبوز على الصاج.

نتعامل مع طبق يُعبّر عن طبيعة الحياة الريفية ووفرة خيراتها

اقرأ/ي أيضًا: فيديو | "زرب" في الطبيعة.. تفضلوا

وإذا كنا نتحدث عن البدايات الأولى لطبق المسخّن الفلسطيني، فمن المهم أن نعي بأن هذا الطبق لم يتشكّل فجأة، وإنما تكوّن نتيجة تراكم زمني وتفاعل طويل مع مكوناته. ولذا لا يمكن أن يكون هناك وقت محدد لتحديد بداية طهيه بشكله الحالي. فيقول مصطفى الذي يؤرّخ للمطبخ العربي، والفلسطيني تحديدًا: "صحيح أن المسخّن لم يُذكر في كتب التاريخ إلا أن حوائجه من رغيف الطابون وزيت الزيتون والسُمّاق تقول بأنه بعمر فلسطين".

نكهة الأرض وطعم الفِلاحة

المسخن طبقٌ يتجاوز فكرة الحاجة للأكل وامتلاء البطن، ذلك أنه يمثّل هوية الأرض ومواسمها وعلاقة الفلسطيني بما في سلته الغذائية من مكونات، فهو يُعبر عن تكامل خيرات البيت الفلاحي، فخبز الطابون كما الزيت لا غنى عنهما، كما جاء في المثل الشعبي (القمح والزيت عماد البيت)، والبصل والسماق واللوز والدجاج كان لا يخلو منهما بيت فلسطيني.

إننا نتعامل مع طبق يُعبّر عن طبيعة الحياة الريفية ووفرة خيراتها، الأمر الذي يجعل موسم طبخ المسخن مرتبطًا بتكامل المكونات وتوفرها لدى الفلاح، بدءًا من دَرس القمح في حزيران/ يونيو، ثم قلع البصل البلدي وتخزينه، مُرورًا بجدّ اللوز في أواخر تموز/ يوليو، وكذا نضوج الفراخ البلدية، ثم ما أن يهل أيلول/ سبتمبر حتى يكون السماق الجبلي جاهزًا في مونة البيت، وأخيرًا يأتي موسم الزيتون في التشارين فيتوفّر زيت الزيتون البكر، وبذا يُمكن أن نجمع كل هذه الخيرات في طبق واحد يُسمى: مسخّن.

يا ام التنورة الحمرا الوردية .. فروجة مسخن ماهي عُتقية

بالله يا بنت طعمينا شــوية .. ومن خيـر السـنة ما تحرمونا

السّر بالوصفة

يُخطئ من يتحدث عن المسخن من زاوية بساطة مكوّناته التي اعتاد على أكلها مُنفردة، لأن سرّ مذاقه مُرتبط بتكامل المكونات، وقد قيل لمن لا يدرك هذا التكامل: (ما بعرف طعم ثِمّه). وفي أغاني الدلعونا يقولون لمن يُنكر طيب هذا الطبق:

على دلعــونا غــرّب وشــرّق .. يا خبز بزيت الزيتون امغرَّق

ريت اللي ما يحب المسخن يغرق .. ويبـلا بالعمى وداء الجنـونا

وكي نفهم طبق المسخّن ونُحسن تذوقه ونعي صلته بهوية المطبخ العربي، علينا أن نقرأه وفق تراتبية تطوره في البيئة المحلية قبل أن يتحوّل إلى طبق عالمي. وأهم ما علينا أن نعرفه هو أساسيات الطبق التي يتكون منها وهي: خبز الطابون، البصل، زيت الزيتون، السماق، الدجاج، اللوز/ الصنوبر، رشة ملح.

يتكامل المسخن بحضور خبز الطابون بما يُثيره من حنين لدى الفلسطينيين لأيام البلاد

يتكامل المسخن بحضور خبز الطابون بما يُثيره من حنين لدى الفلسطينيين لـ "أيام البلاد". فالأرغفة الكبيرة المُشبعة بزيت الزيتون البِكر لدرجة الارتواء حتى يصح وصفها بأنها (رُغفان بتشرشر زيت).

اقرأ/ي أيضًا: هذا ما تبقى من أكلات فصل الشتاء

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by si_shijon (@si_shijon) on

ولا يكون المسخن من غير البصل الذي نفرمه ناعمًا أو خشنًا حسب الرغبة، ثم نضعه في قدر صغير أو مقلاة عميقة مع زيت الزيتون ونحوسه على نار مُعتدلة إلى أن يغدو شفافًا قبل أن يجف ويذبل، ليأتي بعدها السمّاق وهو التابل الرئيس المستخدم في هذا الطبق، ليعطي لونًا أرجوانيًا للبصل والدجاج، ويضيف نكهة حامضية مُحببة. أما الدجاج المُحمّر فأحسنه الفراخ (الصيصان) وبعضهم يستبدلها بالزغاليل، لتصطف على الأرغفة المتراكمة فوق بعضها كأنها حُقب التاريخ المُتعاقبة على البلاد. وفوق كل ذلك تلمع حبات اللوز أو الصنوبر المقلية بالسمن.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by One More Bite ---- (@onexmorexbite) on


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by Heifa ---- (@fufuinthekitchen) on

كل ذلك يُقدم على (سدر) كبير يجتمع حوله الآكلون ليتناولوا اللقم بأيديهم مُحذرين بعضهم البعض من برد الليل، فالزيت قد يطرحك بالفراش إذا لم تكن مستعدًا، ولذا قيل في من يُعَدّ له مثل هذا الطبق: (اطعم الظاري ولا تطعم المشتهي) أي قدّمه للمعتاد على أكل الزيت ولا تُقدّمه لم يشتيهه ومعدته لا تتحمّل زيت الزيتون.

صباح الخير يا ام منديل زيتي .. يا خبز طابون مرنّخ بزيتي

نيال من أكل مسـخن من اديكي .. وكنتي نـور عنيـه والضـيا

***

قالولي احبابك شرّقوا مشرّق .. من يومها وأنا بدمعي متعرّق

وتقول خبـز بالزيـت متغرّق .. يا ربي تجمعنا مع اللي يحبونا

موروث مُشبَع بالزيت

حين أبحث في ثقافة الطعام وأحاول الكتابة عن تاريخ الأطباق أجدني أفتش في حقل الموروث الشفهي، فأنقّب عمّا قيل شعرًا ومثلًا عن هذا الطبق، وهذا يجعلنا مُطمئنين لأصالة وعراقة ما نبحث عنه. واللطيف أن لطبق المسخّن حضوره الذي يليق به في الموروث الشعبي. ففي الدلعونا يغني الرجال:

على دلعونا وعلى دلعونا .. بارك يا رب بشجر الزيتونا

والغدا مسخّن واللبن رايب .. والجوع كافـر ابن الملعونا

على دلعونا وعلى دلعونا .. بارك يا رب بشجر الزيتونا

عَلى المسخن زيته بشهي .. ومنّه بنعمل أحسن صابونا

 لطبق المسخن حضوره الذي يليق به في الموروث الشعبي

ولا تنسى النسوة أن تزغرد للعونة التي تفزع في موسم الزيتون ذاكرةً ما ستقدمه لهم من طعام خُصوصًا في اليوم الأخير من قطاف الزيتون (الجورعة / الجاروعة/ الجيروعة):

آويها وعُـونتـك يبو محمد كُـلهم شبابي

زنـود سُـمر وبيـدهم (عبابي)

تفضلوا وسهرتكم  الليلة ع بابي

وعشاكم مسخن بعد الغروبي

**

آويها وأهـل البلـد يبو محمد أجو يعينوك

صواني المسـخـن مليانة لحم ديوك

يعلى شانهم إللي يبو محمد قدّروك

ويوكلـوا من زادك الحسن الطيّـاب

ونسمع جدّادة الزيتون يقولون أبيات الحدّاية أثناء قطف الزيتون ومن ذلك قولهم:

يا جداد دير بيمينك .. عبر الزيت براميلك

واحنا حلفنا الليلة .. نوكل مسخن بالزيت

ويحضر ذكر المسخن في التناويح والبكائيات التي تقال في الندب على الميّت في بعض القرى باعتباره من الأطباق الأساسية في مطبخهم الشعبي:

عِـلّية الحيـطـان حـظـك قـصّـر .. منسـف لابو محمد وقع وتكسـّر

عِلّية الحيـطـان حظـك ما دَمج .. مسخن لأبو محمد وقع ع الدرج

مطبخ معاصر

يُبدع المطبخ المعاصر في تقديم طبق المسخّن بطرق جميلة وجديدة تتناسب مع الأذواق، فنجد اليوم أرغفة المسخن أقل تشرّبًا للزيت، حيث تُشرّب بشوربة الدجاج ليقل تشبُّعها بزيت الزيتون، كما أنهم قدموا الطبق بطرق تختلف عن شكل الأرغفة التقليدي، فصارت تقدّم كشرائح أو لفائف يسهل تناولها.

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

Musakhan Canapés

A post shared by OMZ by Omar Seikaly (@omzcatering) on


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

Musakhan ya sidi.. مسخن

A post shared by OMZ by Omar Seikaly (@omzcatering) on


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by ---------- ------------------ نادية طمليه (@nadiatommalieh) on

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by Lama F Gharaibeh (@lama_gharaibeh) on


 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

We’re going to need extra plates to share this Tuesday special~~~

A post shared by Layal Cafe and Creperie (@cafe_layal_richmond) on

ولعل من أبرز إضافات المطبخ المعاصر على هذا الطبق حضور جُملة من الحوائج والتوابع، منها: اللبن الرائب، شرائح الليمون، الفلفل والبهارات، الخضار(خيار، بندوره وفلفيله)، شوربة الفريكة، الزيتون (رصيع)، والمخللات وبعض أوراق النعنع التي تزين وجه الرغيف. وللناس في ذلك مذاهب وفنون واستحسانات.

للنّاس في المسخّن مذاهب وفنون واستحسانات

 


اقرأ/ي أيضًا: 

لحم الفقراء في تراث فلسطين

أكلات لا يعرف مذاقها إلا الغزيين

"المطبخ الإسرائيلي" المليء بالأكاذيب

في مُدونة "الشيف المُتنكر" القصة تزيّن الطبق