21-يونيو-2021

تواصل بلدة بيتا جنوب نابلس مقاومتها منذ قرابة الشهرين ضد الاستيلاء على قمة جبل صبيح إلى جنوب البلدة، وإقامة بؤرة استيطانية باسم "أفيتار" فيها. على أثر ذلك ارتقى أربعة شهداء من أبناء البلدة، بينما أصدر جيش الاحتلال قرارًا بتفكيك البؤرة، لكنه لم يدخل حيز التنفيذ حتى اللحظة.

يُمكن تصنيف هذه البلاد بأنها طليعة ثورية عصيّة على التطويع والانكسار، فهناك جدارٌ صلبٌ في بنيتها يدفعها لمواصلة الفعل النضالي

ويستحضر الحديث عن بلدة بيتا جنوب نابلس، ذكر المناطق الصلبة فلسطينيًا في مواجهة الاحتلال. تلك التي تتمترس خلف المواجهة لتعريف ذاتها الوطنية، كما هو الحال مع قطاع غزة بشكل عام أو بعض المدن والبلدات في الضفة الغربية مثل: بيتا، سلواد، كوبر، قباطية، العيسوية. ويُمكن تصنيف هذه البلاد بأنها طليعة ثورية عصيّة على التطويع والانكسار، فهناك جدارٌ صلبٌ في بنيتها يدفعها لمواصلة الفعل النضالي رغم الثمن الكبير الذي تدفعه من حياة وأعمار أبنائها.

إرث من البطولة

كمدخل لفهم الحالة النضالية في بلدة بيتا، لابُد من المرور ببعض المحطات في تاريخها النضالي، فهي بلدة مُتقدمة في العطاء ومُقدمة للشهداء والأسرى في سبيل الحُرية. وخلال المائة عام الماضية لم يجف دم البطولة في بيتا، حيث ظل الشهداء بوصلة الناس في كل مراحل النضال الفلسطيني.

بدأت بيتا نضالها ضد الاستعمار في وقت مبكر، وكانت البواكير الأولى للرفض قد تشكلت عام 1921 مع عصابة أبو كباري (محمد كباري)1، الرجل الذي تفرر واعتقل على قضية جنائية، ثم قرر الهرب من السجن مع رفاقه صالح أبو سليقة وحميدة العسكراني، وشكلوا عصابة شعبية ضد الانتداب البريطاني، وقد انتهت حركتهم بالمعركة التي وقعت على تلة زعترة بالقرب من بلدة بيتا عام 1927، واستشهد خلالها أبو كباري.

كانت البواكير الأولى للرفض في بيتا قد تشكلت عام 1921 مع عصابة أبو كباري (أحمد عديلي)

وقد خلدت الذاكرة الشعبية بطولتهما2:

والله ما بَلبس ثُوبَ لِخْضاري .. لو بحكموني حُكم ابو كباري

راسي ما اطوّع لهيك ازبونا

والله ما بلس بـدلـة ركـيكـة .. لو بحبسوني حَبس أبو سليقة

راسي ما اطوّع لهيك ازبونا

 ثم كان لبلدة بيتا حضورها مع بروز اسم أحد أبنائها وهو صالح العرميط، مقترنًا مع البطل الشعبي أبو جلدة (1930-1934) الذي تعود أصوله إلى قرية طمون. وكان العرميط نائبًا ورفيقًا لأبو جلدة في تشكل أسطورة المُقاوم الشعبي، ونسمع في الأغاني الشعبية ما يخلد بطولتهما3:

أبو جلدة والعرميط  .. ربّطوا الطرق تربيط

أبو جلدة ماشي لحاله.. والعرميط رأس ماله

ومن اللطيف ذكره أن صالح العرميط، حين حكم عليه بالإعدام مع أبو جلدة في القدس سنة 1934، طلب من والدته أن تدفن خنجرًا معه في القبر، لأنه  يريد أن ينتقم به من الواشي الذي دلّ عليهما. وهي روحٌ ثوريةٌ عاليةٌ، إذ يحرص على مواصلة الصراع حتى بعد الموت.

وفي الثورة الفلسطينية الكبرى 1936-1939، تسارع شباب بيتا للمشاركة مع فصائل الثورة الفلسطينية، والتحقوا بشكل أساسي بقيادة تركي عديلي، وعبد الله البيروتي4. وقدمت البلدة، آنذاك، عدة شهداء في معارك مهمة كمعركة دوما (واد البرشة) التي استشهد فيها ستة أبطال من فصيل تركي عديلي، وكذلك معركة بيت فوريك التي استشهد فيها القائد عبد الفتاح السيلاوي (أبو عبدالله) ومجموعة من الشهداء الفلسطينيين والعرب؛ كان أحدهم من بلدة بيتا.

لعل الحدث المفصلي في ذاكرة بيتا هي حادثة نيسان(ابريل) 1988، حيث تصدت البلدة للمستوطنين وقدمت ثلاثة شهداء وعشرات المصابين والمعتقلين

كما استُشهد من أبناء بيتا خلال معارك يافا وجنين إبان نكبة فلسطين عام 1948. وكان لبيتا حضورها في حرب 1967، حيث قدمت بعض أبنائها شهداء في مواجهة الاحتلال مع الجيش العربي في القدس وأريحا5.

اقرأ/ي أيضًا:  صور | خربة العرمة: فصلٌ من التاريخ

ومع انطلاق العمل الفدائي من الأردن تقدم شباب بيتا أسوة بأبناء الوطن لتأدية واجبهم، فشارك كُثر منهم في دوريات العمل الفدائي بين الأعوام 1967-1970، وفي سيرة نادر التاية أحد شهداء معركة واد القلط في كانون أول 1968 ما يُنبئ عن تلك البطولة6.

ولعل الحدث المفصلي في ذاكرة القرية هو مواجهات الانتفاضة الأولى وحادثة نيسان(ابريل) 1988، حيث تصدت البلدة للمستوطنين وقدمت ثلاثة شهداء وعشرات المصابين والمعتقلين، وتم نسف عدد من المنازل في تلك الحادثة التي لا تزال حاضرة بتفاصيلها في روايات الناس.

 ومما يُمكن تسجيله لبلدة بيتا أنها منذ انتفاضة الأقصى عام 2000 وما تلاها من هبات ومواجهات ظلت حاضرة، تُقدم الشهداء والجرحى. فلا يمر عام أو عامين إلا ويخرج الأهالي في تسييع أحد الشبان، فهي بلدة لم تغب يومًا عن الفعل في السياق الفلسطيني، وهذا أحد الأسباب المُهمة في خلق صورة بيتا عن ذاتها.

بركة دماء الشهداء

يمكن لنا أن نصف حالة بيتا مع الفعل المقاوم وجدواه بأنها حالة (تسخين وغليان)، إذ تدفع الأحداث اليومية وارتقاء الشهداء إلى تحريك الروح الثورية في نفوس الأجيال، فتسري هذه الروح جيلًا بعد جيل، يُجدد مسارها دم الشهادة كُلما سُكب. فإذا حانت ساعة المواجهة وبلغت البلدة حالة الغليان وشعرت بالخطر، اندفع شبابها للتقدم والتضحية، ذلك أنهم لم يفتروا ولم يغلب عليهم خطاب السلامة والسلام وايثار الحياة، فدم الشهداء المتواصل وحدة ظل يصنعهم.

يمكن لنا أن نصف حالة بيتا مع الفعل المقاوم وجدواه بأنها حالة (تسخين وغليان)

 هذا ما فعلته بركة دماء الشهداء في بيتا، وهذا ما فعلته الطليعة الشجاعة والمقدامة الحاضرة في الهبّات الفلسطينية، حيث تركت أثرها البالغ في تشكل هوية البلدة الصلبة، ذلك أن أي ثمن تدفعه في المقاومة ستحصل على مقابله، إذا لم يكن في حياتك فستأخذه لاحقًا. فالمقاومة جدوى مستمرة كما يقول الشهيد باسل الأعرج رحمه الله.

اقرأ/ي أيضًا: ثورة يافا.. أوّلُ كفاحنا المُسلح

 وبذلك يُمكن فهم حالة بيتا وسر صلابتها في المواجهة مع الاحتلال، واشتراك المجتمع البيتاوي ككل في المواجهة. فالبلدة التي يغلب عليها خطاب البطولة لا تُعطي مجالًا لخطاب الانهزام كي ينمو ويثمر. ولذا يتراجع الكلام عن "الكف ما بلاطم المخرز"، و"اليهود غير الله يقدر عليهم"، ليتقدم خطاب المواجهة ورفض وجود الاستيطان على أطراف بلدة بيتا مهما كانت الكلفة.

فعاليات الإرباك الليلي في بيتا | gettyimages

  ومما لا شك فيه بأن هناك عوامل أخرى أسهمت في البناء التركمي لهوية البلدة الثائرة. من ذلك وجود الرموز والأبطال الملهمين، الذين تُغذي أفعالهم وسيرتهم روح الانتفاض لدى الشباب.

كما أن للاشتباك المستمر مع الاحتلال على مدخل البلدة، وكذا طبيعة موقع المواجهة وقرب نقطة الاشتباك مع جيش الاحتلال من البلدة، له أثره في خلق جيل أكثر صلابة وأكثر جسارة على الاقدام في التصدي للاحتلال.

 كل تلك العوامل كفيلة بأن تكون هذه الأجيال جديرةً بالنصر، فـ"النصر ينبت حيث يرويه الدم".

فعاليات الإرباك الليلي في بيتا | gettyimages

بين جبلين

الطريق إلى النصر في بلدة بيتا واضح، إذ لا خيار أمامهم إلا المُضي للأمام. فالبلدة بحكم موقعها الجغرافي ووجودها على خارطة التقسيم الاستعماري لا تحتمل مزيدًا من الخنق والتضييق بفعل الاستيطان، فهي بلدة يحدها من الغرب والجنوب شوراع استيطانية تُحَدّد مسار توسعها.  ولأجل ذلك كانت هبة بلدة بيتا ضد محاولة وصول المستوطنين لجبل العرمة الأثري شرق البلدة في العام الماضي (2020). في تلك الهبة صمدت البلدة وقدمت الشهداء كي لا تُكسر إرادتها، ثم عززت انتصارها في العرمة بالاستثمار الجدّي في خلق حياة في الجبل ومحيطه كي تقطع (رجل الاستيطان) عن المنطقة.

على الرغم من البطش الاستعماري وصعوبة تضاريس موقع المواجهة إلا أن المواجهات مُستمرة منذ شهرين

واليوم تأتي هبة بيتا رفضًا للاستيطان في جبل صبيح الواقع على أطرافها الجنوبية، لأن الاستيطان هناك سيخنق البلدة ويقتل الحياة فيها، ويحوّل نصف البلدة لسجن يعيش أهله تحت رماية نار الاستيطان.

اقرأ/ي أيضًا: دولة المُلثمين.. حين أُعلنت عقربا بلدة مُحررة

وعلى الرغم من البطش الاستعماري وصعوبة تضاريس موقع المواجهة بحكم تمركز الجيش على قمة جبل صبيح المُشرف على ما حوله وبالتالي انكشاف تحركات الشباب المنتفض بكفّه الأعزل، إلا أن المواجهات مُستمرة منذ شهرين بإرادة من حديد وبتكلفة نضالية عالية. وقد تسلح الشباب بإرثهم النضالي الطويل، ودخلوا ميدان الاشتباك والمواجهة مُحملين بأثر من نصرهم في جبل العرمة، وحاديهم يقول: "من العرمة لصبيح عن الجبل ما بنطيح".

حلقة في سلسلة

 من المهم فلسطينيًا أن تظل سيرة البلدات الثائرة حاضرة في السياق المقاوم كنموذج جدير بأن يُعمم، لكن من غير الأسطرة العمياء، لأن فعل الأسطرة مقلق أحيانًا ويحمل في طياته ما يُعفينا من الشعور بالتقصير تجاههم ويريحنا من ضرورة الفعل إسنادًا لهم في حمل عبء معاركهم التي لا تهدأ، فنترك هذه البلدات تخوض معاركها لوحدها على اعتبار أنها مُعجزة زمانها في الصمود والمواجهة، رغم وعينا بطبيعة موازين القوى المنقلبة لصالح الاحتلال في مواجهة شعب أعزل إلا من إرادته الصلبة.

  لأجل ذلك فإن من الأهمية أن يكون خطابنا عن البلدات الثائرة متزنًا وواعيًا ومرتبطًا بالعمل لمساعدتهم على الاستمرار، من خلال توسيع جبهة الاشتباك في كل مرة وتجديد أدوات المواجه مع الاحتلال، لتكون هذه البلدات حلقة في سلسلة الفعل المُتصل الذي يتوزع من خلاله العبء على المجتمع ككل.


المصادر والمراجع:

1. أبو اكباري : من رواد النضال الفلسطيني 1921-1927، حمزة العقرباوي (بحث غير منشور)

2.  مقابلة شفوية 5/4/2010: الحاجة فوزية الحج 1936، زوجة صالح أبو سليقة أحد رواد النضال الفلسطيني ورفيق أبو إكباري في مجموعته الثورية.

3. هذه الأبيات جُمعت في الفترة (2007-2011) وستنشر جميعها في عمل يوثق لبطولة أبو جلدة والعرميط.

4.  تركي سليمان عديلي مواليد قرية أوصرين وهو من بلدة بيتا في الأصل، وكان قائد لأحد فصائل الثورة في مشاريق نابلس وجمع في فصيله مقاتلين من بلدة بيتا.  // عبد الله البيروتي (1896-1939) مواليد بلدة عقربا،وكان  أحد أهم قادة الثورة الفلسطينية الكبرى في منطقة نابلس وجمع في فصيله مقاتلين من عقربا، بيتا، بيت فوريت، بيت دجن، الجفتلك، دير الحطب.

5.  انظر كتاب: فلكلور من قرية بيتا- محمد عبد الرحمن الجاغوب، ط1 سنة 1999

6. للمزيد عن الشهيد نادر التايه: العقرباوي، حمزة (13 أغسطس 2018) معركة الواد الأحمر.. شهداء نُسيت أسماؤهم، مقال في موقع الترا فلسطين.


اقرأ/ي أيضًا: 

فلسطين والبحث عن لحظة ربيع عربي جديدة

جبل العرمة: خبطة النبي إبراهيم وقصة الشجاع الذي مات خوفًا