09-أكتوبر-2019

Ali Jadallah/ Getty

لطالما كان للفلسطينيين موروثٌ ثقافيَ شعبي في كل تفاصيل الحياة التي عاشوها منذ أن وطئوا أرض فلسطين، إلا أنّ ثقافة الموت لم تغِب عن تلك الأساطير والطُقوس التي ما يزال يُمارس بعضها حتى اليوم. 

     كان النُواح على الميت يختلف حسب نوع الوفاة؛ طبيعية، قتلًا، شهادة، ويختلف إذا ما كان شابًا أو طاعنًا في السنّ      

فنهاية الحياة يعني الألم والحزن الشديدين لذوي المتوفّى، وهذه المشاعر الروحية التراجيدية تطول وتقصر حسب مكانة الميت لدى ذويه وتختلف من شخصٍ إلى آخر في ذات العائلة.

وعودة إلى الأساطير الكنعانية القديمة -بحسب الأديب أحمد جميل الحسن في مُؤلّفه "الزواج والموت في الأغنية الشعبية الفلسطينية"-، فقد أبّنت تلك الأساطير الموتى وأبقت على ذكراهم وكتبت الأرقام والألواح كما ورد عن آل بيت الملك "كارت" ملك صيْدون المؤلّه: "أُبيد بيت الملك النعمان، غُلام إيل، بيت الملك تقوّضت أُسُسُه، ثمانية أخوة كان له، كلهم من أمٍ واحدة تزوّجت امرأةً شرعيّة، لكنها هربت، غادرت بيتها، أخوة وأقارب كانوا له، الثُلث منهم ماتوا وهم بعد أطفال، الربع منهم ماتوا مرضًا، الخُمس منهم ماتوا بالوباء، السُدس منهم غرقوا في البحر، السبع منهم قُتلوا بحد السيف، أبيد بيت الملك".

وحتى أسطورة الملكة عشتار التي ندبت حبيبها أدونيس الذي صرعه خنزيرٌ بريّ حين كتبت: "أحاديث الجبال تُردّد والبلّوط يُجيب: جميعها ترثي وتبكي أدونيس الحبيب، أصداء الوهاد ردّدت الجواب، ويْلٌ لنا أيُمسي أدونيس تُرابًا؟".

Majdi Fathi/ Getty 

وبتجاوز تلك العصور القديمة إلى حتى ما قبل الخمسينات والستينات من القرن الماضي، كان النُواح على الميت يختلف حسب نوع الوفاة، فإن كانت طبيعيةً فيقتصر الندب على تعداد مناقبه، وإن كان مقتولاً فتزيد حدةً بالتحريض على الثأر، وإن كان شهيدًا فالتباهي ببطولاته وسلاحه وحصانه ورفاقه يكون سيّد الموقف. وبعد أن يُدفن المتوفّى، يذهب أقاربه لزيارة قبره لمدة ثلاثة أيام لـ"فكّ وحدته".

أما إذا كان الميتُ طاعنًا في السنّ؛ تجتمع أخواته حول جثته ويُنشدنّ: 

دفنتك يا خُويّي لحنتين بتدفنّي *** دفنتك يا خُويّي غصبن عنّي

أما زوجته فتنشد: 

مالك يا حمرا كبّيتي في المراح *** صايبك مسمار والّا الشيخ راح

وإذا كان شابًا فيُنشدون له: 

أبو فلان طاح السرايا وداسها *** ومرْتْ السبع قصّتْ جدايل راسها

ومع بداية القرن العشرين، كانت نساء الحمولة في القرية تُشارك لأيام في حلقة ندبٍ ونواح دائرية على بيادر القمح، فيما تتوسّطهن واحدة أو اثنتين من "الردّحات" وتضرب صدرها وتُمزّق ثوبها وتلطم خدّها وتشدّ شعرها وتعفر رأسها بالتراب، وتستمرّ تلك النسوة بالتحريض على الثأر حتى لا تُعيّر حمولة القتيل من الحمائل الأخرى بأن "قتيلهم بلا مكانة".

ومما تُنشده تلك "الردّاحات": 

لا تذلّوا يا حمولة *** علقوا ع الخيل شعير

واقتلوا قتّال فلان *** لونّه في السما طاير

خذوا الثار يلّي بتوخذوا الثار *** خذوا الثار ليروح معيار

وفي الخمسينات، كان الرجال يذهبون إلى قرى الداخل الفلسطيني للتجارة وبعضهم لقي حتفه أثناء الوصول إلى قرىً احتلها الإسرائيليون، حيث يهرع رفاقه لدفنه دون معرفة هويته حتى، بل كان معارفه الذين هربوا ونجوا يُخبرون عن ذلك الشهيد منشدين:

بالله تكولولنا يا اللي حظرتوه *** مات بالعطش والّا سكيتوه

مات وبخاطرُه يوخذ بنت عمّه *** يكشيلك يمّو بسبح بدمّه

ومن أولئك الشهداء الذين قضوا ابن حيفا الشيخ عطيّة عوض حين كان قائدًا للثوّار في اليامون بجنين عام 1937، حين عُقدت لرثائه حلقات نواحٍ في أغلب القرى الفلسطينية، وأنشد مُحبّوه: 

كولي يا كايلي عليه صُبحية *** كُولى ع أبو عمر والشيخ عطيّة

ولعلّ أكبر حلقات الندب التي عُقدت في فلسطين كانت على الشهيد يوسف سعيد أبو درّة في السيلة الحارثية بعد استشهاد الشيخ عطية بعاميْن، حين حُكم عليه بالإعدام شنقًا في القدس ونُقل جثمانه إلى قريته، في الوقت الذي توافد نساء القرى ورجالها، حيث ردحت النساء لأيامٍ متتالية ومزّقن ثيابهنّ وتعفرّن بالتراب وسقطت حالات إغماء. وكانوا يُنشدون آنذاك:

   أبو دُرّة ويا أبو السيوف البيظ *** ولا تخبروا عدّاي ولا تكولوا عنّي مْريظ

أبو دُرّة ويا كاهر الخواجات *** ولا تخبروا عدّاي ولا تكولوا عنّو مات

كُدام الكبر لنذبح ذبيحتين ***  ونخلّي الدم يدعج ع النصيبتين

استدّوا الثار يا شرّابة الدم *** استدوا الثار كرايبوا يا أولاد العم


اقرأ/ي أيضًا:

التحديق بالموت

الأم التي حاكت لابنها علمًا لفّته به يوم استشهاده

13 صورة عن الحياة في فلسطين قبل القرن العشرين