27-يناير-2018

قبل بداية شتاء عام 1190، كان صلاح الدين الأيوبي ينصب خيام جيشه في محيط عكا، جاعلًا ميسرة الجيش على شكل قوس، يبدأ من تل العياضية وينتهي عند نهر النعامين؛ جنوب المدينة، ضاربًا بهم حصارًا على جيش الصليبيين الذي يُحاصر عكا لإعادة احتلالها، وهي المدينة التي كانت دائمًا هدفًا صعب المنال بالنسبة للغزاة، بسبب طبيعتها المليئة بالحواجز المتمثلة في الجبال والتلال والمستنقعات.

اقرأ/ي أيضًا: صور | بقايا من العصر البيزنطي غرب القدس

وإلى الجنوب من مدينة عكا، يقع سهلٌ ممتد، تُزرع فيه مختلف المحاصيل، وتنبت فيه الأعشاب والنباتات البرية المتنوعة؛ وفيه تنوع حيواني غني. يبدأ هذا السهل من منطقة رأس الناقورة شمالاًا حتى الكرمل جنوبًا، وتحدّه من الشرق التلال السفلى للجليلين (الجليل الأعلى والجليل الغربي)، وتمر به بعض الأودية الرئيسة أهمها: وادي كركرة، ووادي القرن، ووادي المفشوخ، ووادي المجنونة. ويخترقه نهران هُما نهر النعامين ونهر المقطع، وتتوسط هذا السهل بعض التلال الأثرية، مثل: الزيب، تل الفخار، تل كيسان وتل كردانة.

وفي هذا السهل 34 نبع ماء مصدرها المياه الجوفية والمنحدرات الغربية لمنطقة جبال الجليل، وتجري مياه هذه الينابيع نحو البحر في الأودية التي تصب في نهر النعامين.

لعب السهل دورًا في الدفاع عن عكا منذ نشأتها، إذ كان مُحاطًا بالحواجز الطبيعية (أقدام جبال الجليل)، وفيه مستنقعات نهر النعامين التي عرقلت تقدم الغزاة نحو أسوار عكا، كما تتخلله تلال تتعاقب من رأس الناقورة شمالًا حتى الكرمل جنوبًا وقد استغلت بعض هذه التلال كمواقع عسكرية للجيوش في فترات تاريخية مختلفة.

يقول المثل الشعبي: "العكاوي إذا طلع برا السور بحلف بغربته"، وأبعد من ذلك أنهم جعلوا للغربة حدودًا فقالوا على لسان العكاوي: "إنْ وِصلَتِ الميه لَلخُلخالْ بَقول: آهْ يا خالْ، وانْ وصلتِ الميه  للركْبِهْ بقول: وِحياةِ الغربِة". ويقصدون في البيت الأول نهر النعامين الذي تصل مياهه إلى خلخال (كاحل) من يمر منه، وهذا النهر هو الحدود الجنوبية لمدينة عكا، لكن إن وصل العكاوي لنهر "المقطَّع" الذي تصل مياهه للركبة فإنه يُعتبر متغرّبًا عن البلد.

تتحدث الأمثال الشعبية الفلسطينية عن أن أبناء عكا إذا خرجوا من أسوار مدينتهم، وكذلك إذا وصلوا نهر النعامين أو نهر المقطع المجاورين للمدينة

ونهر النعامين يخترق سهل عكا بطول لا يتجاوز 9 كيلومترات، ويصب في الجزء الشمالي من خليج عكا جنوب المدينة، ولعلّ اسم النعامين يعود إلى جماعة من عشيرة النعامين نزلت بالقرب منه، فنسب النهر إليها.

ومياه هذا النهر دائمة الجريان طوال العام، ولعلّ من أهم ما يميزه كثرة المستنقعات والبرك على جانبيه (مسافة 7 كيلومترات) نتيجة الانحدار الضعيف جدًا في أرض سهل عكا، واجتماع مياه النهر ومياه السيول التي لا تجد لها مصرفًا إلى البحر بسبب حواجز التلال الرملية.

ارتبط النهر تاريخيًا بصناعة الزجاج، ويقال إن الفينيقيين أول من عرف صناعته من الرمال بالقرب من مصب هذا النهر، وذلك وفق المؤرخ الروماني "بلينوس ـPlinius". وكان النهر معروفًا في حينه باسم "نهر بعل"، ثم سمّاه اليونانيون باسم "نهر بيلوس ـ"Belus ، وكثيرًا ما ذكرته المصادر اللاحقة باسم "نهر عكا".

ويقال إن هذا النهر كان يُزود الفنيقيين بكثير من أصداف "الموركس ـ"Murex  التي كانوا يستخرجون منها صباغ الأرجوان لاستعماله في صبع الأقمشة المختلفة.

ارتبط نهر النعامين تاريخيًا بصناعة الزجاج

وقد أقيمت على جنباته مطاحن القمح من الفترة الصليبية - المملوكية التي كانت تعمل على قوة المياه، وكان إلى وقت قريب يستخدم في عملية نقع الخشب لصالح  معمل "نور" للكبريت، وذلك قبل النكبة عام 1948.

اقرأ/ي أيضًا: دير كريمزان.. البداية من نبيذ الصلاة

بدأ الاهتمام الصهيوني في منطقة عكا منذ وقت مُبكر، حيث أقيمت مستوطنة "آفيق" في العام 1939، على مقربة من النهر، قبل أن تتوسع بعد عام 1948 وتغيّر موقعها القديم إلى موقع المستوطنة الحالي إلى الجنوب من "آفيق" القديمة.

وكان الاحتلال الانجليزي قد استغل مياه الينابيع المذكورة في عملية تبريد مصافي البترول في  خليج حيفا، واستمر استغلال هذه المياه حتى عام 1959 من قبل الاحتلال الإسرائيلي. وفي  سنة 1960، استغلت شركة "مكوروت" الإسرائيلية مياه النهر للزراعة والشرب، ما ساهم في تجفيف غالبية المستنقعات في سهل عكا.

وبعد تجفيف معظم المستنقعات في محيط النهر، حُولت الأرض إلى أحواض لتربية الأسماك، واستصلحت بعض الأراضي للزراعة المروية والبعلية، كما أُنشأ فيها بعض المصانع، وقد عمدت سُلطات الاحتلال لتجفيف النهر، قبل أن تُعيد له الحياة مُجددًا في السنوات العشر الماضية.

وتسعى سُلطات الاحتلال اليوم إلى عزل وتهجير الحيّ العربي الواقع بالقرب من نهر النعامين وهو "حي الرمل"، ولذا صادرت أراضيهم وعزلتهم عن مُحيطهم، ومنعتهم من إقامة منازل جديدة في الحي، أو حتى ترميم بيوتهم القديمة، ومنعت عنهم أبسط الخدمات الحياتية كالكهرباء وجمع النفايات، وفرضت عليهم الغرامات الباهظة لإجبارهم على ترك المكان.

وعبر السنوات الماضية؛ عمدت سلطات الاحتلال لتغيير جُغرافية النهر وطبيعته البيئية، الأمر الذي يدخل في إطار تخريب الهوية الطبيعية للمنطقة. واليوم تُحاول ذات الُسلطات إعادة الحياة للنهر بتجديد الحياة فيه بريًا ونباتيًا، لكن كُل ذلك يجري بعيدًا عن أصحاب الأرض.


اقرأ/ي أيضًا:

"مار سابا".. قصة دير محرم على النساء

فيديو| كنيسة برقين.. البداية من بئر لعزل المرضى

بالصور | رحلة إلى بيت لحم.. عجائب فلسطينية