24-فبراير-2017

"أُدعى إلى المجالسة، ولم أدعَ إلى الموت". هكذا خطر في بال زميلنا أن يعارض بيتًا من قصيدة أمل دنقل التي قالها بلسان جندي حضر نكسة 67، ولم يترك الشاعر البليغ أيًا من ذكريات الهزيمة، ولم يخفِ مشاعر الجندي المقموع داخليًا قبل أن يجرّب هزيمة الأعداء، جندي عائد من المعركة مثخنًا بالطعنات وبالخذلان يلقي تساؤلاته ودموعه بين يدي العرّافة:

"أنا الذي ما ذقتُ لحم الضأن..

أنا الذي لا حول لي أو شأن..

أنا الذي أقصيتُ عن مجالس الفتيان،

 أدعى إلى الموت.. ولم أدعَ إلى المجالسة".

وقصيدة أمل هذه "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" كُلّها جاءت بلسان زمننا لتشرح بيتًا واحدًا فقط لعنترة بن شداد:

ينادونني في السِّلم يا بن زبيبة    وعند صدام الخيل يا ابن الأطايب

عندما حضر زميلنا ندوة مُكلفة وعلى مستوى راقٍ، تناقش دور الإعلام وتطرح الأسئلة في محاولة لتجديده، شعر بالزهو على الرغم من كونه الوحيد -بخلاف السيدات- الذي لا يرتدي بدلة رسمية، بربطة عنق مخملية، تضيف للجسد فخامة نخبوية. لم يجد ضيرًا في ذلك، فالزعماء وحدهم عبر التاريخ كانوا يعلمون ما تحدِثه الملابس الفخمة من أثر في عيون العامة، والصحفيون بما يمثلونه من حلقة وصل، بين البنيتين الفوقية والتحتية للمجتمع؛ يعلمون لكثرة ما قرأوا وتابعوا خبايا ومؤثرات كلا الطرفين العلوي والسفلي، فهم يتصرفون كالعامة البسطاء في حضرة المسؤولين، ويتمثلون دور الزعيم القاهر والمسيطر والواصل أمام العامة، ويعلمون أكثر من غيرهم الحكمة التي حذّر من خلالها "نيتشه" المُعلِّمين عندما نصحهم بألّا يقتصر دورهم فقط على نقل المعلومات للطلبة، (النسخ واللصق) بلغة اليوم. وإذا اعتبرنا فئة الصحفيين المحليين "كحلقة وصل" ناقلة، فهم امتثلوا لما حذر منه نيتشه الرائي، ولعبوا في جلسة واحدة وبلغة الجسد فقط، دور المعلم والأستاذ أكثر من دور الناقل للخبر والمعلومة، فلكل واحد منهم طريقته وأسلوبه بالأستذة، النشيط بين الطاولات، المُرحّب، المجامل، المبتسم، الغارق بأفكاره، الحابك الماهر للعلاقات، حامل شنطة الوزير.. الخ من الكركترات!

وتلك هي المرة الأولى التي بدأ فيها زميلنا يشعر بروعة أن تكون صحفيًا تحضر مؤتمرًا وتجلس على الطاولة -والحقيقة أنه كان واقفًا- وتستمع لوزراء، وممثلين عن الرئيس، وتندهش لمقولات وخطط متبوع وراءها أيقونات رنانة مثل التحرر، والبقاء، والرسالة الإعلامية، والمواجهة، والكلمة، وصورتنا أمام العالم.. وماذا بعد؟

أكثر مما نتخيل، شعر لوهلة بالدور العظيم الذي قاده لهذه المهنة التي تحمل كل تلك الشعارات والرسائل المبدأية، ولوهلة شعر وهو يتمشّى في قاعة الفندق (5 نجوم)، بأنّه جزء صعب من هذا "العالم المستحيل" وها هو يتأقلم في وسط غالبيته العظمى من تيار واحد أو يدورن بفلكه، ليس هذا فقط، بل ويناقش معهم القضايا الكبرى ومصائر الوطن -والحقيقة أنه كان يستمع فقط- والمرة الوحيدة التي حرّك فيها فكّه كانت عندما تناول كعكة من "البوفيه" وقضم منها قطعة، وصار يفكّر بموعد انتهاء الندوة، وهو يعلم جيّدًا أنّ هذه الأناقة الملفوفة بها الشخصيات الاعتبارية حوله، لن تنفضَّ من دون التقاط صور جماعية تؤرّخ للحظة، وهو أكثر العارفين بتأثير الصورة وبلاغتها، وكيف عندما سينشرها محاطًل بكل هذا النعيم من البدل الرسمية سيُرضي مأثورة العظمة النيتشوية، كتعبير شخصي في عرض الذات، ولكن حدث مع زميلنا ما حدث لصاحب جرة العسل الذي كسرها وهو يرسم أحلامه، إذ كان عليه أن يغادر بتوقيت محدد، قبل أن يسمع مخرجات المؤتمر ويجني ثمار الحدث بصورة واحدة على الأقل! وغادر مُجبرًا بما يتماشى مع توقيت المواصلات، وعلى الباب التقى بصديق فتحاوي قديم يناور بسيارته في باحة الفندق، محاولًا الولوج من ثغرة الزحمة والسيارات المصطفة على كل جانب، وكان صديقه كريمًا بأن دعاه لتوصيلة، وأول ما جلس بقربه بادره زميلنا بالسؤال الذي يحز بضميره هو على نفسه المُغادِرة:

- لماذا انسحبت مبكرًا؟!

- أنا أعمل مديرًا للعلاقات العامة في محافظة (....) ومرتبط بموعد.

- وماذا تفعل هنا؟

 - أعمل أيضًا مقدِّم برامج في تلفزيون فلسطين.

مسكين، فكّر زميلنا، يقضي يومه من عمل إلى عمل، والحقيقة أنه قاوم كثيرًا حتى لا تندفع من عينيه نظرة حرمان يتخللها وميض باهت من الحسد، فاستبدلها بنظرة إشفاق.. مُرفقة بسؤال حنون: وهل وظيفتان فقط تكفيانك في ظل غلاء الأسعار والظروف التعيسة وغير المضمونة التي نمر بها!

نظر صاحبه إليه نظرة واثقة، معناها أن لا تقلق عليّ فأنا أعلم جيدًا ما أريد، وفيما صوت المحرك يعلو، والسيارة تشق الطرق الواسعة، ثم تنحني للشوارع الرديئة، حيث ينتشر باعة فناجين القهوة، وشبّان يصرفون الوقت على الأرصفة، وأسرى محررين يضعون أيديهم في جيوبهم، ومصابو انتفاضة عاطلون عن العمل، والكثير من أبناء زبيبة (أشقّاء عنترة)، خطر في بال زميلنا بيت من شعر الهايكو لـِ باتريك فيتو:

أيّها المُحارب القديم

هل أنت سكران بالنبيذ الرّديء

 أم بالذّكريات؟!

ولمّا أوصله صديقه إلى مقر عمله -والحقيقة بالضبط، المقر الذي يبحث فيه عن عمل!- كان قد خطر له أن يطبّق حكمة نيتشة عن المعلّم السلبي، وأن يوصل ما فكر به على طريقته هو، من دون أن يتذكر، أو يتعاطف مع آلاف الخريجين من صحفيين خذلتهم فرصة عمل واحدة فقط.. أولئك الذين لم يشعروا بعد بالنعيم الذي شعر به لساعة واحدة، في هذا البلد المستحيل على من هو غير فتحاوي؛ ليس الفتحاويون العاديون أبناء الطبقة المضحيّة، بل عليّة القوم من الحركة والمحسوبين عليها، الذين من النادر أن تجد في عائلتهم وحاشيتهم من يمارس البطالة، بل من المستحيل أن تجد فيهم من يكتفي بوظيفة واحدة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"لحم الفقراء" في تراث فلسطين

الصحفي الساعي: هكذا عذّبتني المخابرات

لا تنانير قصيرة في الكنيست الإسرائيلي