06-يونيو-2018

صورة توضيحية - عدسة: محمد عابد (gettyimages)

"بهداك النهار بعد ما هدّوا البيت واللي حواليه بالليل، تحوّطنا كلنا وقعدنا بكينا وحكينا وفكرنا شو نعمل هلّق؟ وكيف بدنا نعمل بعد ما هدّو كل شي؟ أنا كنت مصدومة.. مصدومة. كنت قاعدة بسمع هالناس تحكي، وأنا هون ومش هون. عقلي مش معي. حاسي إني ضعت بهالدنيا. فجأة سمعت الولد، ابني، بيبكي وبصيح وبصيح. عرفت. عرفت زحف بالنار. ما كان فيه نار، بس الجمر كان مولّع والتراب والأرض نار، وحرق إيديه الاثنتين، وكفوف إيديه وصابيعه.. وشوَي ذقنوا. أخذناه عالمستشفى.. بَس حروقو صعبة كثير كثير.. بفكّر.. فكري كيف هدوا المنطقة، والبيوت، واحنا رحنا نشوف وجوههن بالمستشفى... شعور صعب رهيب رهيب. بقينا بالمستشفى.. والكل يطّلع عليّ وعلى جوزي بغضب.. بكراهية. تصوّري نادوا الشرطة تحقق معي: قال بيسمّوه بإسرائيل عنف ضد الأطفال.. صعب صعب.. كان شعور قاسي، ابني يتعذّب، زوجي بلومني أنا والكل يلوم الأمّ، وراح البيت.. وحقّقوا معي تحقيق صعب.. أقسى وأصعب يوم بحياتي. وبقينا بالمستشفى أسبوعين، وكل مرّة يجين الدكاترة والممرّضات، يكشفوا عابني، يكرهوني.. يقولوا شو هالمتخلفة! بدائيّة.. كنت البدوية الحمقا اللي ما عرفت تحمي ولدها من إنو ينحرق.. قصة طويلة، طويلة قصتي.. كلنا كنّا بحزن، كلنا، وزوجي أصبح إنسان ثاني، إنسان ما نعرفوا. صار يرفع إيدو عليّ.. لأول مرّة.. يضربني، وظلّ يضربني، وبعدها ما وقّف. صحيح هدّوا بيتي بهذاك اليوم.. وحياتي وعيلتي ما بقيت عيلتي.. كلّهم تغيروا.. بيوتنا ومنطقتنا كلّها هدُّوها.. وأنا ما عدت عارفة شو عاملة ومين أنا أبدًا.. حرق ولدي حرقني. حرقني من الداخل.. حرق عيلتي وحياتي كلها.. بنحرق قلبي كل يوم بطلع عليه".

هذه شهادة امرأة وأم وزوجة من النقب، نقلتها الباحثة نادرة شلهوب- كيفوركيان، في ورقة لها نشرها مركز الكرمل بعنوان: "كيف نقرأ العنف ضدّ النساء الفلسطينيّات في إسرائيل؟". بالنّسبة لشلهوب، فسلوى، مقدّمة هذه الشهادة، النّموذج التي تلتقي فيه مجالات الاضطهاد جميعها وتتشابُكِ فيه: البطريركيّة الأبويّة، وأيديولوجيا الدّولة الاستعماريّة.

سلوى هي التّابع، الذي يجبُ أن لا ينطق وأن لا يتكلّم، وهي التّابع الذي فقد حقّ الكلام منذُ ولادته، ولم يكن عمره إلا ظلَّ حياة

سلوى هي التّابع، الذي يجبُ أن لا ينطق وأن لا يتكلّم، وهي التّابع الذي فقد حقّ الكلام منذُ ولادته، ولم يكن عمرهُ الذي قضاهُ حيًا يتكلّم ويتزوج وينجبُ ابنًا سيحترق ذات يوم، إلَّا ظلّ حياة وليست حياة حقيقيّة. اجتمعت فيها أسبابُ الاضطّهاد، الأبويّ، الكولونياليّ حتى صارت "لا امرأة"، ومواطنًا غير معترفٍ بهِ، "مواطنة" غير جديرة حتّى بمواطنتها، وأمًا غير صالحة، وامرأة معنّفة، بدويّة غير مرغوب بها وغير مرغوب حتّى السماع عنها، وصارت مركزًا للضغط والاضطهاد من كلِّ الجهات في ليلةٍ وضحايا: زوج يعنِّفها ويضربها، أطبّاء ينظرون إلَيها على أنَّها "البدويّة الحمقا" التي لم تستطع حماية ابنها، وأصبحت هي ذاتها تجلدُ ذاتها في كلّ لحظة تنظرُ فيها إلى طفلها الذي غطّت جسدهُ الحروق.

والمفارقة أنّ سلوى، حتى بعدما أصبحت ما أصبحت علَيه، لا تزالُ تشكِّلُ تهديدًا لـ "دولة إسرائيل". بكلمات شلهوب، هي الذاتُ غير المرغوب بها، وما هو ليس مرغوبٌ فيه، هو مشهديّة "تخلُّفها" في نظرِ الدّولة. إلّا أنّ مشهديّة سلوى اليوميّة، ليست مشهديّة "التخلُّف"، ربّما كانت كذلك في نظر المستعمِرين، الذين من يُدركُ منهم ما اقترفت يداهُ بحقِّ الآخر، لا يُطيقُ رؤية هذا الذي خلَّفه من دمارٍ في جسَدِ الإنسان الآخر. وأمَّا الآخرين، فهُم الذين يرَون في سلوى ومثيلاتها من النساء العربيّات، "تخلَّفًا" متجذرًا وقبحًا لا يُطيقون رؤيتهم لشعورهم بتفوّقهم الذاتيّ على أقرانهم من البشر.

اقرأ/ي أيضًا: قتل مباح.. قتل محظور!

تُعرِّي مشهديّة سلوى وتفضَحُ كلَّ العالمِ المُزيِّف الذي نحيا فيه وتحيا فيه هِيَ ومثيلاتها من النِّساء. تُعرِّي من جهة وتفضَحُ كلّ المقولات الأخلاقيّة الخاصّة بالمستعمِر ومنظومته الثقافية عن نفسه وعن الآخرين، وتعرِّي وتفضَحُ النظام البطريركيّ الأبويّ، الذي لا يزالُ يضَعُ المرأة والفئات الضعيفة من المجتمع موضَع الاضطهادِ وهُم لا علاقة لهم بأسبابه الحقيقيّة.

يهدمُ الإسرائيليُّ البيت العربيّ، ويُضيِّقُ الحيّز الجغرافيّ، ويضيِّقُ عيشَ العربيّ في إسرائيل وفي الضفّة الغربيّة، فيجدُ المستعمَر نفسَه مسكونًا بعجزٍ هائلٍ وقاتلٍ ينفِّسُ عنهُ من خلال اضطهاد من هم أقلّ قوّة وحولاً منه. وبكلمات فرانز فانون: "بينما نرى المستعمِر أو الشرطيّ يستطيعان من أول النهار إلى آخره أن يضربا المستعمَر وأن يهيناه وأن يركعاه، نجد المستعمَر يشهر سكينه عند أيسر نظرة عدائية أو هجوميّة يلقيها عليه مستعمَر آخر، لأن آخر ما بقي للمستعمَر هو أن يُدافع عن شخصيّته تجاه مواطنه". هكذا لم يبقَ لزوجِ سلوى بعدما هَدَمَ الإسرائيليُّ بيته وحياته، إلَّا أن يُدافع عن نفسه وشخصيّته المحطمة أمام زوجته، تلك أرضهُ الجرداء الوحيدة التي بقيَت له ليستعرض ما تبقّى له من رجولة مهانة وذليلة. ولم يبقَ لهذه الزوجة والأم إلَّا أن تتلقى هذا الاضطهاد خاضعة لمنطقِ تحالفُ القوَّة الذي نخضعُ لهُ جميعًا. وفي حالة سلوى، الدّولة الكولونيالية وسياساتها التّدميريّة للإنسان الفلسطينيّ من جهة، والنظام البطريركيّ الأبويّ ونزعته السلطويّة عندما يتعلّق الأمرُ بالفئات الضعيفة.

قد لا تستطيع سلوى أن تعبّر عن نفسها بأبلغ ما عبّرت عنه، وقد لا تستطيع أن تفهم كيف تعيدُ السُّلطة التي تضطهدها إنتاج ذاتها مرّات ومرّات، وكيف ينعكسُ الاضطهاد بأوجهٍ مختلفة عليها وعلى مثيلاتها من النساء. وفي المقابل، فإنّ الزوج نفسه قد لا يستطيع أنْ يفهم علاقات القوّة التي تحكّمت بمصيره حتّى اللحظة، لن يعرف كيف تحوّل في ليلةٍ وضحاها إلى رجلٍ يضربُ زوجته ويحتقرها، وقد يحتقرُ ذاته هو أيضًا.

ومن الصعب بمكان قبول منطق الضحيّة في حالة الزوج، إلّا أنّه فعلاً كذلك، ولن يكون صعبًا أبدًا أن نفهم كيف تكون الضحيّة النموذجيّة هي سلوى. إلّا أنّ الزوج ضحيّة، وسلوى كذلك، ضحيّة تضطّهد ضحيّة أخرى، هذه هي المشهديّة الحقيقيّة التي يُنتجُها الاستعمار متحالفًا بقصدٍ أو بدون قصدٍ مع النظام الأبويّ الذي يحكمُ سيرَ المجتمع العربيّ في الداخل المحتلّ، أو في الضفّة المحتلّة وقطاع غزّة، وهي المشهديّة التي لا تزالُ منذُ عقودٍ طويلة تعيدُ إنتاج نفسها تحت مسمّيات عديدة، ومن خلال ممارسات مختلفة بعضها ظاهر وبعضها باطن؛ من الاعتداء الجنسيّ في داخل العائلة، وصولاً إلى القتل تحت مسمّيات كـ"القتل على خلفيّة الشرف". وربّما تكون سلوى ذات يومٍ، أو كانت، إحدى ضحايا هذا القتل، وها نحنُ نعرفُ، أنّ الأمرُ فعلاً لم يكن متعلّقًا بأي "شرف" مزعوم، بَل كان متعلِّقًا ببنيّة سلطويّة استعمارية أبويّة تدميريّة لا غايَة لَها سِوى إخضاع ومحو وإبادة الإنسان الفلسطينيّ، الذي وللمفارقة الساخرة، يُسهِمُ هو نفسه في هذا كلّه.


اقرأ/ي أيضًا:

المرأة الخارقة وزوجها الكسول

السيدة ميشلين والفتاة الملثمة

حريتي بأن لا أكون حرة