28-أبريل-2018

لغة بسيطة قريبة من الواقع والحدث، تلك التي يوثّق من خلالها عيسى القواسمي الأحداث اليوميّة في القدس المحتلة، في 216 صفحة من كتابه "انتصار الغضب".

   "انتصار الغضب".. كتاب يوثّق صمود أهالي القدس في الفترة بين 14 – 27 تموز 2017   

يبدأ القواسمي كتابه بعبارة تعجّبيّة تصف حال القدس وأهلها "كلما أخطانا الموت، تنفّسنا الحياة على عجالة، ومن حولنا صمت يطويه صمت!"، وفي الصفحة التالية وتحت بند "إهداء" يكشف الكاتب الفواعل المركزية في إنجاح الحراك المقدّس في القدس، ويبيّن الطبيعة السوسيولوجية لتلك الفواعل بقوله: "إلى شهيد لم ينتظر، لطفلة أثناء الرباط كانت تدعى سما، ثم بعد فتح أبواب الأقصى صارت تسمى مريم. لمسنٍّ مقعد لم يغادر بكرسيه باب "الأسباط" إلّا منتصرًا. للفتيات والنساء اللواتي بحناجرهن فجّرن الغضب. للشباب المقدسي الحرّ الذي لم يراهن عليه أحد فانتصر. لكل الأهل في الضفة وغزة، ومنافي الغربة كانت أرواحهم ترابط هنا. للقدس... لكل القدس التي أبت إلّا أن تصنع في زمن التخاذل، معجزة".

اقرأ/ي أيضًا: القدس من خلال 4 مذكرات شخصية

إنّ إهداء القواسمي الذي يعتبر عتبة من عتبات الكتاب هو إهداء موجّه وأساسيّ في فهم أحداث القدس وحراكها. وما يُرِيد الإهداء قوله غمزًا وصراحة في آن؛ أنّ الحراك والمقاومة شارك فيها الكل باختلاف أعمارهم وتركيباتهم الجنوسية والمناطقية، وهذه سمة ميّزت حراك القدس وفولذته، وأدامته لأكثر من أسبوعين من الصمود والتمرّد.

يصف الكاتب تفاصيل حياة المقاومة اليوميّة لأبناء القدس، فالأصدقاء والأسر والأقارب كانوا يجتمعوا معًا في ساحات وأروقة وطرقات وأزقّة باب الأسباط وباب حطة ومناطق أخرى من البلدة القديمة؛ ليجسّدوا من خلال الفعل اليومي والحياة اليومية فعل المقاومة والرفض والاحتجاج؛ وهذا ما نجح القواسمي في التماسه والتقاطه وتوثيقه على صفحته في فيسبوك، ثم جمعها في كتاب توثيقيّ.

لا قائمة لمحتويات الكتاب، رغم أنّ الكاتب يُقسّم كتابه إلى عدّة أقسام دون أن يشير إلى ذلك، وتلك الأقسام هي: المقدّمة، يوميات إغلاق الأقصى صيف 2017، وفعاليات فلسطينية بعد كسر قرار الاحتلال في إغلاق الأقصى، أي توثيق للحظات الانتصار، وقسم يوثّق قصص أحباب/ رواد الفجر. و"قصص تروى" يحكي القواسمي فيها عن قصص أطفال وشيوخ وأجانب مع المكان المقدسي؛ المقدّس والتاريخي والروحي والمقاوم، وكذلك توثيق بالصور، لحالة القدس العادية والاستثنائية وانتفاض أهلها رفضًا للبوبات الإلكترونية، بالمعايشة والمعاينة الميدانية، وأخرى تروي الحياة اليومية في القدس وتجسّدها في أمكنة وأزمنة متنوعة.

   منذ الفجر وإلى ساعات ما بعد المساء، يتتبّع كتاب "انتصار الغضب" ما يحدث في القدس، ابتداءً من ساحات الأقصى مرورًا بأزقّة وفضاءات البلدة القديمة، إلى ما حولها..   

تمتدّ صور القواسمي في الكتاب قبل طلوع الفجر إلى ما بعد المساء، وتمتدّ من ساحات الأقصى إلى أزقّة وفضاءات البلدة القديمة المتعددة والمتشعبة. من خلال الصور التي حواها الكتاب، يمكن كتابة سردية المقاومة في القدس، وتحليل طبيعة الحياة اليوميّة فيها؛ كون تلك الصور تكشف تفاصيل كثيرة عن القدس وحولها كمدينة عصيّة على الغزاة.

تبرز أهمية الكتاب كونه يوثّق صمود الفلسطينيين في القدس خلال فترة إغلاق الأقصى والبوابات الإلكترونية في تموز 2017. الجميل في التوثيق أنّه مباشر وشامل، قام به القواسمي من خلال معايشته الأحداث والمشاركة فيها يومًا بيوم ولحظة بلحظة، لم يقتصر على أحداث مكان واحد، إنما عايش الأحداث صباحًا في باب الأسباط، وقبل الظهر في باب حطة، وعند المساء في باب العامود، وما بين تلك الأوقات يمر بساحة الغزالي وكنسية الجثمانية وأماكن أخرى، ويوثق أحداثًا وروايات وحكايا ونكات يسخر من خلالها أبناء القدس من جنود الاحتلال وشرطته، بالطبع التوثيق لا يقتصر على الرجال، فقصص مقاومة النساء والطلبة والأطفال لها حضورها.

اقرأ/ي أيضًا: أسود باب الأسباط: حكاية من أسوار القدس

في مخيطة صغيرة في شارع صلاح الدين، قرب الفندق الوطنيّ بالقدس، يعمل الكاتب عيسى القواسمي خيّاطًا. وذلك مكّنه من أن يبرع في حياكة نصوصه ورواياته التي صدر منها "همس الظلال"، "عازفة الناي" و"الشغف". إلى جانب قيامه بدور المرشد التاريخي في القدس؛ فغالبية الزوار القادمين إلى المدينة المحتلة يطلبون منه مرافقتهم في جولة تمتد إلى أعماق وخفايا وحارات وأزقّة البلدة القديمة.

تعرفت على عيسى أثناء بحثي في تفاصيل الصمود والمقاومة بالقدس إبان إغلاق بوابات الأقصى، كنت أعكف على دراسة "سوسيولوجيا المقاومة والحراك في فضاءات مدينة القدس المستعمَرة". وصلت صفحة القواسمي على فيسبوك غنية بمواد توثيقية حول الأحداث والمستجدات في القدس، صور من قلب الحدث، فيديوهات توثيقية. تواصلت مع القواسمي وأجريت معه مقابلة معمقة امتدت لساعات في مشغله للخياطة، واكتشفت أنه مطلع على تفاصيل وروايات لأحداث ونهفات ونكشات وقعت إبان الحراك. أخبرت عيسى وقتها أنّه "جيمس سكوت فلسطين"، وسردت له مجادلة كتابه "المقاومة بالحيلة: كيف يهمس المحكوم من وراء ظهر الحاكم"، والذي ارتكنت عليه في تحليل النهفات والنكات التي انتشرت ضد الجنود الإسرائيليين والشرطة، وخصوصًا نهفات الأطفال بالكلمات والإشارات والغمزات والأصوات وغيرها من السلوكيات التي تشكّل في مجموعها "مقاومة بالحيلة".

   التوثيق في القدس يقول لنا السرديات والروايات، الآن في الحاضر وغدًا في المستقبل، فعلى على الرغم من كل محاولات محو الفلسطيني من القدس، كان في المدينة سياسات مقاومة  

التوثيق للحياة اليومية في القدس ومقاومتها، تتجلّى أهميّته في عدة أسباب منها: أنّ التوثيق في القدس لا يستطيع أي شخص القيام به، كون هناك شرط استعماري وحواجز تمنع أي فلسطيني الوصول إلى العاصمة المحتلة، وتوثيق الأحداث والحياة فيها، أي أنّ دور أهالي القدس مركزيّ في التوثيق؛ فلا يمكن تقديم صورة معرفية وحقيقية عن واقع القدس دون توفّر مادة خام أولية تتمثل في اليوميّات والحكايات والصور والأناشيد والنكات وخطاب الحياة اليومية، التي تشكل بمجموعها مادة مركزية لأي دراسة عن القدس وحولها.

كما أنّ التوثيق في القدس يقول لنا السرديات والروايات، الآن في الحاضر وغدًا في المستقبل، فعلى على الرغم من كل محاولات محو الفلسطيني من القدس، كان في المدينة سياسات مقاومة وسياسات ذاكرة وبنيات صمود وحكايات توثيقية، شكّلت بمجموعها مساهمات في تشكيل رواية عن القدس أرضًا وناسًا وحكاية ضمن الرواية الفلسطينية الكبرى وخطابها المتمثّل في العودة والتحرير وتحقيق المصير.  


اقرأ/ي أيضًا:

برواية فلسطينية.. القدس عاصمة ذكية على هواتفكم

شوارع القدس بأسماء "أبطال إسرائيل".. هل نجح التهويد؟

بالفيديو: هذه هيّ القدس.. صح أم خطأ؟