06-ديسمبر-2017

مواجهات في بيت امر عام 1988 - (Getty)

دهس مستوطنٌ أربعة عمال فلسطينيين، بواسطة شاحنة كان يقودها في مخيم جباليا في قطاع غزة، بتاريخ 6 كانون الأول/ديسمبر 1987، فكان ذلك الاعتداء أشبه بالخميرة التي أنضجت الظرف الثوري في فلسطين، فاشتعلت من بعده الأرض تحت أقدام الاحتلال، واندلعت ما عُرفت بانتفاضة الحجارة.

وعلى الرغم من مرور 30 عاماً على تلك الانتفاضة، ورغم ما تلاها من انتفاضات وهبات شعبية فلسطينية، مثل هبة النفق عام 1996، وانتفاضة الأقصى عام 2000، وهبّة الساكين عام 2015، ثم أحداث باب الأسباط في القدس في صيف عام 2017، إلا أن الذاكرة الجماعية الفلسطينية لا تزال تُؤرخ لانتفاضة الحجارة كحجر الزاوية في تاريخها النضالي ضد الاحتلال الإسرائيلي، تماماً كما في ثورة 36؛ التي تعتبر النموذج الثوري الأول لمجموع العرب في فلسطين.

تكاد انتفاضة الحجارة تكون أساساً في تشكل الهوية الثورية لعموم الجماهير في الأرض المُحتله، وذلك نابع من شمولها كل فلسطين وفعاليتها ونجاح أدواتها الجماهيرية

وإذا كانت المؤسسات والباحثون والمهتمون بالانتفاضة قد اهتموا بتتبع يوميات الانتفاضة؛ ورصد الأرقام وتوثيق الأحداث، فإن ذاكرة الجماهير الفلسطينية اهتمت بدرجة أولى بحكايات الانتفاضة وقصصها المُتنوعة التي أسهمت آنذاك في صناعة البطل، وخلق التصور الجماعي عن الثائر الذي يهزم الاحتلال، وكانت هذه الحكايات تنتقل بين الناس أسرع من انتقال النار في الهشيم، وتروى للتحفيز على مواصلة الثورة والإبقاء على صورة الفلسطيني البطل الذي لا يُقهر أما بطش الاحتلال وسياسته في قمع الانتفاضة ومنع استمرارها.

لقد خلق الفلسطينيون أساطيرهم الجديدة، وصارت تُروى حكايات خُرافية مُعاصرة مصدرها الجموع الثائرة على الاحتلال، فظهرت حكايات أشبه بالحكايات التراثية الخرافية، يتم تناقلها بنوع من التصديق والإيمان المُطلق في حدوثها، تماماً كما أوجدوا قوانين الانتفاضة، وطعام الانتفاضة، وتعليم الانتفاضة، وأعراس الانتفاضة، حتى أن الانتفاضة الشعبية غيرت من طبيعية الحياة اليومية وأدخلت مفاهيم قِيَمية جديدة على المُجتمع.

وصرنا نسمع أيضاً عن حكايات الانتفاضة، ونكت الانتفاضة، وهتافات الانتفاضة، وشعارات الانتفاضة، وأغاني الانتفاضة، وهي أشكال أدبية جديدة دخلت حياة الناس، ووجدت نفسها تتربع على تراثنا الثوري الذي لا يزال غنياً ويحظى باهتمام وحيوية سردية، لم يمل الناس من ذكرها والافتخار بها حتى اليوم.

حكايات الانتفاضة على تنوعها وتعدد أشكالها، استطاعت أن تخلق صورة البطل المُقاوم على اختلاف جنسه وعمره، فنجد في هذه الحكايات الأبطال من كل الأعمار والأجناس، إذ صار للجماهير بطلٌ مُلهمٌ قادرٌ على بعث الأمل لهم في الانتصار على الاحتلال وكسر الصورة التي خلقها لجيشه بأنه "الجيش الذي لا يُقهر". وصارت الجماهير تروي قصصاً شعبية تُؤسس لفن جديد في أدب المُقاومة، وهو فن لا يقوم على النُّخبة، وإنما تحمله الجماهير الشعبية وترويه بين كُل الأوساط.

تناقل الناس إبان انتفاضة الحجارة قصصاً ليس لها مصدر معروف، تنوعت بين النكات والأساطير، واجتمعت على التقليل من شأن جيش الاحتلال وتعظيم أفعال المقاومين

  ولعلّ من أوائل من تنبه لأهمية هذه الحكايات، الباحث والمؤرخ شريف كناعنة، الذي بدأ في العام 1988 بتوثيقها وتسجيلها، مُصنفاً إياها بأنها "حكايات خرافية مُعاصرة" أو "أساطير مُعاصرة".

وفي حديث لي مع كناعنة، ذكر أنه جمع في حينه بمساعدة طُلابه أكثر من 500 حكاية من حكايات الانتفاضة، وقد كان لهذه الحكايات، كما يقول، ميزات جعلتها تتحول لحكايات شعبية، ومن ذلك تناقلها من راوٍ لآخر مع غياب راويها الأول، وما تعرضت له من الزيادة والبلورة أثناء التناقل الشفهي، لتصبح حكاية كُل الناس.

وهذه الحكايات المُتنوعة تأخذ طابعاً جدياً وهزلياً وخرافياً، وتكون نكاتاً أحياناً، وتقدم صورة الفلسطيني كبطل ينتصر بالحيلة والذكاء والشجاعة والإصرار على حقّه، وتظهر جيش الاحتلال كمهزوم وغبي.

ومن هذه الحكايات:

1- في إحدى المظاهرات، حدثت مُشادة كلامية بين امرأة وجندي إسرائيلي، فطلبت المرأة من الجندي أن يضع سلاحه جانباً ليواجها، فضربته وطرحته أرضاً، فأخذ يصرخ ويستنجد بالجنود ليخلصوه من بين يديها.

2- أنجبت سيدة فلسطينية طفلاً، وأثناء خروجها من المستشفى، أوقفها جيش الاحتلال على أحد حواجزه العسكرية، وبدأوا بتفتيش أيدي الرضيع، فسألت الأم الجندي بعصيبة عن السبب؟! فقال لها بجدية: "بدي أتأكد إنه مش حامل حجارة في إيده".

3- اعتقل جيش الاحتلال أحد المُقاومين، وطلبوا منه في التحقيق أن يعترف عن مكان سلاحه، فاعترف بأنه يخفيه في مغارة تقع في منطقة نائية، فنقله الجيش إلى المنطقة وأدخلوه إلى مغارة كبيرة كان لها سرداب ينقلك للطرف الآخر من الجبل، فنجح المقاوم في الإفلات من قبضة الجنود.

4- اعتقل جيش الاحتلال طفلاً عمره 5 سنوات، كان يُلقي عليهم الحجارة، وسألوه عمَّن يُحرضه ليلقي الحجارة عليهم؟ فقال لهم بأن أخوه محمد من يرسله لذلك. فقام الجيش بحمله في الجيب وطوقوا بيتهم لاعتقال محمد، وكانت المفاجأة أن شقيقه محمد رضيع لا يتجاوز عُمره السنيتن.

5- مجموعة من الأطفال في المخيم أمسكوا بقط وربطوا برقبته (طابة) نايلون، ورموه داخل معسكر لجيش الاحتلال، وصار القط يجري مذعوراً داخل المعسكر، ولما رآه الجيش اعتقدوا بأنه مفخخ، وبدأوا بملاحقته لاعتقاله خوفاً من انفجار القنبلة، وقد ظلوا طوال الليل وهم في استنفار حتى أمسكوه، ثم أتوا خبير المُتفجرات ليكتشف بأنها خُدعة من الأطفال، وهنا أطلق الجنود النار على القط ورموه عند سياج المخيم، فحمله الأطفال على خشبه ومشوا به في جنازه وهم يهتفون:

يا شباب التموا التموا .. والبس (القط) ضحى بدمه

يا شباب انضموا إلينا .. والبس غالي علينا

6- امرأة فلسطينية كانت حامل بتوأم وحان موعد الإنجاب، تزامن ذلك مع فرض جيش الاحتلال منعاً للتجول في منطقة سكنها، فأخذها الجيش إلى المستشفى، ولما نزل من بطنها الطفل الأول وشاهد جنود الاحتلال، صرخ على أخيه الذي لم ينزل  بعد من بطن أمه: "ولك فيه جيش! مطوقة مطوقة ناولني حجر".

7- في إحدى القرى خرج شاب لتوزيع بيانات الانتفاضة، فسقط وكسرت قدمه، فلما أفاقت والدته على صوته أدخلته للبيت، وانتبهت للبيانات المتناثرة أمامه، فجمعتها، وبعد أن نام ابنها خرجت بنفسها ووزعت البيانات ورجعت للبيت.

8- في إحدى المظاهرات، أطلق جيش الاحتلال النار وأصابوا واحداً من أنشط شباب الانتفاضة، فحملوه للمستشفى وكانت الرصاصة قد دخلت من صدره وخرجت من ظهره، وبعد التصوير والفحص تبين أن الرصاصة لم تمس أي جزء من جسمه بسوء.

9- أجبر جنود الاحتلال أحد المواطنين على طمس شعارات الانتفاضة المكتوبة على جدران قريته، وسلموه علبة دهان وغادروا، وحين عادوا وجدوا الشعارات كما هي، فيما كان الرجل قد دهن باب بيته القديم وزيّنه باللون الأسود.

10- اقتحم جيش الاحتلال إحدى القرى ووقفوا أمام مطعم فلافل، وكانت هناك شعارات مكتوبة على الواجهة وتحتها توقيع "م.ت.ف"، فاستدعوا صاحب المحل لمسحها، وطلبوا منه أن يقول لهم ماذا تعني هذه الأحرف؟ فقال لهم هذه تعني: "ممنوع تقلي فلافل" فتركوا الشعار وغادروا.

ومع الإشارة إلى أن عدم وجود مصدر معروف لهذه الروايات وسواها من الأساطير المتناقلة، إلا أن ذلك لا يلغي أن انتفاضة الحجارة شكّلت حالة خاصة في تاريخ الثورات والانتفاضات والهبات الفلسطينية ضد الاحتلال البريطاني، ومن بعده الاحتلال الإسرائيلي، رغم أن المقاومين خلالها لم يمتلكوا من الأسلحة إلا الحجارة، والسكاكين، وتوزيع المنشورات، وكتابة الشعارات، ما دفع جيش الاحتلال إلى استنفار كل قوته في التعامل معها، فلاحق حتى موزعي البيانات، وكُتاب الشعارات، واجتهد في إجبار الناس فعلاً على مسح الشعارات عن الجدران، وربما بلغ القمع حينها ذروته باستخدام سياسة تكسير العظام في التعامل مع المتظاهرين.