10-أكتوبر-2015

في بيت لحم (Getty)

يكاد لا يمرّ يومٌ على فلسطين إلا وتُثار تساؤلات حول ما إذا كانت الحالة النضالية الفلسطينية بأبسط أدواتها وتجلياتها الجماهيرية بلغت ذروة تفجّر انتفاضة جديدة في وجه الاحتلال. والكلامُ المتواتر راهنًا على بوادر اندلاع انتفاضة ثالثة يندرج في سياق تلك الحالة، مُتمثلة في شكل هبّات ومواجهات شعبية ضد سياسة القمع الإسرائيلية، بمعزل عن أي توصيفات ومسميّات تطال الغضب الجماهيري أو تحصره في قالب نضاليّ واحد ضمن مرحلة التحرر الوطني التي يشكل الإنسان الفلسطيني عصبها مجرّدًا عن انتماءاته الفصائلية، كما حدث في انتفاضة الحجارة الأولى عام 1987، وانتفاضة الأقصى الثانية عام 2000.

 من الخطأ إسقاط ممهّدات الانتفاضتين السابقتين على الوضع الراهن، وفق تصوّر تنميطيّ للمسيرة النضالية

مع ذلك، من الخطأ إسقاط ممهّدات الانتفاضتين السابقتين على الوضع الراهن وفق تصوّر تنميطيّ للمسيرة النضالية؛ كونها أشبه بنهر هيراقليطس الذي لا يمكن عبوره مرّتين، عدا عن أن الوضع الفلسطيني منذ أوسلو مُغايرٌ بالضرورة، ويجعل مسارات المواجهة ضد الاحتلال فارقة عن سابقاتها؛ فهي محكومة الآن بالاصطدام مع تنسيقات أمنية بين السلطة الوطنية وإسرائيل أملَتها اتفاقية أوسلو وشدّدت عليها اتفاقية طابا عام 1995، ما قد يعطّل المنحنى التصاعدي للهبّة الجماهيرية ويكبح جماحها خشية تفاقم الأمور وخروجها عن نطاق السيطرة. 

يعزز ذلك ما تسرّب مؤخرًا حول إصدار الرئيس الفلسطيني أوامر للأجهزة الأمنية فحواها ضرورة العمل على استيعاب ومواجهة أعمال "العنف" الأخيرة في الضفة الغربية، مدفوعًا فيما يبدو بالتزاماته الأمنية التي تقفُ لها "إسرائيل" بالمرصاد، وهو أمرٌ لا يتّسق تمامًا مع قرار المجلس المركزي الفلسطيني، أذار الفائت، والقاضي "بوقف التنسيق الأمني بأشكاله كافة مع سلطة الاحتلال الإسرائيلي في ضوء عدم التزامها بالاتفاقيات الموقعة بين الجانبين".

أما هذه المرة، فقد ألقت ممهّدات اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة بظلالها، وأعادتها إلى مُربّع الاجتهادات المثقلة موضوعيًا بتحليل ما يجري على الأرض، ورفع سقف التوقعات أو خفضها في غمرة ممارسات القمع الإسرائيلية التي تراكمت وتصاعدت حدّتها، وجعلت احتمال اندلاع انتفاضة ثالثة واردًا ومقرونًا بسؤال: من أيّ باب ستدخل هذه المرة؟ على نفس الصّعيد، لا يعني ذلك بالضرورة حتمية اندلاعها ولا أيضًا حتمية اعتبارها مجرّد مواجهات محدّدة المدّة، نظير ارتباطه بوقائع موضوعية واجبة التّحصّل، من دون إغفال حقيقة الوصول سابقًا وفي مرات عديدة إلى ذروات تصعيدية ومتأزّمة من جانب الاحتلال، ليس أقلّها آخر ثلاث حروب على غزة، قابلتها مقاومات مختلفة الأشكال على الأرض، لكنّها لم تكن كفيلة بالتطور إلى شكل انتفاضة عارمة.

جملةٌ من الظروف المتشابكة دفعت بالإنسان الفلسطيني إلى التعويل على الحلّ الفردي لإنقاذ مصيره وحياته المرتبطين أساسًا بقضيته أولًا وأخيرًا، وهي بالمحصلة تمثل الأبواب التي ستدخل أي انتفاضة منها، آجلًا أم عاجلًا، في ضوء ممارسات حكومة الاحتلال على صعيد إغلاق السبل المؤدية إلى حلول عادلة تقرّ بالحقوق الفلسطينية والسيادة الكاملة في إطار الدولة، وسياسة التغوّل الاستيطاني التي تضاعفت عدّة مرات منذ أوسلو، وارتكاب المزيد من الانتهاكات اليومية والممارسات القمعية في المسجد الأقصى بُغية تهويده، مصحوبة بتهديدات متواصلة لاجتياح مناطق الضفة الغربية، فضلًا، عن استمرار الانقسام الفلسطيني وغياب فرص الوحدة الوطنية تحت مظلة الكفاح الموحّد. 

جميع ما ذكر وأكثر ألقى بظلاله على الشارع الفلسطيني، وتسبّب له بحالة من انعدام الثقة والنكوص، ولعل ما يؤثر في صعوبة التكهن بدقة حول طبيعة التطورات المتوقعة وسيناريو الأيام القادمة يرتبط أساسًا براهن الواقع الذي بات على صفيح ساخن ودرجة عالية من التعقيد، يحكمه تصاعد وتيرة المواجهات المباشرة مع جيش الاحتلال والمستوطنين بأعداد كبيرة مُرشّحة للارتفاع في ظل توافر العوامل الموضوعية آنفة الذكر، والتي هيّأت بدورها لبيئة أصلح ما تكون لاندلاع انتفاضة ثالثة بين لحظة وأخرى، ما زال ينقصها قيادة ميدانية موحّدة تُسقط تمامًا من اعتباراتها وحساباتها أي انقسام فصائلي.

الانتفاضة الفلسطينية انعكاس طبيعي لحقٍّ مشروعٍ بالتحرر وإقامة الدولة المأمولة

من المحتّم قراءة الوضع الفلسطيني على الأرض ضمن سياق تقاطعه مع ظرف اليأس السياسي، والشعبي استطرادًا، من تبعات أوسلو والمفاوضات المتعثرة، لا سيما وأن القيادة الفلسطينية لم تعد تملك أوراقًا تفاوضية رابحة يمكن التلويح بها، ما أودى بالرئيس الفلسطيني إلى التهديد في كلمته الأخيرة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بتدويل القدس، بالتزامن مع استمرار الغليان في الأقصى وممارسات جيش الاحتلال والمستوطنين الاستفزازية التي وجدت الرّد الشعبي الحازم ضدّها بالسّلاح الأبيض والحجارة وسواها.

لم تكن الانتفاضة الفلسطينية يومًا مجرّد تعبير عن موقف رافض للاحتلال، وإنما انعكاس طبيعي لحقّ مشروع بالتحرر وإقامة الدولة المأمولة. ونظرًا لما للانتفاضة من امتياز العفوية في الانطلاق والتمدّد والاتساع، فقد أضحت مثالًا للإرادة الشعبية والجماهيرية القوية، واختزلت هذه الإرادة في أنماط مقاوماتية ونضاليّة تحولت بدورها في المحصلة إلى معادلة ثورية صعبة التفكيك.