01-سبتمبر-2018

كانت زيارة واحدة لمستشفى الرنتيسي التخصصي للأطفال في مدينة غزة كفيلة بكشف حجم إصابات الأطفال بالأمراض المعوية المختلفة؛ التي من أبرز أعراضها الإسهال وارتفاع درجات الحرارة واستفراغ الطعام، وهي ذاتها التي  تُلاحظها الأمهات في غزة على أبنائهن في فصل الصيف بكثرة، وقالت كثيرات منهن كُن يراجعن في المستشفى لـ الترا فلسطين إن آخر مكان قصده الصغار كانَ شاطئ بحر غزة.

الأطباء في مستشفى الرنتيسي فضلوا عدمَ الربط بين زيارات البحر والأمراض المعوية التي يعاني منها أغلب مُراجعي قسم الطوارئ وبينَ تلوث مياه البحر وشاطئه في القطاع. وقالَ الطبيب المناوب لـ الترا فلسطين: "من الصعب تحديد مصدر البكتيريا المعوية التي تدخل إلى أجساد الأطفال، فكل طعام أو بيئة غير نظيفتين يمكنهما التسبب بالأعراض نفسها".

إصابات بأمراض معوية متنوعة بين الأطفال في غزة بسبب تلوث حيوي، لكن مصادر طبية ترفض الربط بين تلوث البحر وهذه الأمراض

الطبيب الذي طلب عدم ذكر اسمه رفض التصريح بعدد الأطفال المصابينَ بتلكَ الأعراض، وقالَ إن الاصابات بالأمراض المعوية عند الأطفال لا ترتبط بفصلٍ معين حتى وإن ارتفعت نسبتها في الصيف.

ملوثات بيولوجية

المَخبري عبد العزيز السراج، ويعمل في أحد أكبر المختبرات الطبية في مدينة غزة، قالَ لـ الترافلسطين، إن أغلب التحاليل المخبرية للأطفال أظهرت إصابتهم ببكتيريا معوية وديدان يمكن علاجها بشراب من عائلة "الفلاجين" المُطهرة للمعدة، وهي أمراض يتسبب بها التلوث البيولوجي أو الحيوي.

اقرأ/ي أيضًا: أهل غزة للإسرائيليين: المجاري علينا وعلى أعدائنا

التقطَ الأطفال الأمراض من شاطئ بحر القطاع، وفقَ شهادات أهلهم وترجيح السراج، وهو ما يؤكده أستاذ علم البيئة في الجامعة الإسلامية بغزة عبد الفتاح عبد ربه على ذلك بقوله إن ما يقارب الـ 120 كوبًا من المياه العادمة تُقذف يوميًا في بحر القطاع، تترك ملوثات بيولوجية (بكتيريا وطفيليات وفيروسات وميكروبات) وفيزيائية (رمال وأتربة وحرارة) وكيميائية (عناصر ثقيلة وسموم)، وهي كفيلة بأن تتسبب بأمراض عديدة للمصطافين، منها الأمراض المعوية والجلدية والتهابات العين والأذن والتهابات الجيوب الأنفية والحلق.

مياه عادمة تُقذف يوميًا لبحر غزة تُسبب تلوثًا كفيلاً بإنتاج أمراض معوية وجلدية والتهابات في العين والأذن والأنف

ولفتَ إلى أن الكثير من الملوثات البيولوجية التي تصل البحر عن طريق تصريف المياه العادمة له تتحوصل ولا تتأثر بملوحته أو درجة حرارته، وتنتقل مع عمليات المد والجزر إلى الشاطئ وتترسب في الرمال، فتصبح الرمال كما المياه بيئة خصبة لنقل المرض للمصطافين وخاصة الأطفال منهم، مؤكدًا أن التلوث الفيزيائي لا يُخلف أمراضًا تُذكر، ولا يمكن الجزم بأن تلوثًا كيميائيًا يُغير طبيعة البحر والشاطئ لأن قطاع غزة يفتقر للمصانع التي يمكنها أن تُسببَ ذلك.

وفي اختصار لبحثٍ منشور بالإنجليزية، أعده عبد الرؤوف المناعمة، أستاذ الأحياء الدقيقة من غزة، ونشره في بوابة البحث العملية (research gate) يؤكد أن أكثر ملوثات البيئة البحرية في قطاع غزة بيولوجية، كالعقديات البرازية، وجراثيم الكليوفورم، وبكتيريا السلمونيا، وبكتيريا الشيقيلا، وهي ملوثات موجودة في المياه العادمة بكثرة.

تصريف متدرج في البحر

في مقارنة بينَ بيانات سلطة جودة البيئة للأعوام 2015/2016/2017/2018، يُلاحظ ارتفاع نسبة ارتفاع تلوث مياه البحر التي عزتها السلطة إلى تصريف المياه العادمة المعالجة وغير المعالجة عبرَ نقاط تصريف رئيسية وفرعية.

في الجدول المرفق تظهر ارتفاع نسبة تصريف المياه العادمة إلى البحر ونسبة التلوث التي تتسبب بها.

السنة نسبة التلوث المياه العادمة التي تُضخ للبحر/يوميا
2015 60% من شاطئ القطاع 100 ألف متر مكعب
2016 52% من شاطئ القطاع  أكثر من 100 ألف متر مكعب
2017 73% من شاطئ القطاع 110 ألف متر مكعب
2018 75% من شاطئ القطاع 115 ألف متر مكعب

تُبرر سلطة جودة البيئة لبلديات القطاع ضخ المياه العادمة المعالجة وغير المعالجة للبحر بتفاقم أزمة الكهرباء، فيما لم تتخذ أي جهة حكومية خطوات عملية لمراجعة أو محاسبة البلديات باعتبارها تتسبب بتلوث بيئي تماشيًا مع المادة 32 من القانون الفلسطيني 7 لعام 1999، الذي يحظر على أي شخص القيام بأي عمل من شأنه تلويث مياه البحر، ويُعاقب مرتكبه بغرامة مالية لا تقل عن 5 آلاف دينار أردني ولا تزيد عن 50 ألف دينار أو ما يعادلها بالعملة المتداولة قانونًا، وبالحبس مدة لا تقل عن سنة ولا تزيد عن عشر سنوات، أو بإحدى هاتين العقوبتين.

بلدية مدينة غزة التي يمتد نفوذها إلى 8.340 متر على شاطئ القطاع، وهي الأكثر حظًا بطول الشاطئ، إذ امتلكت 5 مصبات رئيسية لمياه المجاري على بحر المدينة، و3 مصبات فرعية عام 2017 وفقَ الخريطة التي نشرتها سلطة جودة البيئة آنذاك، وقد بلغت نسبة التلوث على شواطئ محافظة غزة 90% عام 2016 مقارنة بشواطئ المحافظات الأخرى.

مدير دائرة المياه في بلدية غزة، المهندس رمزي أهل، قال لـ الترا فلسطين إن بلديته تحتاج إلى نصف مليون دولار شهريًا لتوفير 200 ألف لتر سولار لتشغيل مضخات تنقل المياه العادمة إلى محطات المعالجة؛ التي تحتاج بدورها إلى حوالي 30 ألف لتر سولار شهريًا لتعالج المياه قبلَ التخلص منها في البحر، وهذا المبلغ غير متوفر لذا فإن ما تستطيعه البلدية في الوقت الحالي، ومع اشتداد أزمة الكهرباء هو ضخ المياه بعدَ معالجتها جزئيًا إن أمكن إلى البحر مباشرة عبرَ المصبات الرئيسية والفرعية القريبة من الشاطئ.

بلدية غزة تُسبب النسبة الأكبر من تلوث بحر غزة، وتُعلل ما يحدث بأنها تحتاج نصف مليون دولار شهريًا لمعالجة التلوث، وهو مبلغ غير متوفر

"تعمل البلدية 3 إلى 4 ساعات على الكهرباء التي توفرها سلطة الطاقة، فيما تعمل على المولدات 7 ساعات متواصلة في حال توفر السولار، إذ أصبحَت الكهرباء بديلاً للمولدات لا العكس"، هذه الحالة تستمر طوال العام وفق أهل، أي أن بحرّ القطاع لا يملك مُتسعًا من الوقت لُينظفَ نفسه من ملايين المترات المكعبة من المياه العادمة التي تصله يوميًا.

مشاريع "إنقاذ" غير مجدية!

غياب التمويل، حسب أهل، يُقيد بلديته في تبني أي مشروع للتخلص من المياه العادمة أو معالجتها كُليا قبلَ ضخها للبحر. لكن حتى تلكَ المشاريع الصغيرة التي تكرر المياه العادة لتصبحَ صالحة للزراعة؟ سألناه، فأجاب، "لا جدوى حقيقية من هذه المشاريع، لأنها تحتاج مساحات واسعة من الأرض وتمويل كافي، حالها كحال الخلايا الشمسية التي رغمَ مطالبتنا بتمويلها نعرف جيدًا أنها تقتل الأرض التي تُزرع فيها، ولا تكفي طاقتها لتشغيل محطات المعالجة".

اقرأ/ي أيضًا: سردين غزة غذاء لفقرائها.. ماذا عن الصيد الجائر؟

الحل الأمثل والواقعي من وجهة نظر المُهندس أهل هو تشغيل محطة الكهرباء على مدار الساعة، أو توفير السولار للمولدات، ولأن استعادة ساعات الكهرباء الثمانية فقط في غزة يحتاج إلى مُصالحة سياسية فشلَ تحقيقها أكثر من عشر سنوات، سيستمر بحر القطاع في استقبال المياه العادمة دونَ حلٍ حقيقي.

بلدية غزة: استمرار أزمة الكهرباء وعدم تحقق المصالحة يعني استمرار بحر القطاع في استقبال المياه العادمة دون حل

مدير مقر رفح الإقليمي في مصلحة مياه بلديات الساحل، المهندس محمد العبويني، كانَ أكثر تفاؤلاَ من أهل، إذ استبشرَ بمشروعٍ لتشغيل محطات معالجة المياه العادمة في بعض البلديات التي تشرف عليها مصلحته على الطاقة الشمسية يُنقذُ بحرَ القطاع - على حد تعبيره - من المياه العادمة.

كانَ يستقبلُ بحر مدينة رفح 15 ألف كوب من المياه العادمة المُعالجة ثنائيًا بكفاءة 70%، قبلَ أن تشتد أزمة الكهرباء وتصل كمية المياه ذاتها للبحر بمعالجة بدائية تعتمد على إضافة الكلور للمياه الخارجة من محطات المعالجة، "وهي حالة تستمر مع استمرار أزمة الكهرباء، فالمولدات لا تمتلك قدرة على تشغيل المحطة طوال الوقت" وفق المهندس العبويني.

وتابع العبويني لـ الترا فلسطين، "أنهينا المرحلة الأولى من مشروع لتشغيل محطات المعالجة في بعض بلديات المصلحة على الطاقة الشمسية بقدرة 50%، ونحن بصدد البدء بالمرحلة الثانية، ناهيك عن ترقية محطات المعالجة إلى الثلاثية، وهذا كُله يعني أن السنوات القادمة سيكون تلوث البحر أقل بكثير".

تعمل مصلحة مياه بلديات الساحل في القطاع منذ عام 2005، وتمتد نفوذها إلى الشاطئ جميعه ما عدا آلاف الأمتار المتبقية لبلدية محافظة غزة، أي أن ضخ المياه العادمة لبحر القطاع ينقسم بينَ شريكين فقط، بلدية غزة والمصلحة، وكلاهما يظنان أن أي  مشاريع للتخلص من المياه العادمة دونَ ضخها للبحر بعدَ معالجتها هي حلول ثانوية، حتى وإن مرت على مشاريع ضخمة كمحطة المعالجة -محطة البريج - الشرقية ثلاثية المعالجة وذاتية توفير الطاقة، المزمع استكمال تجهيزها قريبًا، فالبحر هو المكب النهائي الذي تعتمد عليه بلديات القطاع، لذا فإن الشكوك تتزايد بتعافي البحر من التلوث في السنوات القريبة المقبلة.


اقرأ/ي أيضًا:

صيادون غزيون يهجرون مراكب صيد إلى مراكب السباحة

تغيرات مناخية في فلسطين.. حقيقتها وتداعياتها

الفييجوا في غزة.. العين على الاكتفاء ثم التصدير