08-يوليو-2019

للعفويين في الحب أن يعجبوا بفتاة تربط شعرها إلى الوراء أو ترفعه عاليًا، أو تجعله يطير أو ينسدل وهكذا، لكن لـ "أكرم مسلم" في روايته الجديدة "بنت من شاتيلا"، فتاة تفعل هذا أيضًا بشعرها، ولكن تلاحقها ذبابة في كل مكان، في مخيم شاتيلا وفي مدينة هامبورغ الألمانية قرب البحيرة، وعلى خشبة المسرح المتخيّل، ففي كل مكان ثمة ذبابة تحط على جبينها، وتحوم قرب رأسها، في الصيف والشتاء... هذه الذبابة تأتي من زمن بعيد، زمن ارتكبت فيه مذبحة ودخل فيها الذباب طابعًا توثيقيًا على صور وألبومات لأناس أخذهم المصير إلى مسرح متوحّش في جيب فقير على حافة مدينة ونسيهم هناك.

      مصوّر الحرب الذي وصل مكان المجزرة في شاتيلا التقط صورة لها وكانت الذبابة هناك على جبينها. الجثث جاءت بالذبابة، وظلّت في حياة البنت الناجية        

"بنت أكرم مسلم" ليست كبنات باقي الروائيين، يفضّلونها رمزية أو أحادية المصير دائمًا، أو متوقعة الخيال والموقف كونها إحدى الناجيات من مذبحة صبرا وشاتيلا، لكن أكرم مسلم يتعرّف إليها عبر شخصية "الشاب الأنيق" في مدينة ألمانية، لنكتشف أنها تقيم في بيت سكنته أسرة يهودية كان لديها بنت تشبهها هي عازفة كمان، في سياق روائي يصنع عاصمة بشرية للسفاحين والضحايا، لمنصة قول عن إبادة الفلسطينيين على أيدي الإسرائيليين.

مصوّر الحرب الذي وصل مكان المجزرة في شاتيلا التقط صورة لها وكانت الذبابة هناك على جبينها. الجثث جاءت بالذبابة، وظلّت في حياة البنت الناجية. وسرعان ما تحولت البنت نفسها إلى دليل مجسم يرفعها آخرون لإثبات فجائعية الفاجعة.

في الرواية الجديدة لـ أكرم مسلم، ثمة فريق ممتاز من الأدوار والأبطال، كلهم روائيون، كيف روائيون؟ لا أعرف، وإنما هي كلمة أستخدمها في وصف المواقف عندما لا يفسرها العلم أو المنطق أو الجمال... هكذا روائيون كما خلقهم ربهم.
 
فأم البنت التي نجت من مذبحة صبرا وشاتيلا، كي تعدّ نفسها للإنجاب، تبعد أصغر طفل عنها لتعدّ الفراش لمولود جديد، فتستخدم أسطورة تاجر حيفا الذي عاد بعد سنوات من الاختفاء في إسطنبول ووجد أحدهم يتمدد قرب زوجته فطعنه حتى الموت ليكتشف أنه وحيده الذي تركه طفلًا في الثالثة.. أي نبع حنان هذا الذي يلد الأولاد الفلسطينيين ليكثروا ويتكاثروا؟ ومع ذلك لا مجال لأي مخيال إلا أن يسامح هذه الآلهة التي تخرج الولادة من عبث وعدم وأساطير، تمامًا مثلما كان أصلنا في هذه الحياة.

   الجنرال يستشهد في لحظة روائية تمامًا في غزة وهو يصرّ على إنزال الرتب عن كتفه رتبة رتبة، كأنه يرفض زمنًا كاملًا فيرمي النياشين عن كتفه وبيده الأخرى يطلق الصواريخ، بحثًا عن موت يليق بمقاتل     

ووالد "بنت من شاتيلا" جنرال عركته الحروب، بدأ حياته مقاتلًا في معركة الكرامة بالأردن، وبعدها في جنوب لبنان، وجاء إلى غزة في مشروع سياسي يخسر، وصار صاحب مقولة "لن يهدأ لي بال حتى يصنع الفلسطينيون الصواريخ كما يصنعون كعك العيد". ومقولة "السلاح بيت اللاجئ... وإذا خسرناه ذبحونا بلا هوادة"... هذا الجنرال الذي يستشهد في لحظة روائية تمامًا في غزة وهو يصرّ على إنزال الرتب عن كتفه رتبة رتبة، كأنه يرفض زمنًا كاملًا فيرمي النياشين عن كتفه وبيده الأخرى يطلق الصواريخ، بحثًا عن موت يليق بمقاتل، لا ضابطا برتبة ورواتب. 

هذا المقاتل الذي يمثّلنا جميعًا في حلم الثورة والمخيم والمنفى والعودة له خطأ كبير. خيانة أنتجت ولدًا صار حبيب ابنته.

الرجل الثاني الذي ظهر في رواية أكرم، أسير تحرر من سجون القومية الاشتراكية في سوريا؛ فدائي ومهرّب سلاح قديم، تحمّل الحياة في السجن ثلاثين عامًا لكنّه لم يحتمل الحرية لسنوات، بعد أن خسر زمانه ومكانه وحتى اسمه، وصار يمشي هائمًا في شوارع المخيم، وفي لحظة اعتداء تسببت بها حقيبة دبلوماسية يحملها، تطايرت بوسترات بلا اسم أعدّها عن صورته وهو شاب، صورة استردها من زوجته التي خلعته بعد سنوات قاسية من الانتظار وتزوّجت مهرّب سجائر بسيطا. 

       المتوقع أن الاسرى لا ينكسرون، أليس كذلك؟ هذا لم يحدث في رواية أكرم      

الـ "بنت التي من شاتيلا"، الناجية من المذبحة، التي نتوقع أن تكون صاخبة في موقفها من رواية المذبحة، وراديكالية في مواقفها تفاجئنا بهدوئها عندما يسألها "الشاب الأنيق" عن شعورها كضحية للضحية، إذ تسكن في منزل سكنته عائلة يهودية سيقت إلى الهولوكوست.. كانت هادئة في إجابتها، لكنها عميقة وواثقة ودقيقة في تفريقها بين الضحايا والناجين خصوصًا عندما يتحول الأخيرون إلى قتلة، فهي إذ تحتمل المربع النحاسي الذي وضعته البلدية على مدخل الحيّ للإشارة الى بيوت يهود أبيدوا، تعتبر أن ما يحدد هوية الناجين هي خياراتهم في الحياة. في المقابل، في جلسة ختامية لأحد البرامج الثقافية يظهر "الشاب الأنيق" حادًا في مواجهة الصوت الإسرائيلي في مسرح المساءلة عن هويات الإرهاب ولغات الضحايا ومقتنيات متاحف المذابح. 

الاثنان: "الشاب الأنيق" والبطلة، يقفان على مسرح معًا، مع موسيقى عربية ودمية "جمل"، يقفان ويقولان للعالم المنشغل بالبيئة، وهو يدّعي محاربة الإرهاب، يصرخان في وجه الحركات الاجتماعية التي بدّلت الثورة بشركات تدوير النفايات. أيها العالم لا تتنظر منّا شهادات صوتية في الذكري السنوية للمذبحة أو في الأبحاث الجامعية، فقط أوقف رنين منبه الساعة اليومي الذي نسيه موظف "دائري" في شقته، أوقف رائحة الجثة التي تنبعث من شقة سكنتها سيدة ألمانية لطيفة ماتت قبل أيام، وظلّ الطابق يعج بالرنين والرائحة. 

الرنين والرائحة... بطلان آخران في الرواية، يحتاجان قراءات متعددة للتعرف على كابوس الموظف الدائري وصوت السيدة العجوز التي ماتت، ومحمولات روائية جدًا قد تفهمون فيها رواية الضحية بشكل جديد يتخلص من المهارات الكلاسيكية المليئة بالصراخ والشعار والتعبئات الفاشلة. 


اقرأي/ أيضًا: 

انفوجرافيك: صبرا وشاتيلا.. المسؤولون عن المجزرة

"جزيرة فاضل".. هنا يرقد حلم العودة إلى فلسطين

"المطبخ الإسرائيلي" المليء بالأكاذيب

رقصة الفالس بين شاتيلا وأوشفيتز