15-ديسمبر-2018

صورة من المواجهات في رام الله - عدسة عباس مومنى (gettyimages)

هي بضع ساعاتٍ فصَلَت ما بين لحظة الشهادة ولحظة الثّأر في مدينة رام الله، ما بين مساء الأربعاء في الثاني عشر من ديسمبر وظهيرة الثالث عشر من ديسمبر؛ يستشهدُ صالح عمر البرغوثي منفّذ "عمليّة عوفرا" التي أدّت لإصابة 11 مستوطنًا، ويستشهدُ منفّذ "عمليّة بركان" أشرف نعالوة في مخيّم عسكر بعد مطاردة دامت لأكثر من شهرين لم يرتكب فيهما الشهيد خطًا واحدًا يدلُّ على مكانه؛ لَولا الجُهدُ المتواصل لجيش الاحتلال وعملائه في الضفّة الغربيّة، الذي أدّى لاغتيال الشهيد في اشتباكٍ عسكريّ فجر الثالث عشر من ديسمبر.

وفي انتقامٍ سريع، خرج مجد امطير من مخيم قلنديا بعد ساعاتٍ من استشهاد البرغوثي، وأقلَّ من ذلك على استشهاد نعالوة، ليطعن جنديين إسرائيليين في البلدة القديمة بالقدس، ويستشهد إثر إطلاق جنود الاحتلال النار عليه.

بضعُ ساعاتٍ وبضعة أيّامٍ وبضعُ ليالٍ تهاوى فيها "بيت العنكبوت" الأمنيّ الإسرائيلي، وتداعت نظريّته حول الضفّة الهادئة التي تنحدرُ منحدر التّطبيع والنّسيان والالتفات للقمة العيش

بضعُ ساعاتٍ وبضعة أيّامٍ وبضعُ ليالٍ تهاوى فيها "بيت العنكبوت" الأمنيّ الإسرائيلي، وتداعت نظريّته حول الضفّة الهادئة التي تنحدرُ منحدر التّطبيع والنّسيان والالتفات للقمة العيش. ما بين عمليّات فرديّة خلايا عسكريّة نَشِطة، وما بَين شارع الضفّة المتأهّب لأيّ عمليّة اقتحام؛ سقطَ "بيت العنكبوت" عبر رصاصاتٍ اخترقَت جُدرانَ الصّمت وأجساد الجنود الإسرائيليين في ظهيرة الثالث عشر من ديسمبر على نقطة تفتيش عسكريّة، وبعمليّة ثأر سريعة تذكّر بسلسة عمليّات الثأر التي عهدها الفلسطينيون في الضفّة الغربيّة إبّان الانتفاضة الثانية؛ ثأرُ يحيى عياش، ثأرُ رائد الكرميّ، ثأرُ الهنّود وغيرهم كثيرون ممّن سطَّروا بُطولاتٍ لا تزالُ ملهمة لعمليّات الثأر السريع للمقاومة الفلسطينيّة في الضفّة الغربيّة وكانت آخرها عمليّة بيت إيل البطوليّة.

اقرأ/ي أيضًا: "عملية رام الله".. المقاومة أمسكت بزمام المبادرة

من مسافة الصّفر، يترجّل المقاوم ويُطلِقُ الرصاصات التي تخترقُ أجساد الجنود وتخرجُ منها، ثمّ يختفِي من المكان فجأة كما ظهر فجأةً. يُردِي قتيلين يتبعهما ثالث ورابعٌ في حالة حرجة، وتُجَنُّ قيادات "إسرائيل" التي كانت حتّى بضع ساعات خلَت منتشية باغتيال نعالوة والبرغوثيّ.

كثيرة هي الأوهام التي سقَطَت في بضعة أيّام؛ سقَطَ وهمُ الدّولة ومؤسساتها "السياديّة" التي لا سيادة لها حتّى على نفسها، سقَطَ وهمُ التسوية، سقَط وهمُ الضفّة النائمة، سقَطَ وهمُ تصفية المقاومة في الضفة الغربيّة واحتوائها.

فمن العمليّتين المتتاليَتَن، "عوفرا" و"بيت إيل"، يظهرُ جلّيًا أنّ للمقاومة جسَدٌ صَلبٌ وبُنيَة تعملُ في الخفاء، ولها بنكُ أهدافها الحاضر والمليءُ بالعمليّات التي تنتظرُ لحظة الصّفر لتنفيذها، وللمقاومة حاضنة شعبيّة بإمكانها حمايةُ المقاومين واحتضانهم كما فعلت مع أشرف نعالوة الذي طارده الاحتلال شهرين كاملين في تخبّط كامل واعتقالات واسعة ومداهمات ليليّة لم تسفر عن شيءٍ حتّى لحظة اغتياله الأخيرة.

إلّا أنّ الوصول إلى منفّذ "عمليّة عوفرا" في وقتٍ قصيرٍ يكشفُ عن تناقضٍ صارخٍ في البنية الاجتماعيّة المؤسّسية لمدينة رام الله؛ فمن جهةٍ هناك المقاومة وجسدها الصّلبُ وحاضنتها الشعبيّة، ومن جهة أخرى هنالك المؤسّسة الأمنيّة وتنسيقها الأمنيّ المستمرّ ولكن أيضًا هنالك "كاميرات المراقبة" التي تعملُ كعُمَلاء متيقّظين لتسجيل أيّ حركة ووجهٍ تلمحهُ وتسجّلهُ في انتظار استيلاء جيش الاحتلال على تسجيلاتها.

من العمليّتين المتتاليَتَن، "عوفرا" و"بيت إيل"، يظهرُ جلّيًا أنّ للمقاومة جسَدٌ صَلبٌ وبُنيَة تعملُ في الخفاء، ولها بنكُ أهدافها الحاضر والمليءُ بالعمليّات

مع ذلك تستمرُّ هذه الكاميرات في العمل ولا أحدَ يجرؤُ على تحطيمها ولا أحدَ من أصحابها لهُ من البديهة أو الفطنة من شيءٍ يدفعهُ لمحو تسجيلاتها فور وقوع أيّ عمليّة. تلك بنية مدينيّة فاضحة الهشاشة، إحدى مخرجات التوجّه الاستهلاكِي السوقيّ المتنامي في الضفّة الغربيّة وفي رام الله على وجه الخصوص. الرّبحُ هو كلّ شيء والحفاظُ على هذا الرّبح وحمايتهُ يأتي فوق كلّ شيء ولا صوت يعلو فوق صوت "المصلحة الخاصّة" الدنيئة. هذه هي قيَمُ السّوق وبنيته الإلكترونيّة الأخلاقيّة التي بوجودها تسهّل عمل الاحتلال في الوصول إلى المقاومين. العملُ الذي كان سابقًا يتطلّبُ جهودًا استخباريّة غير معقولة، جيش من العملاء موازٍ لجيش الاحتلال نفسه، تمشيط كامل واجتياحات ليليّة دائمة للمدن؛ الآن يتمُّ اختصار بالحصول على تسجيل كاميرة مراقبة لمحل تجاريٍ لا يكترثُ إلّا لربحهِ الخاص ومبادئه التجاريّة الرخيصة في الحياة.

اقرأ/ي أيضًا: الشاباك يكشف سر نجاح نعالوة في الاختفاء

على الجهة الأخرى؛ لا يجدرُ بعمليّات المقاومة أن تقتصر على جنود الاحتلال وحسب، فلعُملاء الضفّة الغربيّة حسابٌ طويل مع المقاومة وقد آنَ للمقاومة أن تبدأ بتصفيَتِه. يسقُطُ الشُّهداء منّا بعد ساعاتٍ وبعد أيّامٍ ولا أحدَ يعرفُ كيف ومتى تمّ الوصول إليهم. آمنٌ نعالوة في مخبئه فيجدُ نفسه في لحظاتٍ في مواجهة مفتوحة مع الموت، آمنٌ جرّار في مخبئه بعيدٌ حتّى عن المدينة المليئة بالعُملاء فيجدُ نفسه في لحظاتٍ في مواجهة مفتوحة مع الموت، وفي سيّارة تاكسي يقودها وهو كلُّهُ يَقِينٌ من أمنهِ الشخصيّ يجدُ البرغوثيّ نفسهُ شهيدًا على يدِ قوّات خاصة.

ذلك هو حساب المقاومة مع العُملاء وكاميرات المراقبة والبنية الأمنيّة الإلكترونيّة المتعاونة مع الاحتلال في الضفّة الغربيّة. ذلك هو الحسابُ الذي يجدرُ بالمقاومة، بالحاضنة الشعبيّة، بالفصائل الوطنيّة، باللجان الشعبيّة، أن تبدأ بتصفَيَته والانتباه إليه.

قبل شهور طويلة، كانت رام الله مرتعًا للصحفيّين الصهاينة يتسوّقون في روابي التي تُشبهُ كاميرة مراقبة ضخمة ومرتعًا لرجال التنسيق الأمنيّ ومأمَنًا على من دخَلَها من الإسرائيليين؛ الآن رام الله النّاس، رام الله المقاومة، رام الله الثّأر السريع ورام الله الحاضنة الشعبيّة تكشفُ عن وجهٍ آخرٍ كان يراد له أن يظلّ مطموسًا تحتّ ادّعاءات السلام الاقتصاديّ والتّطبيع المعلَنْ لرجالات المقاطعة ومن والاهم؛ الآن رام الله تستعيد ذكرى الكتائب، ذكرى الردّ السّريع، ذكرى الاشتباكات وذكرى الانتفاضة الثانية ولا زال في "جعبة القسّام" ما يربك ويسوء العدوّ في ضفّة العيّاش.


اقرأ/ي أيضًا:

وطنيًا، ماذا يُمكن أن نفعل قبل فوات الأوان؟

درع سلواد

رام الله: غزلٌ قديم في ثورتها