12-مارس-2018

طلبة جامعة بيرزيت في مواجهة مع الاحتلال (أرشيف)

تترنّح المقولات العموميّة كما يترنّح السكارى في الحانات، هكذا، هي حالُ المقولات العموميّة التي عُمِّمَت، تناقض بعضها البعض، وتساند بعضها البعض، وتدّعي وتتقوَّل، وتمثِّلُ وتُمثَّلْ، وتُصوِّرُ وتُصوَّر، ما حدث وعمّا حدث في جامعة بيرزيت قبل أيامٍ من الآن، من اختطاف للطالب عمر الكسواني من "حرم" الجامعة على يد قوّة المستعربين الصهيونيّة.

   هذا حدثٌ عاديّ جدًا، في مجتمع يخضع للاستعمار، ولسيطرة نخبة أمنية سياسية متعاونة مع الاستعمار؛ وبيرزيت ليست منفصلة عن هذا المجتمع   

بداية، "الحرم"، هي المقولة التي من حولها ومن خلالها تُبنى المقولات جميعها، وهي بين قوسَين؛ لأنّها إشكالية. فـ"الحرم" في معاجم اللغة، "هو ما لا يحلُّ انتهاكه، ويحميه الرجل ويدافع عنه"، وهو "ما يقاتل الرجل عنه ويحميه". وفي حالة جامعة بيرزيت، فالمقصود هنا بـ"الحرم"، هو الحرم الجامعيّ، ومن هنا، تُضاف كلمة "الانتهاك"، للـحرم الجامعي، كواقعة لا خلاف عليها. إلّا أن الإشكالية الحقيقيّة هي هذه، هي في ادّعاء وجود ما هو "حَرَمٌ" أصلًا، في بلادٍ ترزح منذ ما يقارب المئة عام تحت نير الاستعمار، ولا يزال أهلها، يُسمُّون بقعًا منها بالـ"حرم"، ولا يزالون يسيِّجون من حولهم ما هو حرَمٌ وما هو ليس حرم. اللغة هنا، تشتبكُ مع الواقع لتضعنا في مأزق حقيقيّ، ولتشوّه وعينا بما يجري من حولنا، ولتدفعنا في حَميَّة مفاجئة تجاه حدثٍ لمثله العديد من الأحداث، إلَّا أنه ببساطة عندما يقعُ في بقعةٍ ما، يكون وقعه أشدُّ وطأةً علينا من غيره من الأحداث المماثلة.

بهذه الطريقة يصبحُ أي حدثٍ يقع داخل حدود جامعة بيرزيت الجغرافية، حدثًا غير عاديّ حتى وإن كان الحدث نفسه يقع خارج أسوار الجامعة. فعمليّات المستعربين لا تزال تحدثُ منذ دهر، وفيما يتعلَّق بالطالب المعتقل عمر الكسواني، فقد أفلت من عدّة محاولات سابقة لاعتقاله على يد المستعربين أنفسهم، قبل أن يستطيعوا اعتقاله في محاولتهم الأخيرة، ولم يكن هذا الصخبُ حينها، ولم نسمع بمقولات ادّعاء العجز والعري الفاضح وغيرها من المقولات التي تمّ تعميمها على صفحات التواصل الاجتماعيّ وفي الإعلام المحليّ.

ولكن، لا بدّ من الاعتراف بخصوصيّة المكان أيضًا. فلـ"حرم" الجامعة، خصوصيّة ثقافية ورمزيّة هامّة في المخيَّلة الأكاديميّة ولادّعاءاتها عن نفسها. إذ يُشكِّل ما هو داخل الحرم، انفصالًا حادًّا وضروريًا عن خارج المكان؛ في الداخل مجتمع غير ذاك الذي في الخارج، وما يحلُّ في الخارج لا يجبُ أن يحلّ في الداخل، وما يقَع في الخارج إن وقع في الداخل، فهو مؤشِّر على شدَّة الانحدارِ ومدى العجز إن وقع في الداخل، لأنَّه "انتهاك صارخ". لكنْ، الحقيقة أنّه ليس انتهاكًا صارخًا كما تدّعي المقولات، والحقيقة أنّه ممارسة استعمارية صهيونيّة، عاديّة جدًا بل وأقلّ من عاديّة، هذا إن سمَح "داخل الأسوار" لنفسه بالتماهي مع خارجها ورؤية الواقع كما هو لا كما يحبُّ لنفسه أن يراه وبالطريقة التي يطمئنُ نفسه الأكاديميّة بها.و إنّ الواقع، أي ما هو خارج الأسوار، في حالة يرثى لها، وفي حالة من الخضوع والانكشاف والعجز وعدم القدرة على التصدِّي لأيّ عملية اقتحام، خطف، اعتقال وحتى اغتيال يُقرَّر تنفيذها من قبل الحاكم العسكريّ الصهيونيّ وضباط الشاباك.

  إن المقولات التي رأت في اقتحام قوّة المستعربين لجامعة بيرزيت خصوصًا، حدثًا استثنائيًا وسابقة نوعيّة، لا تفعل سوى أن تزيد في تعميق الانفصال ما بين "النخبة الأكاديميّة" والمجتمع المحلّي بكافّة عناصره غير الأكاديميّة  

إن المقولات التي رأت في اقتحام قوّة المستعربين لجامعة بيرزيت خصوصًا، حدثًا استثنائيًا وسابقة نوعيّة، لا تفعل سوى أن تزيد في تعميق الانفصال ما بين "النخبة الأكاديميّة" والمجتمع المحلّي بكافّة عناصره غير الأكاديميّة. وعلى النقيض من هذه المقولات، وبالمثل، فالمقولات التي تدّعي أنّ ما حدثَ لم يكن ليحدث بنفس الطريقة في عام 87، هي أيضًا، مقولات تعزِّز فَصل مجتمع جامعة بيرزيت الطلّابي والأكاديمي عن الجماعة الوطنيّة بوصفهِ، أي مجتمع الجامعة، مجتمعًا مغترِبًا في عالمه الأكاديميّ والماليّ ولا ينتمي لواقع العجز الجماعيّ، عن طريق التوكيد على أنّ خروج قوة المستعربين بسلام من الجامعة يؤكِّد على أنّ الجامعة كما يُدّعى عنها شعبيًا: جامعة النُخبة وطلّابها في حالة اغتراب وانسلاخ عن واقعهم المعيشي.

الحدثُ فعلًا ليس حالة استثنائية، ولا هو بالحدث الذي يُعرِّي ويفضح حالة العجز التي نعيشها وهي حقًا موجودة. وإن كان لبعض المقولات العموميّة هذه أصلٌ حقيقيّ، فهي لا تلبثُ أن تتغاضى عن الظروف الموضوعيّة التي نشأ فيها الأصلُ وتمّت رعايته. فالأصلُ أنّ الجامعة قد أخذت تنحى اتجاهًا أكاديميًا وإداريًا، يتماهى مع السياسات النيوليبرالية الخاصّة بالحكومة الفلسطينيّة ومكوَّناتها الأمنيّة والسياسية والاقتصاديّة، وهذا المنحى، يساهم في تعزيز الثقافة الفردانيّة وأيضًا يساهم في تفتيت المجتمع الطلابي وإضعاف الحركة الطلّابية بكافّة مكوّناتها الحزبيّة. ربَّما ساهم هذا الأصلُ قليلًا، في مشهد الصمت الذي عمّ أرجاء المكان في موقع عمليّة الاختطاف، وهو بكلّ حال، حدثٌ غير مألوف من قبل، على الأقل لطلبة الجامعة الحاليين، أن يقع مثله في حرم الجامعة. وفي المقابل، فالعمليّة نفسها لم تستغرق سوى دقائق، بضع دقائق كانت كافية لتحدث العمليّة وتنتهي بـ"سلام"، وأيضًا باعتقال الطالب عمر الكسواني.

هذا حدثٌ عاديّ جدًا، في مجتمع يخضع للاستعمار، ولسيطرة نخبة أمنية سياسية متعاونة مع الاستعمار؛ وبيرزيت ليست منفصلة عن هذا المجتمع، بل هي كمؤسسة، من أكثر المؤسسات التي تحاول التأقلم تارةً مع تلك السياسات وتارةً مقاومتها حتى لا تندثر الجامعة برمّتها. أما الطلبة، فهم ليسوا من خارج المجتمع، بل هم منه، وقد تعلَّموا اللاجدوى، مثلهم مثل غيرهم، وقد تأقلموا مع حالة العجز التي نعيشها جميعًا، كغيرهم أيضًا. وفي هذا السياق، تكون المقولات التي تعيب على الطلبة صمتهم وعجزهم عن أيّ فعل، مقولات في أفضل أحوالها سخيفة، وأيضًا، تلك الشكاوى الدائمة من شرطة أوسلو وقوتها الأمنية المتعاونة مع الاستعمار، أيضًا شكاوى سخيفة.

أولًا، المقولات التي تعيب بشكلٍ دائمٍ العجز والعريّ الفاضح لهذا العجز، تلك التي تطالبُ ليل نهارٍ بالدم المسفوك جزافًا، في كلّ موقع وفي كلّ حدث، وتدّعي بشكلٍ دائم، أنّ الضفّة الغربيّة سقطت سقوطًا لا رجعة عنه، وهي ستلبثُ في عجزها أبد الدهر. هذه المقولات لا تختلف عن تلك التي تطالبُ غزّة بالمزيد من الدم بين الحين والآخر، غير آبهة بالمعاناة الصامتة التي تعيشها غزة آناء الليل وأطراف النهار.

وقد كانت الضفّة الغربية حتى حين، يتقدّم شهداؤها بصمتٍ نحو أقدارهم، كاشفِين عن وجهٍ آخر للضفّة الغربية وأهلها، لا يُعلِنون عن شهادتهم حتى يصيبونها، ولا يتقدّمون المنابر الإعلاميّة حتى تأتي هي إليهم تحدِّثُ عنهم. ولا تزال الضفّة الغربية في هذا منذ سنين، لا تغيِّر ولا تتغيَّر، فالشهيد يتلو الشهيد، والعملية تتلو العملية، وهذا كلُّه يجري في صمتٍ حتى يعلن عن نفسه. والسؤال الذي يبرزُ فور النّظر إلى هذا المشهد الكلِّي: من الصّحيح أن المشهد العام يُنبِئ بالعجز والشلل، ولكن هناك ما هو مخالفٌ للعجز في المشهد، وهو في صُلبِه، ليس منفصلًا ولا منسلخًا عنه، فكيف إذن ينبئ المشهد بالعجز والعار؟

أما ثانيًا، فتلك الشكاوى الدائمة من شرطة أوسلو وسياستها الأمنيّة. لقد طال هذا الأمر حتى أصبح يبعث على الضجر من هذه الشكاوى. ما كانت السلطة ومسؤوليها بعد الانتفاضة الثانية وحتى اللحظة، إلا واضحة في تصوَّراتها عن وظيفتها ومسؤولياتها وموقفها وعلاقتها بالكيان الصهيونيّ. وهي لم تُغيِّر يومًا في خطابها، بل كان يزداد وضوحًا مع مرور الوقت ومصاحبة السلوك لمسؤوليها لهذا الخطاب وتماهيه معه. فلماذا الشكوى الدائمة، والسخرية من انعدام وجود السيادة؟ السخرية جيّدة، إذا كانت متقنة، أما إذا كانت مجرّد خطاب أجوف مكرّر، فلا داعي لها.

في النهاية، إن لدى البعض مهارة هائلة في تصوُّرِ الأحداث اليوميّة من حولهم، كأنّها أحداث تاريخيّة كبرى، يجب عليهم بوصفهم شاهديها أن ينقدوها كما لو أنّهم ينقدون هزيمة كبرى لحقت بنا على حين غفلة، ولكن، هناك بعضٌ آخر، في صمت وفي تأنٍ، لا ينتجُ أي مقولات عموميّة، ولا يشكو القهر علنًا، بل هو في أمرهِ كاتمٌ عليه وعلى نفسهِ، هذا من يجدُ في نفسه حدثًا يوميًا ينتمي إلى حدث تاريخيٍ هائل وقضيّة تاريخيّة كبرى، ولا يجدُ في نفسه شاهدًا من واجبه صياغة قهره بالكلمات عند كلِّ حدث يوميّ.


اقرأ/ي أيضًا:

 فيديو | "مستعربون" يختطفون رئيس مجلس طلبة جامعة بيرزيت

ماجستير الدراسات الإسرائيلية ببيرزيت: أول من نوعه

الدراسات الثقافية الفلسطينية.. أداة مقاومة