16-ديسمبر-2021

(SAID KHATIB/ Getty)

يعاني صيّادو الأسماك في العديد من مناطق العالم من التغيّرات المناخية وتلوّث البحار وغلاء أسعار المعدّات واحتكارات الشركات الكبرى، ولكن الصياد في قطاع غزة يعاني فوق هذا كله من ملاحقة الزوارق الحربية الإسرائيلية وإطلاق النار والصواريخ والبالونات الحارقة بشكل دوري، ومساحات الصيد المسموحة تتحدد تبعًا لأهواء سلطات الاحتلال، وبما لا يلبي أبدًا حاجة آلاف الصيادين الذين يتكبدون خسائر فادحة.

    لمّ تتوقف الاعتداءات الإسرائيلية على صيادي غزة منذ أكثر من ربع قرن.. قتلت قوات الاحتلال منذ عام 2006 ما يقارب 14 صيادًا، وأصابت 200، كما اعتقلت 700 

في أيار/مايو 1994، وقّعت منظمة التحرير والسلطات الإسرائيلية "اتفاقية التسوية المرحلية الفلسطينية الإسرائيلية" التي أعطت للفلسطينيين الحق بالإبحار لمسافة 20 ميلًا بحريًا ضمن المنطقة "L" وفقًا لنصّ المادة (11). ولكن سرعان ما بدأت سلطات الاحتلال الإسرائيلي بخرق هذه المادة منذ عام 1996. وازدادت حدّة تلك الانتهاكات عام 2006 حين فرضت "إسرائيل" حصارها على القطاع، عقب اختطاف فصائل المقاومة الفلسطينية للجندي الإسرائيلي "جلعاد شاليط".

قتل واعتقالات ومصادرات

لمّ تتوقف الاعتداءات الإسرائيلية على صيادي غزة منذ أكثر من ربع قرن، وفي نهاية شهر آب/أغسطس الماضي، أصابت الزوارق الإسرائيلية الصياد عوض سلطان (33 عامًا) برصاص مطاطي في قدمه، ما تسبب له بنزيف حاد وكسور في كاحل قدمه، فاقمها أنه كان قد تعرض قبل أسبوعين من إصابته الأخيرة لإصابة في نفس المكان.

وسام سلطان (39 عامًا)، شقيق عوض، كان هو أيضًا على متن زورقه حين أُصيب شقيقه، أمتار قليلة كانت تفصل بين زورقي الشقيقين حين أُطلق الرصاص على الأخ الأصغر. روى لنا وسام تلك اللحظات، قائلًا: "كان أخي برفقة صديقه يصطادان السمك في منطقة الشمالية كالمعتاد وهي المنطقة القريبة من الحدود مع منطقة الخط الأخضر". حين لامس زورق عوض المنطقة "المسموح بها" إسرائيليًا، انهالت على القارب الصغير رصاصات مطاطية أطلقت من زورق إسرائيلي. وسام الذي اعتاد، كما جميع الصيادين من غزة على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، لم يُعر اهتمامًا لصوت الرصاص ولا لصراخ الجنود الإسرائيليين المطالبين أخيه بالتراجع للوراء، وأكمل رحلة الصيد، إذ لم يكن يعلم أن الاعتداء على زورق أخيه لن يمر بسلام، مضيفًا: "لم أتوقع أن مكروهًا أصاب أخي، فالرصاص المطاطي يُحدث ألمًا شديدًا ولكنه يخف تدريجيًا".

سارع صديق عوض إلى طلب الإغاثة الطبيّة وإرسال إشارة إلى الشرطة البحرية بوجود إصابات في عرض البحر.

لم تتمكن الشرطة البحرية من تحديد موقع الإشارة لذا توجهت سيارتا إسعاف إلى المنطقة الشمالية وإلى منطقة ميناء غزة، خوفًا من وجود عدة إصابات في مناطق متفرقة على طول الشاطئ.

يبدو أن الإصابة بالرصاص المطاطي أصبحت من روتين حياة الصياد، فقد تعرض وسام هو أيضًا لإصابات عدّة مرات، لكن أيًا منها لم تثنه عن مواصلة مهنة الصيد التي ورثها عن أبيه وجده. وسام وشقيقه يعرفان بحر غزة جيدًا، ويحفظان مناطقه، ويلفت وسام إلى أن بناء الجدار البحري الإسرائيلي فوق وتحت المياه عام 2018 أثّر بشكل كبير على كميات الأسماك التي يتم صيدها، قائلًا: "فقدنا ما يقارب 80 في المئة من كميّات الأسماك".

اقرأ/ي أيضًا: إسماعيل الفصيح.. رائحة بحر يافا في بحر غزة

وفي ظلّ تقصير حادّ من الجهات الرسمية والحقوقية في قطاع الصيد، بحسب ما يؤكد وسام، يواجه الصيادون وحدهم الاعتداءات الإسرائيلية، إذ قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 2006 ما يقارب 14 صيادًا، وأصابت 200، كما اعتقلت 700 في ظروف مهينة، وصادرت ما يقارب 170 قارب صيد، ودمرت 180 قاربًا. ووفقًا لنقابة الصيادين فإن متوسط الاعتداءات الإسرائيلية السنوية بحق الصيادين تتراوح ما بين 250 إلى 300 اعتداء.

رشاد الهسي ورث مهنة الصيد عن أبيه وجدّه الذي كان يملك رخصة صيد تعود إلى نهايات العهد العثماني. روى لنا عن استهداف الجنود الإسرائيليين لمركبه في كانون الثاني/ يناير 2017، حين استشهد قريب كان يرافقه في رحلة الصيد. ورغم مرور أربع سنوات على الحادث لم يتلقَ رشاد إلى اليوم أي تعويض عن مركبه الذي يقدّر ثمنه بآلاف الدولارات، لذلك اضطر رشاد للعمل هو وأولاده لدى أحد أقاربه. 

تقليص مساحات الصيد وتقسيمها

تتمثل المعاناة الرئيسية بالنسبة لرشاد، كغيره من الصيادين، بتغيير المساحات المسموح بها للصيد، ما يؤثّر بشكل مباشر على كميات السمك التي يصطادونها، هكذا صار متوسط دخل الصياد الشهري لا يتجاوز مبلغ 120 دولار أمريكي، وفق ما يؤكد رشاد، ويبيَّن أن الحكومة في غزة لا تُخصص أي برامج دعم لقطاع الصيد، على الرغم من أن عدد العاملين في القطاع كبير، ويقدر بنحو 4 آلاف صياد.

ويطالب رشاد المؤسسات الحقوقية والدول الراعية لتفاهمات التهدئة بالضغط على "إسرائيل" وإجبارها على عدم التلاعب بالمساحات البحرية، وتوفير الحماية الدولية للصيادين من بطش الزوارق الإسرائيلية الحربية، وإدخال كلّ معدات الصيد وقطع الغيار.

في هذا الإطار، يؤكد زكريا بكر منسِّق اتحاد لجان الصيادين في غزة أن معاناة أبناء المهنة بدأت عام 2006، إذ قلّصت السلطات الإسرائيلية المساحة البحرية من 20 ميل بحري إلى مساحة تقدر بين 6 إلى 12 ميلًا. كما يلفت إلى أن سلطات الاحتلال الإسرائيلية لم تكن ملتزمة بشكل كامل بمساحة الصيد المتفق عليها قبل عام 2006، إذ كانت أحيانًا تطلق النار على الصيادين أو تجبرهم على الرجوع إلى الشاطئ.

ويذكر بكر أنه "في عام 2007 قُلّصت المساحة إلى ثلاثة أميال، وبعد انتهاء عدوان 2012 ووفق تفاهمات التهدئة التي تمت بين الفصائل الفلسطينية وحكومة الاحتلال الإسرائيلي برعاية مصرية وأممية، وسّعت "إسرائيل" مساحة الصيد إلى ستة أميال، واستمر العمل بهذه المساحة حتى 2016".

اقرأ/ي أيضًا: سردين غزة غذاء لفقرائها.. ماذا عن الصيد الجائر؟

ومن موقعه، يؤكد جهاد صلاح مدير دائرة الخدمات السمكية في وزارة الزراعة في غزة، أن الاحتلال الإسرائيلي في بعض الأحيان يغلق البحر وُيقلص المساحات دون إعطاء مهلة للصيادين للخروج من المنطقة التي باتت ممنوعة عليهم، ما يُعرّضهم لخطر إطلاق النار، وفقدان شباكهم ومعدات الصيد، مبينًا أن 99 في المئة من معدّات واحتياجات الصيد غير موجودة في القطاع.

  الاحتلال في بعض الأحيان يغلق البحر وُيقلص المساحات دون إعطاء مهلة للصيادين للخروج من المنطقة التي باتت ممنوعة عليهم، ما يُعرّضهم لخطر إطلاق النار 

ويلفت إلى أن سياسة التقليصات زادت حدتها مع انطلاق مسيرات العودة الكبرى في آذار/مارس 2018. لافتًا إلى أنّ "إسرائيل لا تتسامح نهائيًا مع ما تعتبره خرقًا للمنطقة الممنوعة من الصيد، حتى وإن جرفت الرياح أو التيار القوارب إلى تلك المناطق، إذ تسارع فورًا لإطلاق النار أو اعتقال ومصادرة المراكب والمحركات".

ورغم أنّ الاتفاقات الدولية تعطي للدول المطلة على البحر الحقّ في استثمار مساحات الصيد في المياه الدولية التي قد تصل إلى 200 ميل، لكن سلطات الاحتلال الإسرائيلي قيّدت غزة بمساحة 20 ميل وفق اتفاقية أوسلو، ومن ثم قيّدت المقيّد بفعل سياستها الظالمة ضد القطاع.

ويلفت بكر إلى أنّ المساحات البحرية الضيقة لا تكفي صيادي غزة "إذ أنهم لا يجدون مساحةً كافيةً للإبحار والصيد، وتكون المنطقة متكدسة بالمراكب والصيادين، فكيف في حال التضييق وتقليص المساحة؟" ويضيف "متوسط حصة المواطن الفلسطيني من السمك في قطاع غزة لا تتجاوز كيلوغرامين سنويًا، بينما حصة الفرد الإسرائيلي تصل إلى 22 كيلوغرامًا سنويًا".

التلاعب الإسرائيلي بمساحات الصيد نهج مستمر. فخلال عام 2019 وحده غيّرت سلطات الاحتلال حدود المساحات البحرية 21 مرة ما بين تقليص أو زيادة. هذا كله عدا عن حالات إغلاق البحر بشكل كامل أمام الصيادين. أما في عام 2020، فقد تلاعبت "إسرائيل" بحجم مساحات الصيد 11 مرة. وخلال العام الحالي اقتصر التلاعب على 9 مرات فقط ولكن عمدت سلطات الاحتلال إلى إغلاق كامل البحر في وجه الصيادين لمدة 16 يومًا، تحديدًا خلال فترة التصعيد على غزة في شهر أيار/مايو، وتجاوزت خسائر قطاع الصيد خلال تلك الفترة، وفق الجهات الحكومية في غزة، مليون دولار أمريكي، نتيجة تعطّل عجلة الإنتاج وصيد الأسماك، فضلًا عن الخسائر المباشرة جرّاء قصف الموانئ والقوارب ومعدّات وشباك الصيد.

اقرأ/ي أيضًا: صانعو قوارب الصيد بغزة.. ملوك بلا عروش

لا تقتصر سياسة سلطات الاحتلال عند تقليص مساحات الصيد والتلاعب بها، بل زادت الأمر تعقيدًا ابتداءً من عام 2016، من خلال تقسيم هذه المساحات إلى محاور تختلف فيها المساحة المسموح بها بين محور وآخر، إذ حددت المساحة البحرية المسموح العمل فيها من شمال القطاع إلى مدينة غزة بستة أميال، ومن غزة إلى وسط القطاع بـ 6-9 أميال، ومن وسط القطاع إلى جنوبه 12-15 ميلًا. بطبيعة الحال لجأ الصيادون، في غالبيتهم، إلى المحور الأوسع، ما أدى إلى تكدس عدد كبير من الصيادين في المنطقة الواحد، في ظل زيادة عدد العاملين في هذه المهنة.

ويؤكد بكر أن سلطات الاحتلال تهدف من خلال انتهاج التقسيم هذا إلى إبعاد الصيادين عن المناطق الغنية بالثروة السمكية، إذ أن المناطق الشمالية تزخر بالأسماك على خلاف المناطق الجنوبية المكتظة بالصخور. وفي مواسم الصيد الوافرة، يعمد الاحتلال بشكل مباشر إلى إغلاق البحر.

عقاب جماعيّ

تنتهج السلطات الإسرائيلية سياسة عقاب جماعي ضد سكان قطاع غزة، إذ تمنع إدخال مواد عديدة بحجة إمكانية الاستخدام المزدوج لتلك المواد في صناعة معدات قتالية أيضًا. وقد عرقلت هذه السياسة قدرة القطاعات الإنتاجية، ومنها قطاع الصيد، على الاستمرارية. فمنذ عام 2006 تمنع "إسرائيل" أهالي القطاع من استيراد كافة مواد الصيد باستثناء الشباك التي يتم إدخالها إلى غزة خلال فترات متباعدة، ما تسبب بخسائر فادحة لأصحاب صناعة السفن.

اقرأ/ي أيضًا: الدلالة.. "مفتاح الأمان والعدل" في سوق السمك بغزة

كما يعاني الصيادون في غزة من تهالك مراكبهم، إذ أصبحت في جزء كبير منها قديمة يعود تاريخ تصنيع معظمها إلى عام 1995، ولم تخضع هذه المراكب للصيانة منذ عام 2012. في هذا السياق، يلفت بكر إلى أن الغزيين تمكنوا بين عامي 2012 و2013 من تهريب مواد ومعدات صيد من مصر عبر الأنفاق وبأسعار باهظة. تمكن بعض الصيادين حينها من إصلاح مراكبهم، وتوفرت لصُناع السفن المواد اللازمة لصنع عددٍ ضئيلٍ من المراكب والقوارب الصغيرة.

ويشير إلى أن الدور الحكومي في دعم قطاع الصيد يكاد يكون معدومًا، إذ تتذرع الجهات الرسمية بأنها محاصرة وغير قادرة على تقديم العون والدعم لقطاع الصيد، وينحصر عملها في تنظيم عملية تصدير الأسماك، وإحصاء أعدادها فقط وأعداد الصيادين.

جائحة كورونا تعمّق الأزمة

تضاعفت خلال العامين الماضيين معاناة الصيادين في غزة مع انتشار جائحة كورونا. تحدث بكر عن فترات إغلاق السلطات المحلية في غزة للشواطئ والبحر والأسواق الشعبية، حيث ارتفعت في حينه تكلفة العمل بسبب اضطرار الصيادين لشراء المستلزمات الوقائية التي منعت الشرطة البحرية العمل من دونها. ومع توقف تصدير الأسماك، انخفضت أسعارها في السوق المحلي.

يؤكد جهاد صلاح انخفاض أسعار الأسماك بنسبة 50 في المئة، خاصةً في ظل إغلاق الأسواق وضعف القدرة الشرائية لدى المواطن في غزة. في المقابل فإن المفاجأة الجيّدة تمثلت بأن عام 2020 كان أفضل الأعوام بالنسبة لوفرة الأسماك منذ عدة عقود على خلاف ما هو متوقع. ذكّر صلاح أنه مع ارتفاع نسب البطالة في القطاع، تزيد "أعداد الراغبين في الحصول على رخصة صيد إذ يجد الشباب في البحر فرص للحصول على عمل وإن كان بأجر زهيد".


اقرأ/ي أيضًا:

الصيادون في غزة.. عُزلة وحربٌ في الظلمات

صيد السمك بالصنّارة في غزة.. هل معك تصريح؟

اعتقال صيادي غزة.. هذا ما يحدث بين الملاحقة بالرصاص والتحقيق


* أُنجزت هذه المادة في إطار برنامج تدريب يضم صحافيين من سوريا واليمن وفلسطين/غزة والسودان، من تنظيم "أوان" وبدعم من منظمة "دعم الإعلام الدولي".