17-أبريل-2018

صورة توضيحية: حاجز الجلمة أحد عقبات كثيرة أمام عائلات الأسرى خلال الزيارات - تصوير سيف دحلان (Getty)

داخل "مركز أحداث طمرة" في الداخل المحتل عام 1948، نهض مبتسمًا، فأمه قادمةٌ نحوه الآن، نادته وصوت الشوق في قلبها يرتعد من بعد أكثر من مترين: "شادي كيفك حبيبي يا ماما؟". جذبته إلى قلبها ثم زرعت فوق جبينه قبلة، كانت تمسح على رأسه الحليق كأنما للتوِّ وُلِد، وبكت دون أن تلاحظ أنه في هذه المرة كبُر.

عضّ شفته السفلى، ورفع حاجبيه، ثم انسحب بهدوءٍ من بين ذراعيها وهو يحاول أن يحافظ على حدود ابتسامته. جال بناظريه سريعًا في الغرفة المكتظة بالأطفال المعتقلين - في مثل سنه - وأهاليهم، وهمس في أذن أمه :"يما، أطلب منك طلب؟ حبيبتي هون ما تناديني ماما، قولي يما، وما تحضنيني كتير، أنا بطلت صغير".

شادي فراح الذي طلب في أول زيارة من أمه "شيبس"، وقف بعد سنتين ونصف أمام القاضي وقال له بالعبرية: "لن أسمح بأن أظلم مرة ثانية"

شادي فرّاح ابن الصف السابع، الذي اعتقل وهو عائدٌ من مدرسته في كفر عقب شمال القدس المحتلة بتهمة حيازة سكين،  كان عمره (12 عامًا) عندما سأل أمه في أول زيارة لها: "ماما جبتيلي معك شيبس ولا لا؟". ليكبر اليوم - بعد سنتين ونصف من عمر الأسر- إلى الحدّ الذي يهبه الجرأة كي يقف أمام القاضي الإسرائيلي المُسن - خلال محاكمته - ويجيبه بعبريةٍ حازمة بعد أن طلب من المترجمة أن تصمت: "أنا قادر على الدفاع عن نفسي جيدًا، وبالعبرية أيضًا. لن أسمح بأن أظلم مرة ثانية اليوم، ضاع من عمري عامين ونصف هنا، كنت طفلاً، وأصدرتم بحقي حكمًا بالسجن عامين كاملين بعد أن قضيت عامًا كاملاً كمعتقل إداري. هذا لا يحدث في أي مكان في العالم".

إلى اليمين، شادي فراح قبل الاعتقال، وإلى اليسار شادي في المحكمة

في المعتقل الذي يشرعن احتجاز أطفال القدس ممن هم دون الـ(14 عامًا) تحت مسمى "مركز رعاية الأطفال الأحداث"، أيقنت فريهان فرّاح بأن ابنها شادي الذي يفترض أن تنتهي محكوميته بعد 6 أشهر؛ لن يعود إلى حضنها شادي الصغير الذي يسوق عليها دلاله إذا شعر برأسه يؤلمه، ولن يرتدي قميصه الأسود الذي يحب مجددًا، وتخبئه أمه في خزانتها كي تفاجئه به عندما يعود. أيقنت بأنه كبُر إلى درجة أصبح يخجل من أن يناديها "ماما".

اقرأ/ي أيضًا: أطفال فلسطين في سجون الاحتلال.. لقاء مبكر بالجلاد

شادي ابن الـ (14 عامًا) أصبح رجلاً، ورسالته لها في يوم ميلادها قبل عامٍ واحدٍ تشهد: "ارفعي رأسك كشجرة النخيل ولا تقلقلي علي، فهذا اختبار من عند الله، أنا اليوم أقف أمام مرآتي لأقتلع سيئاتي وأجد إيجابياتي، كنت شقيًا لكنني اليوم أعرف أن مصيري بين يدي وأنا اخترت أن أنجح".

رسالة الأسير شادي فراح إلى أمه

"فجأة.. هكذا كبُر طفلي فجأة" تعلّق أمه فريهان، وتتساءل: "كيف لا يشيخ قلبه وهو الذي عرف عن الحياة أول ما عرف أنها تعجُّ بالظلم والأذى؟ كيف لا يكبر وهو الذي احتمل منذ لحظة اعتقاله الأولى ما لا يطيقه رجل؟".

منذ تاريخ الثلاثين من كانون الأول/ديسمبر لعام 2015، خضع شادي –حسب أمه- للتحقيق ساعات طويلة، وجُرّد من ملابسه وسُكبت فوق جسده الماء الباردة ليعترف بنيَّته تنفيذ عملية الطعن. تعرض للضرب والإهانة والشتم خلال نقله إلى مركز الاحتجاز، "لدرجة أن أحد محاميه أخبرني بعد أن تحدث إليه قبل عدة أيام بأنه شعر بنفسه يحدث رجلاً في الخامسة والثلاثين لا طفلاً في الرابعة عشرة" قالت فريهان.

جرح في القلب

منذر البكري (43 عامًا) من الخليل، لا يصدق حتى هذه اللحظة، أن طفلته لمى التي أهداها في آخر عيدٍ قبل  الثالث عشر من كانون الأول/ديسمبر للعام 2015 دميةً عروس تغني وتتكلم، هي ذاتها الفتاة التي دخلت إلى قاعة المحكمة بعد ذلك التاريخ بعشرة أيام، تدفعها مجنّداتٌ على كرسيٍ متحرك. هي ذاتها الطفلة ابنة الـ14 ربيعًا، التي كانت تعض على شفتيها ألماً خلال الجلسة، وتبتسم في ذات الوقت لوجه أبيها كأنما تتوسل إليه أن لا يقلق.

أصيبت لمى بثلاث رصاصاتٍ في ساقها بينما كانت عائدة من مدرستها إلى منزلها قرب مستوطنة "كريات أربع" المقامة شرقي الخليل، وتُركت تنزف وقتًا طويلاً قبل نقلها عبر سيارات الإسعاف الإسرائيلية إلى مستشفيات الاحتلال، ومن ثم إلى سجن "هشارون" قبل أن تحصل على العلاج الذي تحتاج.

لمى البكري (14 عامًا) قالت لأبيها الذي بكى في قاعة المحكمة وهي تضحك: "أنا بخير يا بابا"، وحذرته في الزيارة بأنه إن بكى ستعود للزنزانة

"سألتُ نفسي يوم المحاكمة: أيعقل أن تكون هذه لمى؟ بكيتُ كثيرًا والله، حتى أنني لم أكترث للموجودين حولي، أما هي، فأدارت وجهها عني لبضع ثوانٍ، وأعادته ناحيتي وقد ابتلعت غصة، ثم ضحكت، وتمتمت بلغة الشفاه (أنا بخير يا بابا)" يقول البكري.

اقرأ/ي أيضًا: طحين الأسرى وابتساماتهم

بعد أن حكم على لمى بالسجن 39 شهرًا وفق التهمة الجاهزة "محاولة طعن مستوطن"، كانت الزيارة الأولى لوالدها مفاجئة له هو، حين دخلت الجانب الآخر من حاجز الزجاج الذي يفصل بين الأسرى وذويهم ومشت بضع خطواتٍ تعرج، فلما رأته من بعيدٍ رفعت رأسها وابتسمت، ثم تعالت على كل ما فيها من وجع، وحاولت أن تمشي بشكلٍ شبه مستقيم، حتى كادت تقع قرب سماعة الهاتف.

الأسيرة لمى البكري

والدها صاحب القلب الرقيق ذرف دمعةً فإذا بها تشير له من الجهة الثانية بيديها ملوحةً تضحك بما يعني: "لااا، سأغادر الآن إن لم تكف عن ذلك.. لا تبكي". رفعت السماعة وبدأت تحدثه بمرحٍ كيف أنها تعرفت على صديقات جديدات هنا، وأخبرته: "قررتُ أن أدرس جيدًا، أريد أن أدرس التمريض في الجامعة بعد أن أخرج".

يقول البكري: "للعام الثالث على التوالي لمى ليست معنا، عاشت أعوام مراهقتها بعيدةً عن أمها حيث ملاذ الفتيات في هذا السن، لمى في كل مرةٍ أزورها فيها أشعر أنني غبت عنها عامين وليس شهرين، وعيها يتضخّم وعقلها صار أنضج بكثير".

ويضيف، "لما يزورها معي إخوتها الخمسة، توصيهم بي وبأمها خيرًا، وتبدأ بإرسال القبلات لهم من خلف الزجاج واحدًا واحدًا، تجيب إذا سألتُها عن حال ساقها: الحمد لله، أنا عال العال، لا تخاف علي وطمّن أمي. لكن أعرف فيما بعد من الإعلام أن لمى فقدت الشعور ببطن ساقها، وتحتاج إلى عدة عمليات جراحية عاجلة".

أيهم وعمر معًا من جديد

الأسير أيهم صبّاح أيضًا كبُر، صار عمره اليوم (16 عامًا) بعرف القانون، لكن والده باسم يراه حسب عرف الرجولة في سن الخامسة والعشرين، فهو لم يعد الطفل الذي يحتاج لمن يساعده في عمل أي شيء الآن؟ تخيّلوا لقد أصبح قادرًا على الطبخ وحده حتى، وزملاء الزنزانة يلقبونة بـ"الفنان الشيف".

اعتقل أيهم عندما كان عمره (14 عامًا) بتاريخ 18 شباط/فبراير لعام 2016، برفقة صاحبه - بنفس العمر - عمر ريماوي، بعد تنفيذهما عملية طعن في متجر "رامي ليفي" التجاري في تجمع مستوطنات "بنيامين" القريبة من مدينة رام الله.

أيهم صبّاح اعتُقل قبل سنتين بعمر (14 عامًا)، هو الآن يجيد الطبخ، وينجح دائمًا في إنهاء الخصومات بين الأسرى

أصيب أيهم آنذاك برصاصةٍ قطعت أحد شرايين كتفه، ومنذ لحظة نقلة إلى المستشفى لتلقي العلاج، وحتى أول مرة رأى فيها والده في جلسة المحاكمة الأولى مرّ شهر ونصف. يقول أبوه: "حسنًا، بإمكانكم أن تتخيلوا أبًا لا يستطيع حتى معانقة ولده المصاب! كان مشهدًا قاسيًا علي؛ وعلى أمه التي حضرت معي الجلسة. لكنه سرعان ما ابتسم لنا، وهز رأسه بمعنى أنا منيح".

اقرأ/ي أيضًا: لماذا يتحدث المجرمون مع أطفالنا؟

في ذلك اليوم - يقول والده باسم - أنه كتم صرخةً كادت تدوّي في أرجاء المحكمة، أدار وجهه نحو الخلف وكان كل همه ألا تراه أمه، ثم عاد يرسم ابتسامة اصطنعها على وجهه "كي يُطمئننا فقط".

في زياراته لسجن "عوفر" حيث يقبع أيهم، وعبر سماعةٍ مقيتة، يسمع كل مرةٍ والده منه حكايات السجن، وقصص أصدقائه، وتوسلاته له بأن لا يترك أي نقودٍ في الكنتين (مقصف الأسرى) لأنه لا يحتاج شيئًا هنا، فيرد عليه: "يعني يابا الولد لو اشتهى كيس شيبس، خليهم معك بيلزموك"، ويجيب أيهم بقوة: "مين ولد، ومين شيبس؟" ثم يضحك محاولاً أن يذكر والده بأنه "كبُر"، وقد يتطلب الأمر منه أحيانًا أن يقسم بذلك.

يتهافت زملاء أيهم الأسرى على سحب سماعته، كلهم يخبرونه عن تعامل أيهم المميز مع الجميع، وقدرته على نسج العلاقات هناك، وحتى الإصلاح بين المتخاصمين، ويذكرون طعامه الذي يصنعه لهم كثيرًا.

"حتى أخرج من هناك، فخورًا بأن أيهم ابني. أخرج وأنا الذي ذهبت لأشحنه ببعض الدعم وقد سمعت منه وضحكتُ أكثر مما تكلمت" يقول الأب الذي عرف مؤخرًا أن أيهم قرر تقديم امتحانات الثانوية العامة العام المقبل، والاستعداد كي يصبح مهندسًا ينفع بلاده فيما بعد.

إلى اليمين، عمر الريماوي، وإلى اليسار أيهم صباح

وعلى سيرة عمر الريماوي صديق أيهم، وعلى قيد نفس التهمة، فهو الآن معه في نفس المعتقل "عوفر"، ولكن بإصابة أصعب، كما تقول أمه لانا الريماوي (44 عامًا)، التي بيّنت أن طفلها مصاب بثلاث رصاصات، واحدة في الرئة، وأخرى في الكوع، وثالثة في العمود الفقري.

أول مرة قابلته فيها أمه منذ اعتقاله في شباط/2016؛ كانت بعد ثلاثة أيام من إصابته، في مستشفى "هداسا"، كان ابن (14 عامًا)، ينظر إليها ويبكي فقط. في سجن "مجدو" كانت المرة الثانية، بعد 6 أشهر تقريبًا، عانى خلالها وحده ويلات الوجع، وعانت هي وحدها أيضًا ويلات القلق والشوق والشعور بالعجز. عندما زارته تخيلت أنها ستراه على كرسي متحرك - فحسب قول الأطباء - يستحيل عليه المشي قبل عامين، لكنها فوجئت به في غرفة الزيارة يأتيها مشيًا من خلف حاجز الزجاج، ويبتسم.

"لم أصدق نفسي حين حدثني عبر السماعة، صوت رجل"، تعلق أمه. وتزيد، "ضحك لما سمع صوتي كثيرًا، وبدأ يحدثني عن المكان الذي يقبع فيه، وأصدقاؤه هناك، كيف يقضي وقته بالقراءة، والدراسة لتعويض المنهاج الذي فاته منذ عامين".

تخبره في كل مرة أنها تشتاق إلى جلسة الجمعة –بعد الغداء- معه، حين كان الجميع ينتشرون في البيت، إلا هما يجلسان ويضحكان حتى العصر، فيجيبها "راجع نقعدها يا إمي خاوة". و"خاوة" باللهجة الفلسطينية تعني "عنوةً، أو رغمًا عن أنف من لا يريد ذلك".

ويقبع في سجون الاحتلال 350 طفلاً وطفلة، وفق إحصائية أعلنها نادي الأسير، في يوم الأسير الفلسطيني الذي يوافق الـ17 من نيسان/إبريل، من بينهم شادي ولمى وأيهم وعمر، وكلهم عاشوا مرحلة "اقتصاص العمر" بأبشع صورةٍ لها/ حين  كبرت أرواحهم في العتمة فجأة دون أن يراها أحد.


اقرأ/ي أيضًا:

"عهد" أيقونة جيل فلسطيني مقاوم

"صيد الأشباح" أفضل وثائقي في برلين السينمائي

عقارات أسرى وذهب زوجاتهم للبيع لسداد الغرامات