11-يونيو-2018

تظاهرة في رام الله، تطالب برفع عقوبات السلطة عن غزة. (عصام الريماوي/ Getty)

"ثم سار هولاكو عن بغداد بعد انقضاء الشتاء إلى الشام، وجرّد جيشًا إلى مَيَّافارقين صحبة صرطق نوين وقطعان نوين، وكان بها الملك الكامل ناصر الدين محمد بن الملك المظفر شهاب الدين غازي..، فحاصروها ونصبوا عليها المنجنيقات من كل ناحيةٍ، فقاتل أهلها وامتنعوا عن تسليمها، وصبّروا أنفسه معلى الحصار الشديد والجوع المبيد، حتى أكلوا الميتات والدواب والسنانير والكلاب، وطال عليهم الأمد، وقلّت منهم القوة والجَلَدْ، فاستولى التتار على المدينة وفتحوها، وكانت مدّة مقامهم على حصارها سنتين، فقتلوا وسبوا من أهلها خلقًا كثيرًا، وفنى الجُند من كثرة القتال، واشتداد النزال..". من كتاب عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان.

تلكم حكاية بلدة صغيرة من بلدات الإمارات الأيوبيّة العباسيّة المتصارعة فيما بينها في زمانٍ قديمٍ هو عام 656 هجريّة، في بضعِ سطورٍ مقتبسةٍ يمكن اقتباس العديد من السطور القليلة مثلها، أكثرُ أو أقلُ دقّة في الوصف وإيجازًا في الإعلامْ.

ميَّافارقين، حاصرها المغول بعد أربعة أشهرٍ من سقوط بغداد وتوغّلهم في سفكِ دم أهلها حتى علمَ الأمير الأيوبيُّ "الكامل ناصر الدين محمّد"، أنّ المغول لن يقبلوا صلحًا أو استسلامًا ولن يمنحوا المدينة أمانًا لا له ولا لأهلها. كان ذلك زمان الإمارات الصغيرة، الأمير الناصر في دمشق، والأميرُ المغيث في الكرك، وبقايا الدولة الأيوبيّة في مصر التي كانت تصعد بها الدولة المملوكيّة التي سيضع أسسها الثابتة بعد سنواتٍ الظاهر بيبرس.

    ستبلغ غزة مبلغها من الإرهاق والتعب، لا تتعب ولا تكلّ ولا تملّ من حصارها. إنها أسوأ مراحل القضية على الإطلاق؛ يعاقب الفلسطيني الفلسطيني، ويحاصره   

بصورةٍ شبه كاملة، كان الناصر في دمشق يتودد إلى المغول طوال الشهور والسنوات التي سبقت سقوط دمشق، يبعثُ الهدايا، يتودُّد بالسفاراتِ والمال وغيرها، وكان المغيثُ شبه تابعٍ كاملٍ وخاضعٍ لسلطة هولاكو ويمدُّ جيشه بكلّ ما يحتاجُ من مؤنٍ عسكريّة وغذائيّة يطلبونها، حتى أثقل على أهل البلادِ من رعيّته لمنحهِ زرعَ البلاد إلى جيش هولاكو وإفراغهِ المؤن من البلاد إلّا من قصره. امتنع أحدٌ عن الدفاع عن أحد في ذلك الزمان، والجميعُ خضَعوا بطرقٍ صريحة وغير صريحة لهولاكو، يُهرعون إليه طالبين السّلام، ويُهرعون من مدُنهم إذا ما صار عند أبوابها خائفين على نسائهم وأولادهم ونفوسهم وما يستطيعون حمله من الأموال. وكانت ميَّافارقين، تكادُ لا تلحظ على الخريطة لشدّة صغر حجمها، والآلافُ الذين يسكنونها والمؤونة الضئيلة التي تملكها، وحيدة تغلقُ أبوابها وحصنها في وجه جيشِ ابن هُولاكو الذي دام حصاره للمدينة ما دون سنتين بشهورٍ قليلة. وكان ذلك زمانٌ تصعبُ الأشياء والطُّرقُ والوسائلُ فيه مقارنة بزماننا هذا. إلّا أنّها صمدت ذلك الوقت حتى ما عادت قادرة على الصمودِ أكثر، فدخلها المغول، وأوغَلوا في الطعن وسفكِ الدماء والتّدمير حتى أسَروا الملك الكامل ناصر الدين محمّد وأخذوه إلى هولاكو قاتله.

إذن تلكم حكاية بلدة صغيرة من بلدات الإمارات الأيوبيّة العباسيّة المتصارعة فيما بينها في زمانٍ قديم هو عام 656 هجريّة، أي قبل 783 عامًا من الآن، تُشابه حكاية بلدة كبيرة بحجمها وسكّانها مقارنة بمَيّافارقين، هي غزة المحاصرة منذ ما يزيد على عشر سنوات، ولا تزالُ ممالك وإمارات ذلك الزمان، هي ممالك وإمارات هذا الزّمان، لا شيء تغيَّر.

"هتفَ مئات المتظاهرين رفضًا للعقوبات التي تفرضها السلطة الفلسطينيّة على قطاع غزّة، خلال مظاهرة في شوارع المدينة مساء الأحد"، يرد خبرٌ كهذا، يشابه أخبارًا من الأمس مع فارقِ الأسماء والطُّرق والوسائل، فمَيَّافارقين كانت تعاقبُ لذاتِ الأسبابِ التي تعاقبُها غزّة اليوم، ولذات الأسباب التي تُحاصر لأجلِها غزّة اليوم، بكلمتين: عدم الخضوع. الخُضوع لسلطة غاشمة، لقوّة احتِلال أجنبيّة، لاستعمار، لحقِّ القوّة المتمادية.. جميعها كلمات تصفُ طبيعة الأشياء الثابتة في التاريخ الحديث والقديم، جميعها كلمات تصفُ بؤس هذا التاريخ الإنساني الذي يعيد نفسه بصورة مثيرة للاشمئزاز والتعجُّب.

وكما كانت ميَّفارقين بلدة صغيرة في وسطٍ إسلاميٍ عربي متناحر متصارع مع بعضه البعض، بلا حول ولا قوّة أمام "حقّ القوة المتمادية"، وفوق ذلك، متودد مترهِبٌ من عدوِّه، فكذلك واقع اليوم، وسطٌ عربي متناحر متصارع مع بعضه البعض، بلا حول ولا قوّة أمام "حقّ القوة المتمادية"، وفوق ذلك، متودد مترهّبٌ من عدوّه، إلّا أنّه في واقع هذا الزمان، متجانس أيضًا منسجمٌ مع هذا العدوّ، لا يرفض فقط تقديم العون بل يسهِمُ من جانبهِ بفرض العقوبة والحصار وتشديده على الفلسطينيين في قطاع غزّة.

مع مرور السنوات، اعتدنا "ظلم أخوة يوسف، ليوسف"، إلّا أنّ خبرًا كهذا الذي أوردته قبل بضعة أسطر، ليس كفيلًا فحسب بالتوقّف طويلًا أمامه، بل هو إيجاز بليغٌ في معنى استحالة الحلم الفلسطينيّ في العودة إلى الأرض المحتلة، استحالة هذا الحلم إلى كابوس، وإلى واقع كابوسيٍّ لا يُطاق.

   ليس غريبًا أن تحكِم السلطة في رام الله قبضتها حول عنق غزة المتمرّدة على سلطتها، فمن طبائع السُّلطة، أيّ سلطة، أن تحكم قبضتها على السُّلطة نفسها ومن يُنازعها عليها   

عمّا قريب، ستبلغُ غزّة مبلغها من الإرهاق والتّعب، وربّما تفوقُ ميَّافارقين ومثيلاتها في التاريخ ولا تتعب ولا تكلُّ ولا تملُّ من حصارها، ومع بلوغ غزّة ذلك المبلغ، تبلغ هذه القضيّة أسوأ مراحلها وأقبحها على الإطلاق، أن يعاقب الفلسطينيُّ الفلسطينيّ، أن يُحاصر الفلسطينيُّ الفلسطينيّ جنباً بجنبٍ مع الصهيونيّ.

أمّا أخيرًا، فالبديهيّ أن السلطة الفلسطينيّة لم تكن في يوم من الأيّام إلّا امتدادًا شاذًا وغير طبيعيٍّ لكيانٍ صهيونيٍ شاذ وغير طبيعيّ، وليس غريبًا أن تحكِمَ النخبة المتحكِّمة في السلطة في رام الله قبضتها حول عنق غزّة المتمرِّدَة على سلطتها، فمن طبائع السُّلطة، أيّ سلطة، أن تحكم قبضتها على السُّلطة نفسها ومن يُنازعها عليها تنزعهُ حتى لا تبقيه، ومن طبيعة البُنى السلطوية الممتدة من البنى الاستعماريّة أن تتحالف مع الأخيرة حتى تبقى، فهي ملفوظة من المستعمَرين إذا ما استطاعوا إليها سبيلا.


اقرأ/ي أيضًا:

من رام الله: "تجويعك غزة.. باطل".. صور وفيديو

امرأة من النقب: عن سلوى التي احترق عالمها

سيّدي الرئيس، ما رأيك بفنجان قهوة؟