17-مايو-2017

صورة تعبيريّة/ getty

تستند سلسلة المقالات هذه على المعطيات التي يوفّرها استطلاع الرأي "المؤشّر العربيّ" الذي أجراه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدءًا من العام 2012 وانتهاءً بالعام 2016. وتحاول هذه السلسلة الإشارة إلى تغييرات هامّة تعصف بالرأي العام الفلسطيني والتي يمكن اعتبارها مؤشرًّا أساسيًا لتحوّلات مهمّة تجري على المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزّة منذ عام 2012.

ثمّة تغييرات تعصف بالرأي العام الفلسطيني، يمكن اعتبارها مؤشرًّا أساسيًا لتحوّلات مهمّة تجري على المجتمع الفلسطيني منذ عام 2012

ويلقي الجزء الأول من هذه السلسة الضوء على مظاهر الانقسام بين الضفة الغربية وقطاع غزة في الرأي العام الفلسطيني من جهة، وعن شرعية ومشروعية المؤسسة السياسية الفلسطينية من خلالِ إلقاء الضوء على رأي المُستطلعين بها عام 2016، من جهةٍ أخرى.

قلّة من كانوا يتوقعون أنَّ الانقسام الجيو- سياسيّ الفلسطينيّ بين الضفة الغربية وقطاع غزّة والذي بدأ في تمّوز/ يوليو 2007، وبدا حينها أنّه ذا طابعٍ مؤقت، سوف يصبح بعد عدة سنوات ذا طبيعة دائمة. لقد تبلورت في السنوات الماضية وزادت وتيرتها منذ حرب غزّة عام 2008/2009، بنيةٌ اقتصادية مستجدة في قطاع غزة، ساهم ببروزها جملة من العوامل من بينها: سياسات الحصار الإسرائيلي، وبروز اقتصاد الأنفاق (قبل بداية أفوله مع صعود الرئيس المصريّ عبد الفتاح السيسي)، والسياسات التمييزية للسلطة الوطنية الفلسطينية، وتدّخلات دول عربية، وأخيرًا مع التغييرات الهيكلية الشاملة التي قادتها حركة حماس في بنية الحكومة الفلسطينية في غزة والتي جعلت من انشطار السلطة إلى سلطتين حقيقةً واقعة. غير أنّ ما كنا لا نتوقعه آنذاك هو أن يتغلغل هذا الانقسام ليضرب بجذوره الشعب الفلسطيني نفسه ويفرزه على أسسٍ مناطقية، حيث بدأنا نشهد بدايات تبلور مزاجين شعبيين مختلفين كلّ منهما له أولوياته وكل غارق بمحليّته، وهو ما ينذر ببروز "مسألة جنوبيّة" تزيد من تعقيدات المشروع الوطني الفلسطيني السياسيّ القائم.

اتساع الفجوة بين الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة

المؤشر الأوّل الذي يمكن الانتباه له هو ما يخصّ أولويّات الرأي العام في الضفة ونظيره في غزة، ففي حين يعتبر ما يزيد عن (46%) من الفلسطينيين في الضفة الغربية أن مشكلتهم الأولى هي الاحتلال الإسرائيلي وسياساته، يتبعها مباشرة المشاكل الاقتصادية من فقر وبطالة وغلاء الأسعار وغيرها (29%)، فإنَّ أكثر المشاكل إلحاحًا لدى الرأي العام الغزّي تتوزع على إسرائيل (28.8%)، وغياب الاستقرار السياسي (22.6%)، وأخيرًا المشكلات الاقتصادية (26.5%).

نلاحظ من هذه المعطيات أنَّ غالبية الفلسطينيين في الضفّة والقطاع لا زالوا يعرّفون مشكلتهم الأكثر أهميّة وإلحاحًا بأنها سياسية، وهو ما يشكك بمبالغة العديد من المحللين والمراقبين بالنجاح الإسرائيليّ بصرفِ النّاس عن قضاياهم السياسية من خلال إشغالهم بلقمة عيشهم. بل إنَّ الأرقام تدلّ بوضوح بأنَّ اهتمام الناس وتشديدهم على أوضاعهم الاقتصادية لا تتناقض من ناحية المبدأ مع ايلائهم الاهتمام بقضاياهم السياسية. وينطبق ذلك أيضًا على مواطني قطاع غزة الذين تشير آراؤهم إلى أولويّة السياسيّ على الاجتماعيّ وذلك على الرغم من الظروف المعيشيّة الصعبة التي يعانونها بسبب سياسات الحصار منذ عشر سنوات.

ما هو مقلق بالفعل هو الفجوة الواسعة نسبيًا ما بين الرأي العام الضفّاويّ والغزاويّ ما يتعلّق بتحديد أولوياتهم السياسية

لكن ما هو مقلق بالفعل هو الفجوة الواسعة نسبيًا ما بين الرأي العام الضفّاويّ والغزاويّ فيما يتعلّق بتحديد أولوياتهم السياسية. ففي حين اعتبر (46%) من المستطلعين في الضفة الغربية بأنَّ مشكلتهم الأولى هي إسرائيل فإنّ هذه النسبة في غزّة قد تراجعت إلى (28.8%) لتزاحمها بذلك نسبة (22.6%) الذين يرون أن "غياب الاستقرار السياسي" هو مشكلتهم الأهم. فما الذي يعنيه ذلك؟ صحيح أنَّ هذا المؤشّر قد يكون طبيعيًا في ظلّ حساسيّة الانقسام الفلسطيني بالنسبة لمواطني قطاع غزة، ولكنّه يشير برأينا أيضًا إلى ظاهرة لا يمكن الاستهانة بها وهي تبلور أولويّات سياسيّة في قطاع غزّة مختلفة عن تلك التي في الضفّة الغربيّة.

ليس من الصعب بالطبع الاستنتاج بأن الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة منذ ما يقارب العشر سنوات وآثاره الاجتماعية على مختلف الأصعدة، وانسداد الآفاق بخصوص أي مبادرة سياسية للمصالحة بين حركتيّ فتح وحماس وآثارها الاقتصادية والاجتماعية على قطاعات شعبية واسعة هناك، جعل من مسألة الاستقرار السياسي أمرًا حاسمًا لدى الرأي العام في قطاع غزّة. ولكن من المهم أيضًا لفت الانتباه إلى أن انقسام السُلطة إلى سلطتين كُلّ منهما له ولايته على بقعةٍ جغرافية محددة قد خلق أيضًا مزاجين سياسيين مختلفين، كلاهما غارق في خصوصيته المحليّة.

وعلينا التذكر دائمًا أنّ الزمن كفيلٌ بتحويل العديد من التوجّهات السياسية التي تأخذ في بدايتها طابعًا محليًّا ومؤقتًا إلى نزعات ذات طبيعة دائمة ومستقلة، هذا درس من دروس التاريخ والشواهد حولنا كثيرة.

منذ عشر سنوات بررت حركة حماس استفرادها بحكم قطاع غزة بانقلاب السلطة الفلسطينية بقيادة حركة فتح على الانتخابات التشريعية في كانون الثاني/يناير 2006، وعلى الرغم من أن العديدين اعتبروا انتصار كتائب القسام على أجهزة الأمن الفلسطينية ومسّلحي حركة فتح آنذاك بمثابة الانقلاب المضاد الذي كان من الممكن تفهّم سياقه، إلا أنَّه ومنذ ذلك الوقت، أي منذ تموز 2007، جرت مياه كثيرة وُولد جيلٌ فلسطينيّ غزيّ وكَبُرَ آخر لا يعرف سوى حكومة حماس سلطةً عليه، ويتخيّل حياة أفضل في الضفة الغربية، كما أنّه يرى نفسه أسير قرارات المقاومة التي لا تستشيره ولا تراعي احتياجاته حين تقرر أن تحارب إسرائيل. كما يشعر هذا الجيل أنَّ استلام السلطة الفلسطينية بقيادة حركة فتح قطاع غزّة بما فيها المعابر حلًّا ممكنًا ومعقولًا، وإن كان مؤقتًا، لمعاناته المستمرة لسنواتٍ عديدة.

باختصار، خلال السنوات العشر الأخيرة، فقدت مبررات عام 2006 مبررها، وتغيرت حماس بقواعدها الاجتماعية، وتغيرت غزة بناسها ومزاجها السياسيّ تمامًا مثلما تغيّرت الضفة الغربية التي ترعرع فيها جيل جديد على الأقلّ يشكك سياسيًا بمشروع السلطة الفلسطينية السياسيّ وينظر بعين الفضول إلى تجربة حماس في غزة.

من الواضح إذًا أن ترسّخ الانقسام السياسيّ الفلسطينيّ لا يعني ترسّخًا لانقسام السلطة الفلسطينية بين سلطّة ضفّاويّة- فتحاويّة وسلطة أخرى غزاويّة- حمساوية فحسب، بل قد يعني أيضًا انقسامًا اجتماعيًا وثقافيًا شعبيًا مردّه اختلاف الظروف السياسية والأولويّات والأهداف بين الشعب الواحد الذي، وللمفارقة، لم يتهدد تماسكه منذ عقودٍ طويلة وخاض انتفاضتين متتاليتين موحّدًا.

وللتدليل أيضًا على عمق هذا الانقسام ربما علينا تمعن الافتراق المتطرف في رؤية الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة لـ"الربيع العربيّ". فبينما اعتبر حوالي 25% فقط من المستطلعين من الضفّة الغربية الثورات العربيّة التي جرت عام 2011 بأنّها إيجابيّة أو إيجابيّة جدًا، فإنَّ نسبة من اعتبروها كذلك في قطاع غزّة وصلت إلى ما يزيد عن 52% من المستطلعين، وهي وجهة نظر واسعة تعكس فجوة عميقة جدًا واختلاف لا يمكن تجاهله إزاء القضايا الإقليميّة.

باختصار وبوضوح، لقد آن الأوان لأخذ احتمالية انقسام الشعب الواحد إلى شعبين على محمل الجدّ، لعلَّ ذلك يقرع ناقوس الخطر أمام السياسيين الفلسطينيين لاتخاذ ما يلزم اتخاذه قبل فوات الأوان.

المؤشر الثاني الذي قد يكون هامًّا في فهم الانقسام في الرأي العام الفلسطيني هو وجهة النظر التي تبديها كلّ من الضفة الغربيّة وقطاع غزّة ازاء السلطة الفلسطينية أوّلًا، وإزاء أجهزتهما الحكومية المُدارة من قبل فصيلين مختلفين ثانيًا.

على الصعيد الأوّل تصل نسبة اللا-ثقة بالسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية إلى 42% (لا تثق إلى حدٍ ما+ لا تثق على الإطلاق)، فيما زادت النسبة ذاتها في قطاع غزة بنحو عشرين بالمئة (61%). وعلى الرغم من أنّ نسبة اللا-ثقة في الضفة الغربية تُعتبر مرتفعة نسبيًا، إلا أنَّ النسبة ذاتها في غزة تبدو صادمةً وتهدد شرعيّة ومشروعيّة السلطة الفلسطينية في معقلها السياسيّ الأساسيّ أولًا، وفي الإقليم الجنوبيّ من الدولة الفلسطينية العتيدة ثانيًا.

إنَّ شعور أغلبية المواطنين في إقليم محدد بانعدام الثقة إزاء المؤسسة السياسية التي من المفترض أن تمثلهم هو أمرٌ لا يمكن الاستخفاف به، ويهدد بعواقب وخيمة أهمّها فشل المشروع السياسيّ الذي تناضل من أجله منظمة التحرير، لكن هذه المرة ليس بسبب إسرائيل ولكن بسبب انهيار فكرة الشرعية ذاتها.

غير أن الموقف الشعبيّ الغزيّ الغاضب من السلطة الفلسطينية في رام الله لا يجب أن يُفرح حركة حماس التي تحكم القطاع مما يقارب العقد من الزمن، فمؤشرات الرأي العام تدلّ أيضًا إلى غضبٍ شعبيٍّ عارم من مواطني قطاع غزّة إزاء حكومتهم تفوق بشكلٍ لافت "الغضب الضفّاوي" على حكومتهم. فعلى سبيل المثال لا يثق ما يزيد عن (31%) من فلسطينيي الضفة الغربية بالشرطة في حين تصل نسبة عدم الثقة إلى حوالي نصف المستطلعين في قطاع غزة (49.6%).

وبشكلٍ عام يمكن القول بأنَّ نسبة التذمّر والضيق في وسط الرأي العام الغزّاوّي إزاء أغلب الخدمات العامّة والأداء الحكوميّ تتفوق بشكلٍ كبير على نظيره في الضفة الغربية بمختلف المجالات.

وكما يوضح الجدول رقم 2، فإنَّ الفرق في مؤشر عدم الثقة بين المزاجين الشعبيين في الضفة الغربية وقطاع غزّة يصل في أدنى مستوىً له إلى ما يزيد عن العشر نقاط، في حين يتفوق في أعلى مستوياته عن العشرين نقطة، وهو ما يعكس حجم الغضب الشعبي في قطاع غزة إزاء مختلف المؤسسات التي يتعامل معها، والتي ربما يعتبرها مسؤولةً عن جانبٍ كبير من معاناته وانسداد آفاقه.

إنَّ النتيجة الأساسية التي يمكن استنتاجها من الموقف الغزاويّ من حكومة غزّة أنَّ الغضب الشعبيّ من السلطة الفلسطينية برام الله لم يُترجم إلى إعجاب للحكومة الحمساويّة في غزّة، التي من الواضح أنَّ المواطن الغزي لا يراها بديلًا مقبولًا، ولا يبدو أنه يبدي تفهّمًا لها على الرغم من الصورة التي تقدمها عن نفسها بوصفها حكومة مقاومة ترزح تحت الحصار. فماذا يعني ذلك؟

يمكن أن يعني ذلك أنَّ التهميش الذي يُمارس على قطاع غزّة بالإضافة إلى الحصار وانعدام الآفاق السياسيّة والاجتماعيّة يدفع قطاعات شعبيّة كبيرة هناك أن تكون بلا عنوان سياسيّ يمثلها، فالمزاج الشعبيّ الغزي – على خلاف مواطني الضفة الغربيّة- يشعر بالاغتراب، ولا يميل حتى إلى محاولةِ تفهّم المؤسسات المحيطة به فضلًا عن المؤسسات التي من المفترض أن تمثله. إنّه إذًا الفراغ السياسيّ الذي قد يبشّر ببروز ما هو غير متوقّع، واللا-متوقّع هي حالة ليست غريبة في تاريخ الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة. ولكن قبل أن نعالج مسألة الفراغ السياسيّ علينا أن نفهم التحوّلات التي جرت على قواعد الفصائل الفلسطينية وهو ما سنتناوله في المقالة القادمة.


اقرأ/ي أيضًا:

المؤشر العربي.. العرب والقضية الفلسطينية

اتجاهات الرأي العام الفلسطيني في المؤشر العربي

تقدير موقف: قمّة ترامب وعباس.. تفاؤل يفتقر إلى الأسباب