11-نوفمبر-2016

ترامب، خلال زيارته البيت الأبيض

كان رجلًا  قليل البنية بشارب كثيف وغامق، يحشو قميصه في بنطاله الذي يرفعه إلى أقصى حد ممكن. يضع قبعة على رأسه وكأنه مُدرّب خيول في زمن قديم. توقف أمامي وصرخ: "أشكري المسيح" لم أفهم ما قاله في البداية فقد كنت واقفة في انتظار دوري لشراء البوظة، وكلُّ ما يشغل بالي هو أي نوع سأشتري. آخر ما كنت أفكر به هو أن يوبخني رجلٌ غريب على الملأ هكذا! لم أكن مستعدة لهذا الحوار ولم أتوقع هذه المباغتة.

هتلر، هو أوّل ما خطر ببالي، عندما أعُلن عن فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية.

"المعذرة!" قلت، وتدخلت صديقتي لتطلب منه التوقّف والابتعاد. ابتعد وهو ينظر إلينا ويردد بعنف " أشكروا المسيح.. أشكروا المسيح" هو لا يمت للمسيح بصلة تمامًا مثل الكثيرين في بلادنا الذين يوبخون الناس باسم الله والرسول، ذات النسخة ولكن شكله يشبه أحدًا أيضًا.. يشبه هتلر، نعم هتلر! هذا الهتلر قليل البنية هو أول من خطر على بالي عندما أعُلن عن فوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأمريكية.

أعيش في أمريكا منذ زمن ولم أتعرض لأي تمييز عنصري، لم يضايقني أحدٌ بالكلام أو بالنظرات، ربما كانت القصة القصيرة مع هتلر هذا هي أقسى ما تعرضت له. العنصرية تتباين بين ولاية وأخرى وكلما كانت الولاية متنوعة الأقليات والأعراق والأديان فإن التمييز والعنصرية يكون بنسبة أقل.

الناس هنا لطيفون حقًّا، وأكبر مشكلة واجهتني هي أنهم لا يجيدون نطق اسمي وأنهم يخلطون دائماً بين فلسطين وباكستان، عليك أن تشرح لهم من أين أنت، أحيانًا سيفهمون، وأحياناً أخرى سيختارون الاكتفاء بسؤالك عن طبيعة المناخ في بلدك وأنواع الطعام وهل الكل عيونهم واسعةُ ورموشهم طويلة هكذا؟ وهذا موجعُ قليلاً، أعني أن تظن أن قضيتك مهمة جدًا بحيث أن كل العالم يرى وجعك ويسمعه كل يوم في نشرة الأخبار، ولكنك تفاجأ بأنهم لا يعرفون عنك الكثير كما تتوقع. وأنّك ثانوي جدًا في هذا العالم الواسع ضئيل المعرفة بالآخرين، تمامًا مثلما قد تجهل أنت الكثير من أخبار دول العالم ومعاناة شعوبها من الحروب أو الجوع.

اقرأ/ي أيضًا: طهران وتل أبيب مطمئنتان لترامب.. أتيت يا ملاكي!

في اليوم التالي لإعلان نتائج الانتخابات كانت أمريكا حزينة، حزينة حقًا كأن أحدًا ما نسي أن يوقظ الناس الحقيقيين الذين كنت أراهم كل صباح! لم أرَ أمريكا هكذا من قبل، أنا مواطنة في هذه البلاد وأكثر ما يفعله مزدوجو الجنسية هو المقارنة بين البلاد التي يحملون وثائقها، صوت سيارة الإسعاف مثلاً كان أول مقارنة عقدتها بين هنا وهناك، كنت في البداية كلما سمعت سيارة إسعاف أتخيّل أنّ خبرًا عاجلًا سيُعلن حالًا، وأن الناس كلهم سيُوقفون سياراتهم، وأن المحال ستغلق أبوابها وأن وأن.. ولا "أن" واحدة حصلت.

كانوا مستعدّين للحديث عن نتائج الانتخابات مع أي غريب يقفون بجواره لشراء القهوة أو الخبز، كانوا يريدون أن يتأكدوا من أيِّ أحد أنّ ما حصل قد حصل فعلًا!

كان هذا الصوت مرتبطًا عندي بالشهداء والأخبار العاجلة، وإغلاق الطرق والحداد العام، ولكن في أمريكا لا شيء يستطيع أن يُخرج الحياة عن روتينها الطبيعي. إلّا في ذلك اليوم، كان الناس يقومون بذات الحركات ولكنهم هم لم يكونوا هم ذاتهم، كانوا مصدومين حقًا، ووجوههم مازالت محتفظة بآثار الدموع من ليلة الأمس، بدا أن الكثيرين لم يناموا جيدًا، وبدا الكثيرون مستعدون للحديث عن نتائج الانتخابات مع أي غريب يقفون بجواره في الطابور لشراء القهوة أو الخبز، وكأنهم كان يريدون أن يتأكدوا من أي أحد أن ما حصل قد حصل فعلًا!

- هذا يومُ غريب!

* نعم الجو باردٌ جدًا اليوم.

- ليس الجو ما أتحدث عنه، لا أستطيع أن أصدِّق أنه فاز!

لم أكن سعيدة بهذا الحزن العام، ولكنني لم أكن متضايقة من رؤية الوجوه المبتسمة باستمرار شاردة وغير قادرة على التركيز. لطالما اعتقدت بأن الشعب الأمريكي شعب مدلل، ربما بحكم روحي الفلسطينية الخشنة التي لم تعهد حياة سهلة مثل الحياة الأمريكية، الشعب هنا يتسوّق كثيرًا ويبتسم كثيرًا، ويأكل كثيرًا، وأخبار العالم بالنسبة له -بعيدًا عن التعميم- قد تكون شيئًا ثانويًا رغم أن نظامه السياسي هو الذي يصنع معظم هذه الأخبار.

الكثيرون يعرفون أنّ هذه اللعبة قذرة، ولكنهم يغفرون لها قذارتها بسبب شكلها الأنيق. السياسيات الأمريكية ليست سياسة نظيفة، ولكنها تُقدم ضمن شكل أنيق وصيغ ذكية وموزونة وهذا يجعل الأمور هادئة هنا وطبيعية معظم الوقت.

اقرأ/ي أيضًا: اختيار ترامب.. قلق عالمي خجول!

الناس لم تألف أن يخرج سياسي ليتحدث بوضوح عن أفكاره حول الهجرة والأقليات والأديان، ولكن ترامب فعلها ولم يواري أفكاره العنصرية بمفردات دبلوماسية، ولم يخف كراهيته، كان قذرًا جدًا وبشكل مباشر، عندها صُدم الجميع، ولكنه لم يكن رئيسًا بعد، وكان الأمر أشبه بنكتة، ولكن عندما حصل وفاز بالانتخابات ذُعر الأمريكيون من فكرة أن يكون مثل هذا الشخص هو الذي سيمثل الأمة الأمريكية لأربع سنوات ابتداءً من الآن. الأمة التي تقود العالم، ويحلم الملايين حول العالم يوميًا بالهجرة إليها، الحزن الأمريكي واضحٌ جدًا منذ فوز ترامب، لكن الحزن أمرُ مفيد أحيانًا، فهو طريق جيِّد للمعرفة.

إنّ الخوف الحقيقي ليس من القوانين التي سيُغيّرها ترامب؛ فاقتراح القوانين وقراءتها والموافقة عليها هي عملية معقدة وليست من صلاحيات الرئيس فقط، بل تمر عبر السلطات التشريعية التي يمثلها الكونغرس بمجلسيه: مجلس النواب ومجلس الشيوخ واللذين ينتمي أعضاؤهما إلى خلفيات حزبية متنوعة: الحزب الديمقراطي، الحزب الجمهوري والمستقلون.

الانتخابات لعبة من يبيعك الوهم بطريقة أفضل، وبالنسبة للفلسطينيين،فالتغييرات التي نحتاجها متعلقة بقاعدة الهرم الأمريكي وليس رأسه

التغيُّرات القانونية لا تحدث بين ليلة وضحاها، وأفكار ترامب عن أمريكا التي يريد أن يجعلها عظيمة من جديد لن تتحقق هكذا بمجرد انتقاله إلى البيت الأبيض. ولكن هناك ما هو مخيفٌ أكثر من ذلك، وهو ما حققه ترامب بمجرد صعوده على المنصة كمرشح انتخابي، لقد جعل ترامب الحديث العنصري أمرًا عاديًا، وأيقظ الكلمات البشعة وحرّضها لتكون نشيطة بين المواطنين. الكلمات والأفكار العنصرية التي قد يخبئها الكثيرون في عقولهم لأنه غير مرحب بها في العلن، باتت حديثًا عامًا! لقد أشعل ترامب الجو العام بالمشاعر السلبية اتجاه الأقليات، وارتفعت الثقة لدى أصحاب الفكر العنصري بأفكارهم التي باتت قانونية أكثر بمجرد أن تحدث بها مرشح انتخابي على شاشات التلفاز.

الخوف من تنامي الكراهية، الخوف من تكرار الجريمة بحق رزان، ضياء ويُسر هو ما يجعل فوز ترامب حدثًا مخيفًا حقًّا. أن يكون للأفكار العنصرية سوقاً كبيرة بين المواطنين الأمريكيين جعل الكثيرين من ذوي الأصول الأجنبية من عرب وآسيويين يرتعبون مما يحمله الغد لهم، فامتلأت مواقع التواصل الاجتماعي بالنكات التي تعبر عن هذا الخوف، أفارقة يدهنون أجسادهم بطلاء أبيض. مُسلمات يقترحن طرقًا جديدة لارتداء الحجاب دون أن يبدو حجاب. آسيويون يتساءلون عن إمكانية تغيير شكل عيونهم.

اقرأ/ي أيضًا: مشاهير هوليوود بعد فوز ترامب بين الصدمة والإحباط

في النهاية لا يملك الأجانب في هذه البلاد سوى أن يعكسوا صورة طيبة عن بلادهم وعن أنفسهم، تدحض أفكار ترامب ومناصريه، ولا تسمح لها بالانتشار أكثر، فإذا كان اسمك أو لباسك أو شكلك يوحي بأنك أجنبي فعليك أن تكون لطيفًا دائمًا بما يكفي، ليعود رجل أبيض إلى بيته ويخبر زوجته بينما هما يشاهدان نشرة الأخبار: "اليوم قابلت فتاة مسلمة رائعة، ليسوا كما تُظهرهم الأخبار" هذا هو الواقع المخيف الذي يجبرك على دفع التهمة عن نفسك دائمًا رغم أنّك بريء.

امتنعت عن الانتخاب لأني لا أريد أن أنتخب رئيسًا يتجاهل الحرب على غزة بعد عام من الأن ليُحدِّثني عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. لا أستطيع أن أرى نفسي جزءًا من عملية انتخابية كلّ هدفها هو الخروج بأفضل السيّئ. وكان أيضًا من الصعب عليّ الخروج من فلسطينيّتي والتركيز على البرامج الانتخابية للمرشحين فيما يتعلق بالسياسة الداخلية واختيار أي منهم.

بالنسبة للانتخابات فهي لعبة من يبيعك الوهم بطريقة أفضل، وبالنسبة للفلسطينيين فإن أيّ تغيرات مرجوّة من السياسات الأمريكية فهي لن تحدث بتغيّر الرئيس الأمريكي، لأن التغييرات التي نحتاجها كفلسطينيين متعلقة بقاعدة الهرم الأمريكي وليس رأسه.

على العموم، الشيء الوحيد الذي جعل يوم الأربعاء الماضي (9 تشرين ثاني/ نوفمبر) يمرُّ بشكل أفضل، هو طفلٌ يدندن وهو واقفٌ بانتظار حافلة المدرسة ويقول "أنا أكره ترامب.. أكره دونالد ترامب.. ترامب ترامب".

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عرس إسرائيلي: آن أوان تصعيد الاستيطان والتهويد

تسريب لكلينتون من 2006 عن فوز حماس واختطاف شاليط

دماء "الهنود الحمر" من أجل غسل ذنوب إسرائيل