09-سبتمبر-2019

بمجرد "انفجار" قصة موت إسراء غريب المأساوية، وتحوّلها إلى "ترند"؛ تهافتت شخصياتٌ مشهورة، من كل أنحاء العالم، للتنديد بقتلها والمطالبة بمحاسبة قتلتها. ولم يظل امرؤ له منصةٌ وسمع بالقصة دون أن يدلي بدلوه، حتى دون أن يعرف شيئًا. إنه تعاطفٌ أعمى على عنوانٍ عريضٍ اسمه "القتل على خلفية الشرف". ووصل الأمر بمدون عربي يعيش في دولة أوروبية للمطالبة بإعدام عائلتها كلها.

يحدث هذا، وما زال التحقيق جاريًا، وكل ما يعرفه المدون الشاب وغيره مجرد شائعاتٍ لا يُعرف أصحابها، ومعظمها ظهر كذبها.

لأول مرة، يتفق الرأي العام على موقف موحد: الغضب من موت إسراء، والمطالبة بالحقيقة

يعلو "ترند" التعاطي مع قضية إسراء ويهبط. والأمر منوط بأي معلومة، أو أي تسريب، أو حتى أي إشاعة.

ولأول مرة، يتفق الرأي العام على موقف موحد: الغضب من موت إسراء، والمطالبة بالحقيقة.

اقرأ/ي أيضًا: وزارة العدل: استقالات الأطباء الشرعيين لا صلة لها بقضية إسراء غريب

إلا أن هذا الموقف أخذ أشكالاً متعددة؛ فهناك من يطالب بإعدام من يراهم قتلتها، بعد أن يعدّدهم واحدًا واحدًا، وهو في بيته، وهناك من يطالب بإعدام هؤلاء، ومعهم طاقم المستشفى، وثمة آخرون يطالبون أيضًا بإعدام كل من ذكر اسمهم ولو كشهود، بل وكل شخص يطالب بالتروي في الحكم على مخرجات القضية.

وينطلق الناس هنا من أحاسيس ومشاعر بنوا عليها أحكامهم، مستندين إلى تسريب صوتي، وصورة، ومحادثات، وشهادات ركيكة متضاربة من ذوي الضحية؛ فيأخذون زمام المبادرة، ويحللون ويصدرون أحكامًا قاطعة، لا يقبلون التشكيك فيها.

والمشكلة أن الرأي العام لن يقبل إلا ما يرضي توقعاته، وهي مرتفعة، وجدًّا.

المشكلة أن الرأي العام لن يقبل إلا ما يرضي توقعاته، وهي مرتفعة، وجدًّا

لو افترضنا أن الحكم صدر بإدانة أحد أفراد العائلة وتحميله المسؤولية عن موت إسراء، فسيخرج كثيرون معترضين: أين البقية؟

ثمة جهلٌ بيّنٌ من أفراد الأسرة فيما يخص "تلبّس الجن"، فهل يعاقب القانون على الجهل، لو كان هو سبب كل ما جرى؟ هل من عقوبة على التعنيف النفسي؟

الرأي العام نزق، وإرضاؤه مستحيل. كل فرد يمتلك الحقيقة المطلقة. وهو ما يجعل التحقيقات مشيًا تحت مطر عاصف، لا يمكن أن تمر دون أن تبتلّ باتهامات بالتقصير والعجز ومحاولة غض الطرف عن بعض أطراف القضية.

أما التعاطف الجارف مع هذه القضية، فيمكن القول إنه لعبة السوشال ميديا، التي تُظهر وتخفي دون تبرير منطقي أحيانًا، يشبه مثلاً الإضاءة القوية على كل تحركات وهمسات عهد التميمي، دون غيرها من المحرَّرات، أو ربما احتاج الرأي العام إلى أيقونة يعلّقها ويتبعها للمطالبة بوقف قتل النساء. كما يمكن القول إن هناك أدرمة عالية اصطبغت بها القضية، فلسنا هنا نتحدث عن موت سريع. نحن نتحدث عن موت استمر أيامًا، مع آلام مبرحة وظروف صعبة مرت بها الضحية، في غفلة من الإعلام والأمن، والرأي العام طبعًا.

أحداثٌ كثيرةٌ يشهدها المجتمع الفلسطيني، لا تقل بشاعة عن حادثة إسراء، لكنها تمر مرورًا عاديًّا، بعد تفاعل محدود لا يلائم قسوتها. وقد يكون السبب أحيانًا الطرف المتهم؛ فكلما كان ذا نفوذ وحظوة، كان دكّ حصونه واستسهال الاستقواء عليه أصعب، والعكس صحيح.

كم من حدث كان أحد أطرافه مسؤولاً أو ابن مسؤول أو ذا قوة، ومرّ مرور الكرام؟!

كم من حدث كان أحد أطرافه مسؤولاً أو ابن مسؤول أو ذا قوة، ومرّ مرور الكرام؟!

مؤخرًا، قتل رجلٌ رجلاً. وقد كان القاتل قبل أيام اعتدى على رجل أمن، وانتهت القصة بفنجان قهوة، فلم يرعوِ، وقتل رجلاً آخر بمنتهى البساطة.

اقرأ/ي أيضًا: فلسطينيون: كيف نصدق كل هذه الثغرات في رواية قتل نيفين

ثمة إشكال آخر يلقي بذيوله على هذه القضية، وهو ما يجعل الرأي العام شرسًا ومتوثبًا في متابعتها؛ وهو جدارة المنظومة الفلسطينية في التعاطي مع مثل هذه الحوادث.

ليس بعيدًا، قتلت فتاة في ظروف صعبة، وخرج ناطقٌ أمنيٌ ليتحدث فيما صارت نكتة اسمها "ملقط الحواجب". وانتهت القصة بهدوء، لكن دون رضا أحد.

وليس بعيدًا، قُتل مواطن في حادث بسيارة مشطوبة، فصدرت الفرمانات بملاحقة أصحابها وإتلافها. لكن الأمر لم يستمرّ طويلاً، فعادت تملأ الشوارع، بانتظار موت مؤجل.

وليس بعيدًا، بل ويوميًّا، يطلق الرصاص في الأفراح والمسرّات والمهرجانات، الشخصية والوطنية، رغم عشرات القرارات بالملاحقة لوقف هذه الظاهرة. ولا أحد يُحاسب.

كثيرة هي اللحظات التي تبدو فيها يد الأمن قوية، وصوته حاسمًا، لكنه صوت مرحلي ويخفت بهدوء.

كثيرة هي اللحظات التي تبدو فيها يد الأمن قوية، وصوته حاسمًا، لكنه صوت مرحلي ويخفت بهدوء

هي لحظات غضب ونشوة، تزول مفاعيلها بعد أن يهدأ أصحابها، إلى أن تقع مصيبةٌ أخرى.

بهذا، تبدو يقظة الرأي العام مهمة، باعتباره رقيبًا على أداء التحقيقات وسيرها وتحقق العدالة.

نحن أمام مشهدين يشكلان الصورة: رأيٌ عام منفعل وسقف توقعاته عالٍ، ومنظومةٌ معنيةٌ باستعادة ثقة جمهور له مآزق كبيرة مع تاريخها. وثمة منطقة يجب أن يلتقي فيها الطرفان.

والصورة النهائية: الموت مفجع، إن كان على سرير المرض، أو في معركة، أو غدرًا.


اقرأ/ي أيضًا: 

كيف تدحرجت قضية المهندسة نيفين وصولاً لقتلها؟

قانون قديم.. نعش جديد

هيئات الدولة أم الفيسبوك؟