19-مايو-2018

صورة أرشيفية: مصنع البسكويت الخاص برجل الأعمال التلباني بعد قصفه - (gettyimages)

"وهل بقي عمل أو رجال أعمال في غزة حتى أستمر؟". بهذه الكلمات الاستنكارية استهلّ رجل الأعمال الفلسطيني محمد التلباني حديثه مجيبًا على سؤال حول سبب نقله لمصانعه من غزة إلى مدينة الخليل في الضفة الغربية. فبعد الخسائر الفادحة التي تعرّض لها إثر قصف مصانعه في الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عام 2014، وبلغت 18 مليون دولار دون تلقيه أي تعويض، بل إنه عانى من الضرائب المضاعفة التي تفرضها الحكومة الفلسطينية وحماس؛ لم يجد بُدًا من الرحيل بما تبقى.

يكمل التلباني حديثه لـ الترا فلسطين: "اسألوا ليش اللي بيروح ما بيرجع"، في إشارة إلى رحيل عدد كبير من رجال الأعمال عن غزة، موضحًا إن البنية التحتية باتت مدمرة بالكامل، وأنهم وقعوا بين "تروس تطحن بعضها"، حماس، والسلطة الفلسطينية، والاحتلال الإسرائيلي، ومعبر رفح المغلق جنوبًا.

الحصار والضرائب والحروب، ثالوث تدمير عانى منه رجال الأعمال في غزة وجعلهم غير قادرين على المواصلة فهاجروا تباعًا

ويتعرّض قطاع غزة منذ 12 سنة لحصار شامل خانق، أثّر بشكل كبير على نشاط رجال الأعمال الذين كانوا يشغّلون نحو 47% من الأيدي العاملة في قطاع غزة، إضافة إلى ثلاثة حروب شنها الاحتلال الإسرائيلي (2009-2012-2014) دمّر خلالها آلاف المنشآت الصناعية، زد على ذلك الضرائب المزدوجة التي تفرضها السلطة الفلسطينية وحماس على عملهم.

اقرأ/ي أيضًا: "المحل للإيجار".. الإعلان الأشهر في غزة

إذن؛ الحصار والضرائب والحروب، ثالوث تدمير عانى منه رجال الأعمال الغزيين؛ وجعلهم غير قادرين على المواصلة فهاجروا تباعًا، وهو ما أفقد سوق العمل الفلسطينية أحد أهم مصادر التشغيل، وفرّغ قطاع غزة من رأس مال يمكن أن يساعد في نهوضه حال تم فك الحصار.

يشبّه التلباني حال الغزيين بـ"المسجونين" الذين يتوجّب عليهم جلب طعامهم معهم، فأزمات رجال الأعمال باتوا غير قادرين على التعايش معها، مشيرًا إلى انقطاع التيار الكهربائي غالبية الوقت (4 ساعات وصل مقابل 16 ساعة قطع) ما جعله يتكبّد شهريًا مبلغ 125 ألف شيكل للسولار فقط.

ويُكمل، "أضف إلى ذلك الضرائب المزدوجة التي ندفعها للسلطة الفلسطينية ولحماس في غزة، وكذلك تكاليف النقل على المعبر البالغة 1250 شيكل، منها 700 شيكل للسلطة الفلسطينية، و550 شيكل لجهة النقل على المعبر، وهذه تكلفة غير موجودة في الضفة الغربية، فالأصل أن لا يكلف النقل أكثر 1- 1.5%".

كان التلباني يدير أحد أكبر مصانع إنتاج البسكويت والمواد الغذائية، ويشغّل نحو 380 عاملة وعامل، وهو أحد أهم رجال الأعمال في القطاع، لكنه لم يعد يجد العمل هنا مجديًا كما غيره الكثير ممن نقلوا مصانعهم إلى مصر والأردن والضفة الغربية.

ويبدي الرجل أسفه للوضع الذي وصلت إليه غزة، فهو لم يسرّح عماله بعد، وإنما هم فضلوا البقاء، إذ من الممكن أن يعملوا بواقع خمسة أيام في الشهر. ومن وجهة نظرهم هذا أفضل من المغادرة، في ظل شبه انعدام فرص العمل في القطاع الذي تجاوزت نسبة الفقر فيه 62%، بينما تجاوزت نسبة البطالة 49%.

رئيس جمعية رجال الأعمال علي الحايك، يدرك صعوبة الوضع الذي وصلت غزة إليه، ويعلم أن عددًا كبيرًا من رجال الأعمال رحلوا رغم عدم وجود إحصائية رسمية بمن رحل، وهو يؤكد أن البقية سيلحقون بهم، في ظل عدم وجود خطوات حكومية لإنقاذ الواقع الاقتصادي المنهار في قطاع غزة.

يقول الحايك لـ الترا فلسطين، إن القطاع الخاص يعيش أسوأ مراحله، ويعاني انهيارًا كاملاً في المنظومة الاقتصادية، مضيفًا أن رجال الأعمال يعانون إرجاع الشيكات وأصبحوا ملاحقين بالمديونيات وبعضهم زجوا في السجون، وكل هذا ينعكس على الهدوء في القطاع.

رجال الأعمال في غزة يعانون إرجاع الشيكات وأصبحوا ملاحقين بالمديونيات وبعضهم زجوا في السجون

وتلقى القطاع الخاص ضربات مركّزة نالت من صموده، بعضها بسبب الاحتلال والآخر بسبب الانقسام، فيؤكد الحايك أن القطاع الخاص يعاني منذ عام 2000، ففي الحرب الأخيرة وحدها دمر الاحتلال 900 منشأة صناعية، ناهيك عن مئات المنشآت في الحروب السابقة، دون أي تعويضات، فيما يحرمهم الحصار من الاستيراد والتصدير، وهذه عوامل أدت لانهياره.

اقرأ/ي أيضًا: تجار وموظفون "رايحين جايين" على سجون قطاع غزة

وحسب الحايك، فإن وقف رواتب موظفي القطاع العام حرمت السوق المحلي من دوران عجلة الاقتصاد، كما أن الحكومة لم تقدم أي تسهيلات تمكّن القطاع الخاص من الاستمرار، "ولذلك انهارت المنظومة الاقتصادية، والقوة التشغيلية لم تعد تتعدى 5%، وأصبحنا مجرد سوق استهلاكي لا ينتج شيئًا تقريبًا" وفق قوله.

قبل الانقسام، كان القطاع الخاص يشكل نحو 70% من مكونات العملية الاقتصادية في غزة، وفق رئيس تحرير صحيفة الاقتصادية محمد أبو جياب، الذي أكد أن القطاع الخاص هو أكبر المشغلين على مستوى فلسطين، والارتكاز الذي تستند إليه الحكومات في إيراداتها وأعمالها الاقتصادية، ورفد الموازنة العامة وخزينة السلطة الفلسطينية بالمال.

لكن القطاع الخاص - وفق أبو جياب - تعرض لضربات قوية أدت إلى التدمير والتهجير، فرجال الأعمال "تعرضوا للتعذيب" من خلال سلسلة من الإجراءات الأمنية والإجرائية المعقدة التي فرضتها إسرائيل، بالمنع من استيراد المواد الخام، والاعتقالات، والمنع من السفر، تلاها تدميرٌ ممنهج للمصانع كانت ذروتها عام 2014.

وأوضح لـ الترا فلسطين أن التدمير طال نحو 80% من المصانع التي كانت تشغل نحو 100 ألف عامل في الوضع الطبيعي، وهذا ترافق مع إجراءات حكومية ذات علاقة بالضرائب والرسوم والجمارك، وما أطلق عليه التجار "أتاوات"، وهي معادلة حربية ضد القطاع الخاص جعلتهم أمام خيارين؛ إما عمل منفتح بالكامل، أو هجرة بالكامل.

الاحتلال الإسرائيلي دمّر 80% من المصانع التي كانت تشغل 100 ألف عامل في الوضع الطبيعي في غزة

وأضاف أبو جياب، "لدينا تجارب مريرة لهجرة مباشرة لرجال الأعمال نقلوا مصانعهم خارج قطاع غزة، مثل مجموعة مصانع العودة التي انتقلت إلى الضفة الغربية، ومجموعة شركات بريكة التي انتقلت إلى مصر، وهؤلاء كانوا يصدرون إنتاجهم، والآن بات رأس المال الفلسطيني يخرج من غزة".

إذن هي معادلة حرمت السوق المحلي من العمالة فزادت نسبة البطالة، وحرمت الدورة الاقتصادية الداخلية من هذا المال، وتحولت فرص العمل إلى الخارج، وأُفرغت غزة من الصناعات التي كانت تشكل حراكًا اقتصاديًا للتشغيل، بعد أن غابت الحكومات على مدار 11 عامًا.

ووفق أبو جياب، فإن الحركة الاقتصادية في غزة كانت تستند إلى الصناعة، ولكن بعد توقفها توجه أصحابها إلى التجارة وانتقل الاستثمار للخارج، فبات ترحيل هذا المال لا يدور داخل الاقتصاد المحلي، "فنحن نتحدث عن بنية تحتية بما فيها من خدمات ومال وعمال وصناعة وإحلال واردات ومنع خروج المال، وهذه تم تدميرها في الخطوة الأولى".

أما الخطوة الثانية، فهي أن رجال الأعمال أيضًا عندما اكتشفوا أن التجارة غير مجدية ومعرّضة للضرائب والجمارك وغيرها من الإجراءات الحكومية التي مورست من الطرفين، توجهوا كليًا خارج قطاع غزة.

النتيجة الواضحة - كما يؤكد أبو جياب - هي تدميرٌ كليٌ لهذه القطاعات، فحتى إذا تم رفع الحصار الإسرائيلي عن قطاع غزة وسُمح بدخول المواد الخام، سنحتاج ما لا يقل عن 10 سنوات من أجل عودة الحد الأدنى من اقتصاد غزة، "هذا في حال عاد من هاجروا برؤوس أموالهم وخرج من تم الزج بهم في السجون بسبب التزاماتهم المالية، وأنتجنا طبقة تجارية وصناعية جديدة، وهذا يحتاج سنوات طويلة" كما يقول.


اقرأ/ي أيضًا

الذهب في غزة في عصره الحجري

من يأتي المحاصرون في غزة بمصاريفهم؟ 

تقليصات "الأونروا".. القادم أعظم