12-يناير-2019

راجت مؤخرًا عدة مقاطع فيديو للطباخ التركي بوراك؛ الذي يُقدم أطباقه في مطعم المدينة في اسطنبول بطريقة مُثيرة لشهية الأكل، ومُستفزة لحواس الجوع. ورأينا تدافع الإعلاميين والسياسيين لهذا المطعم ليكون لهم نصيبٌ من أكل هذا الطباخ الذي ارتفعت شهرته بلذة أطباقه، ومثالية الترويج لها، ثم رأينا الهوس الجديد بعمل برامج وبث فيديوهات قصيرة لتجارب الأكل والتذوق في العالم العربي.

من المُسلَّم به أن الثناء على ألذ الأطباق ومتابعة أعرق المطاعم والإعجاب بأمهر الطُهاة ليست حالة غريبة، ولا تأتي بعيدًا عن الطبيعة الإنسانية، فالانجذاب إلى لذيذ الطعام هو خصلة إنسانية سليمة، وهو ما يميز الجوهر الإنساني بحسب كلام مؤرخ الطعام مايكل سيمونز؛ الذي اعتبر الطهاة سببًا في إنسانيتنا، أي أنهم جعلوا لحياتنا فارقًا عن تلك الحيوانات التي لا تأكل إلا الطعام النيىء، وهو ما اتفق معه عليه المؤرخ فيليب فيرنانديز في كتابه "تاريخ الطعام" الصادر سنة 2001.

الإنسان منجذبٌ إلى لذيذ الطعام، وأكثر ما يكون انجذابه للطعام الذي يتربى على مذاقه منذ الصغر

الإنسان منجذبٌ إلى لذيذ الطعام، وأكثر ما يكون انجذابه للطعام الذي يتربى على مذاقه منذ الصغر، ولذا يشده الحنين إليه، ولا يكاد ينسى طعمه ورائحته، أو لم يقل شاعرنا الكبير: أحن إلى خبز أمي وقهوة أمي؟

اقرأ/ي أيضًا: "لحم الفقراء" في تراث فلسطين

 وذهبت بعض الدراسات للقول إن نوعية طعام الأم الحامل يُوثر في تشكل شهية الطفل بعد الولادة، ولذا فإن مذاق طعام "المطبخ الأم" أو طبيخ البيت والبيئة التي نشأ فيها المرء هو المعيار الأول الذي من خلاله يُميز بين لذيذ الأطباق، وحول ذلك أزعم أن مذاق الزيت والزعتر، ونكهة طُنجرة المقلوبة حاضرة في جينات كُل فلسطيني، وحتمًا سنجد رواسبها في حمضنا النووي.

 ومذاق "المطبخ الأم" هو معيارٌ سليمٌ لقياس علاقتنا مع الأطباق، خصوصًا إذا علمنا أنه معيارٌ ينمو ويتطور من خلال التجربة والتعرف على التنوع المطبخي في المحيط. ومن هنا يبدأ الانسان بالتفاعل مع المذاقات والأنواع الجديدة التي تجد سبيلاً لتقبلها من خلال مظهرها أولاً، فـ"العين تأكل قبل الفم أحيانًا"، ثم من خلال مذاقها وطعمها ورائحتها ولونها واستحسان الذوق لها، والإنسان كما هو معلومٌ يعتمد في بناء علاقته مع الأكل على ثلاث حواس: البصر والشم والتذوق.

إن مسألة إنسانيتنا المرتبطة بحس التذوق تدفعنا إلى الاهتمام بتاريخ وقصص وأنواع وأصول الطعام الذي نأكله، فالإنسان ما يأكل، أو بصيغة أخرى: قل لي ماذا تأكل أقل لك من أنت.

اهتمامٌ ليس وليد اللحظة ولا سببه الترويج الجيد للأطباق عبر السوشال ميديا، ولا موجة الهوس ببرامج الأكل، ذلك أننا إذا عمقنا النظر في الأطباق ومذاقها نُطالع من خلالها تاريخًا ومؤرخين للطعام عبر كل الحضارات، ولا تزال كتاباتهم ووصفاتهم تلهم الطباخين والذواقة ومدارس الأكل عالميًا. فالأمر إنساني وقديم ومرتبط بفكرة الطهي على النار منذ فجر الحضارة، ولأجل ذلك لا عجب أن يصف تشارلز داروين اكتشاف النار بأنه أعظم اكتشاف بشري بعد اللغة.

 ومن خلال تتبع الطبخ والطبيخ يُمكننا قراءة الحياة الاجتماعية في المجتمعات الإنسانية، ومعرفة مراحل التطور الإنساني عمومًا، والتطور المطبخي خصوصًا، وتنوع الأذواق والأطباق، وعلاقة ذلك بالحياة اليومية ومهن الناس والأنظمة السياسية الحاكمة، وعلو شأن الذواقة من عدمة، وكذا انهزام المجتمعات أمام الغزو المطبخي.

وفي ظل الهوس الحالي في موضوع الطعام، لا يخفى علينا طبيعة الحروب الناعمة التي تدور بين المناطق الجغرافية المتقاربة حول أصول بعض الأطباق وتاريخها القديم، وكيف تحاول كل دولة أن تؤسس لمطبخها القومي المُتكامل الذي يقوم على جذورٍ مطبخيةٍ عريقةٍ تنسف روايات خصومها ومنافسيها في بعض الأطباق، وخصوصًا بعد تشكل الدول ذات القوميات الحديثة، ومثال ذلك "البقلاوة" التي تدور رحى حرب حقيقة حول أصل منشئها والبيئة التي تنتمي لها، حيث يحشد مؤرخو الطبيخ في تركيا واليونان أدلتهم وتاريخهم لنسبتها لهم، فيما تقف البقلاوة الدمشقية مُتفرجة على هذا الصراع.

نحن آخر من يدخل معركة الطعام والطبخ في الوقت الحالي، حتى أننا نترك للهواة أو الطُهاة أن يكتبوا تاريخ مطابخنا بدوافع تجارية أو تسويقية

 عربيًا، نحن آخر من يدخل معركة الطعام والطبخ في الوقت الحالي، حتى أننا نترك للهواة أو الطُهاة أن يكتبوا تاريخ مطابخنا بدوافع تجارية أو تسويقيةٍ تنزع الأطباق من سياقها أحيانًا، وننجر بسهولة للترويج للمطابخ المجاورة كالمطبخ التركي أو المطابخ الأوروبية، وكثيرًا ما وقعنا في فخ الذواقة الذين يروجون للأكل من خلال برامج تهتم بالأكل بدرجة أولى، من غير إدراكٍ منهم لحدود التأثر والتأثير المطبخي القديم الجيد مع الجوار، وعمق الأصول لكثيرٍ من الأطباق، وتداخل عوامل كثيرةٍ في تشكلها ومكوناتها، يصعب معه فصلها وتحديد موطنها الأصلي بدقة.

اقرأ/ي أيضًا: نكهات عربية فواحة داخل "حصون" غزة

 ظهر تجلي العجز العربي في معركة الطعام والطبخ أمام السطوة الصهيونية على الأطباق العربية في فلسطين وسرقتها ومحاولة تسجيلها على لائحة التراث اللامادي كأطباق إسرائيلية، ومنها الحمص والفلافل على سبيل المثال، وفي ذلك تكتمل فصول هزائمنا وضياعنا بالكامل.

فلسطينيًا وأمام حالة الهوس بالطعام، ومحاولة خلق مطابخ قومية تسطو أحيانًا على ثقافتنا المُشتركة في المطبخ الإقليمي، أو تسلب أطباقنا وتنزعها من هويتها لصالح مشروع استعماري، أعتقد بأنه من الأهمية لنا أن نُعيد بناء علاقتنا مع الطعام، وأن نحاول بشكلٍ جديٍ أن نُكَوّن مناعة تمنع استمرار اختراق المطابخ العالمية لوجباتنا الرئيسة في البيوت على أقل تقدير، وأن نبذل جهدًا جديًا في توثيق وتتبع ثقافة الطبخ والطعام، لا لنجعل تلك الثقافة مُتحَفية، وإنما لبث الحياة في الأطباق التي أهملناها وأوشكت على التحول إلى طبق متحفي لا حضور له في مطبخنا المعاصر.

مُهمة مُلحة تستوجب أن يتولاها أهل الاختصاص لا الهُواة والطباخين فحسب، وأن يكون هناك حضور لفلسفة الطعام وأذواقه في المدارس والمؤسسات التعليمية، كي نُدعَم الذاكرة وَنُحَصنُها من الانهزام المرتبط بالطعام وثقافة الأكل عمومًا.

ولكم أن تتخيلوا حجم الذوبان والتآكل في ثقافتنا المطبخية حين تدخلوا لأي مطعمٍ في رام الله مثلاً، وتطالعوا "المنيو"، فلا تجدوا اسم طبقٍ عربيٍ يُقدم في هذه المطاعم، ولا حتى السلطات أو الشوربات التقليدية. لن تجدوا بأي مطعمٍ من هذه المطاعم أطباق الخبيزة والقمحية والفول باللبن والسماقية واللوف ولا حتى المفتول والعكوب، وهذه ظاهرة ليست طبيعية ولا تأتي في سياق التطور والانفتاح العالمي، بل هي وجه من وجوه الهزيمة وفقدان الهوية الثقافية التي ينبغي أن نحافظ عليها.

أي إهانة أكبر من أن نُعلن عن توفر طبق "منسف كنتاكي" أو ساندويش منسف" في الأسواق المحلية

وإذا كان العالم اليوم يتطور وتتطور معه وجبات الطعام التي يتناولها الإنسان، وتتغير أيضًا الأدوار داخل الأسرة نحو من تقع عليه مسؤولية إعداد الطعام، فإن هذا التطور مُرحب به على أن يكون مبنيًا على ثقافتنا المطبخية، لا على ما تغزونا به المطابخ الأمريكية والعالمية التي هيمنت على أذواقنا، نازعة حصة مطبخنا التقليدي من أطباقنا اليومية ونافية له بالكامل، مُلقية إيانا على موائد المطاعم التي لا هوية لها ولا ثقافة في أطباقها وكُل همّ أصحابها الربح، والربح فقط، وأي إهانة أكبر من أن نُعلن عن توفر طبق "منسف كنتاكي" أو "ساندويش منسف" في الأسواق المحلية!

هذا الأمر يجعلنا نُعيد الاهتمام من جديدٍ بمكونات المطبخ الشعبي التي كان يقوم عليها، فندرك مكوناته الأساسية والأنواع الأصيلة التي ينبغي ألا تُغادر مطبخ كل بيت ومطعم، وعلاقة المطبخ بشخصياتنا وهوياتنا ومواسمنا الزراعية وخيرات الأرض، ولن تكتمل استعداداتنا إلا أن تكون ركائز مطبخنا الشعبي مما نزرعه وننتجه لا مما نستورده ونأتي به من الخارج، وذلك كي نضمن بالحد الأدنى حصانة مطبخنا من الذوبان والاختراق والانهزام في هذه المعركة، وحسبنا قول أجدادنا "إذا عندي قمح وزيت صَحجت وغنيت"، وحُقّ لهم القول بذلك فهذه الثُنائية "القمح والزيت"، فهُي ركيزة مطبخنا الشعبي وقوام غذائنا.

إذًا هي معركة جدّية علينا أن نخوضها، وأن نُقارع بها حتى النهاية، وأن يعلو صوت قرعنا على طناجرنا ونحن نُحصّن ثقافتنا المطبخية، ثقافة لمطبخ عريق وغني وفيه تنوع وتكامل مثير، وهو متداخل مع قصصنا وأمثالنا ومعتقداتنا وتفاصيل حياتنا ومواسمنا الزراعية. وعلينا أن لا نهرم في هذه المعركة وأن لا نولّي ظهورنا للخصوم، فهي معركة لا تقل أهمية عن معاركنا الأخرى، وكما أننا جيدون جدًا في التهام الطعام، أو كثيرٍ من الطعام، فإنه يجدر بنا أن نكون أكفاء لنصون تاريخ مطبخنا ونمضي به وبثقافته وفلسفتة ونمنع اندثاره، وإنما هي شرارة صغيرة يتبعها لهبٌ عظيم.


اقرأ/ي أيضًا:

هذا ما تبقى من أكلات فصل الشتاء

المفتول: طبخة النَّبي سليمان!

المعلاق.. وجبة الخليل السحرية كل صباح