07-مارس-2020

يُحكى أن عنزة من غنم قرية بيتا دخلت منطقة العُرْمَة في غفلة من الرعاة عنها، فقام رُعاة الأغنام من قرية عقربا بأخذها معهم عُقوبة للراعي، وذلك ضمن قانون الرعي المعروف في حينه بـ"شاة المرعى".

حكايات تُروى في بيتا ومحيطها عن جبل العرمة، توثق علاقة أهل المنطقة بالجبل الذي يُعتبر أحد أبرز النقاط الساخنة حاليًا في الصراع مع الاستيطان

وصدف أن كانت هذه العنزة لعجوز من قرية بيتا يُسرّحها مع الرعاة وليس له غيرها، فلما علم بضياع شاته هَبّ مُسرعًا إلى الشيخ صالح خريوش، مختار بيتا، شاكيًا ما حل به من مُصيبة ورافضًا أيَّ تعويضٍ عنها، فارتجل الشيخ صالح قصيدة طويلة بعث بها مع شاب من بلدته إلى مختار عقربا الشيخ فايز المالك، يصف فيها العنزة بشيء من الطرافة ومما قاله يومها:

يا راكـب بنت لعبية .. على عـقـربـا درجهـا

تلفي على ابن مالك .. دلال القهـوة منـصبها

قله العنزة الحوى .. شرعوبة صاحبها بيندبها

اسـمعنا يا ابن مالك .. تحـت التوتـه مقصـبها

شـــــاة المرعى  .. ما بنحط لو بيتا بنخربهـا

والملتقى عين عوليم ..  هات ارجالك جربها

فلما وصلت القصيدة للشيخ فايز المالك رحمه الله، أمر بردّ الشاة للعجوز، ومعها شاة من غنمه هدية فوقها.

هذه الحكاية غيضٌ من فيض حكايات تُروى في بيتا ومحيطها عن جبل العرمة، توثق علاقة أهل المنطقة بالجبل الذي يُعتبر أحد أبرز النقاط الساخنة حاليًا في الصراع مع الاستيطان بالضفة الغربية، حيث يسعى مستوطنون إلى فرض السيطرة التامة عليه ومصادرة أراضيه، ما دفع أهل بيتا إلى شق طريق نحو الجبل، وبدأوا بمدّ خطوط كهرباء له، ورفعوا علم فلسطين على قمته.

 جبل البحبثون (المفتول)

جبل العرمة، جبل مُعرم ومرتفع في قمته كأنه كومة قمح عالية، ومنظره المُرتفع والمُعرّم بهذا الشكل أخرج مقولة من لسان رجلٍ من بلدة بيتا صدف أن مرّ بالجبل وهو جائع، فنظر إليه قائلاً: "قطعك يا هالعُرمة كيف إنك عارم، تمنيتك كُور مفتول وحجارتك دراديس لحم، وأبلش فيك من تحت".

فطارت مقولة الرجل الجائع من لسانه لتقع في الآذان التي لا تزال تُرددها حتى اليوم، واصفة جبل العرمة بأنه جبل البحبثون أو المفتول.

يوصف جبل العرمة بأنه جبل البحبثون أو المفتول، نسبة لمقولة رجل جائع عن الجبل المرتفع كأنه كومة قمح عالية

 الخَبطَة

إلى الغرب الشمالي من بلدة عقربا توجد صخرة صماء تميل للحمرة، وموقعها إلى يمين الطريق المؤدي إلى (كرامة - العرمة)، وعلى هذه الصخرة توجد خبطة قدم محفورة بوضوح، وكانت هذه الخبطة مقصدًا للبركات والنذور ومُمارسة بعض طقوس التدين الشعبي.

اقرأ/ي أيضًا: صور | خربة العرمة: فصلٌ من التاريخ

وينسب الأهالي هذه الخبطة إلى النبي إبراهيم، ولذلك تُسمى "خبطة إبراهيم"، إذ يعتقدون بأنها موطئ قدمه حين جلس هناك، وتزعم الروايات الشفوية بأنه حين مر من تلك الطريق أقام في جبل العُرمة، ولذا فإن الجبل حاليًا مُدرج كإحدى محطات مسار المشي الأطول في فلسطين، والمعروف باسم مسار إبراهيم.

وتزعم الروايات الشفوية بأن فاطمة بنت الحسين بن علي لما مرت من الشام إلى مصر أقامت هناك، وجلست بالقرب من هذه الخبطة وتلمست بها البركة، ولذا ينسبها البعض لها "خبطة فاطمة"، وهي مرتبطة عند الناس إلى وقت قريب بجبل العرمة الذي استراح فيه أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام.

أشجع رجل مات خوفًا

تقول الحكاية الشعبية إنه في إحدى ليالي كانون المُعتمة، وبينما كان رجال القرية جالسين في مضافة عقربا الكبيرة، قال أحد الحاضرين مُتحديًا عموم الرجال بأن يأخذ أحدهم وتدًا من حديد ويمضي به نحو جبل العُرمة ليدقه داخل الصهريج، ثم يعود سالمًا قبل طلوع الفجر.

نأى الرجال بأنفسهم عن هذا التحدي، لمعرفتهم المُسبقة بقصص الجن الذين يسكنون هذه الصهاريج من عهد النبي سليمان، حسب الاعتقاد الشعبي. وأمام إلحاح الرجل وزيادته في الرهان نهض أشجع شباب القرية، وحمل الوتد بيده وانطلق بلا تردد نحو جبل العُرمة في أقصى شمال غرب القرية.

ولما وصل صاحبنا للجبل دخل على حذر وهو يُبسمل ويذكر الله، ويستأذن سكان الأرض "دستور لخاطرهم"، ثم جلس على الأرض في عمق الصهريج، وتناول بيده اليُمنى حجرًا وراح يدق به الوتد بحذر شديد، وهو يتلفت يمنة ويسرة والخوف يتسلل إلى قلبه.

يُعتقد أن الجن يسكن في جبل العرمة من عهد النبي سليمان، وقد تسبب ذلك بوفاة رجل معروف بشجاعته خوفًا

كان "الشاب الشجاع" مع كُل طرقه ينتبه حوله وينظر إلى باب الصهريج ليتأكد بأن كل شيء على ما يُرام. ولما انتهى من تثبيت الوتد بالأرض أراد النهوض مُسرعًا ليفر عائدًا إلى القرية ويكسب الرهان. غير أن شيئًا جذبه بشدة نحو الأرض فوقع مغشيًا عليه، وكأن سكتة أصابته من الخوف فتوفي على أثرها.

اقرأ/ي أيضًا: مغارة النعسان: قبائل الجان تحمي كنزًا أثريًا

ولما رأى الرجال في المضافة أن الشمس قد أوشكت على الطلوع والرجل لم يعد من مهمته، انطلقوا في إثره ليتفقدوه، فلما دخلوا الصهريج ووجدوه ملقى على الأرض، تبين لهم بأنه دق في عتمة الليل الوتد على طرف ثوبه (الكُمباز)، فلما نهض شدّه الوتد وجذبه، فوقع مغشيًا عليه. ويومها قيل: "أشجع رجل في البلد مات خوفًا".

سعادين جبل العُرمة

 طارت مقولة الرجل الشجاع الذي مات خوفًا في صهاريج العرمة لتحل في عدة قرى، وصدف ذات مرة بأن جرى الحديث عنها وكان من جملة الحضور رجلٌ كثير الاعتزاز بنفسه، فلما سمع القصة سخر منها وأبدى عجبه، إذ كيف يُصدق الناس هذه الحكاية ويتداولونها في كذا بلد ولا أحد منهم شهدها؟!

إثر ذلك، تحداه أحدهم بأن يذهب من ساعته إلى جبل العرمة ويدق وتدًا في الصهاريج، ثم يعود إليهم فيبطل بفعله خرافة الرجل الشجاع الذي مات خوفًا. وهكذا، نهض الرجل بلا تردد وانطلق نحو جبل العرمة، وكان يعرفه جيدًا ويعرف ما فيه بالضبط.

يقول الرواة، إن صاحبنا لما دخل الصهاريج في عتمة الليل شعر بالرهبة وخصوصًا لما سمع صوتًا وحركة بجانبه، ولما هم بدق الوتد وتثبيته في الأرض وثب على ظهره شيءٌ صغيره كثير الحركة، فطوى الرجل عباته على ظهره آسرًا ما بها ومنطلقًا كالسهم إلى مضافة القرية.

دخل الرجل المضافة لاهثًا وعلى ظهره شيءٌ يتقافز كأنه "جني مأسور"، فنهض الرجال عن فراشهم فزعين صارخين "بسم الله الرحمن الرحيم" وكاد الموت يقتلهم رُعبًا وخوفًا. وهنا فتح الرجل عباءته وأخرج ما بها، فإذا هو سعدان بري من السعادين التي كانت تعيش في منطقة جبل العرمة، فلما رأوه هدأت نفوسهم وعلت ضحكاتهم حتى الصباح.

اهْرُبِّة الزير

الاهْرُبّة نوعٌ من الآبار أو صهاريج الماء التي يكون فيها حلق البئر واسعًا، وهي غالبًا ليست عميقة وماؤها يجف أول الصيف. أما الزير فهو نوعٌ من جرار الفخار التي تستخدم لنقل الماء.

وهذه الاهْرُبّة تقع شرق شمال جبل العرمة في الشِّعب المُسمى شِعب الوَرد، وهو امتدادٌ لقدم الجبل. وقد نالت شهرة مُهمة خلال الـ100 سنة الماضية بين أهالي قُرى: عقربا - بيتا- يانون- عورتا، بسبب حكاية أسطورية نُسجت عن مغارة كبيرة كانت بجانبها، وأُخفيت معالمها في الحرب العالمية الأولى من قبل الأتراك.

تزعم روايات شفوية أن في جبل العرمة مغارة تحتوي على ذهب وكنوز كبيرة

تزعم الروايات الشفوية بأن هذه المغارة المُخفاة عن الأنظار كانت واسعة بحيث يستطيع 20 خيالًا دخولها والمبيت بداخلها مع خيولهم وأمتعتهم، لكن الأتراك لما اشتد الأمر عليهم في الحرب العالمية وكادوا يخسرون أراوحهم في المنطقة فروا من نابلس عبر الدرب السلطاني (نابلس - عقربا- فصايل)، ثم عندما مرّوا بهذه المغارة وضعوا فيها كل أحمالهم وأمتعتهم وما معهم من مال وذهب، وقتلوا عددًا من الخيول وألقوا بها على باب المغارة لإغلاقها بشكل كامل، ثم ردموا فوق بابها التراب والحجارة وغيروا من معالم المنطقة حولها، وجعلوا علامة لها عند اهْربّة الماء، وكانت العلامة رسمة "زير ماء".

غابت القصة واختفت المغارة حتى بداية الخمسينات من القرن الماضي، وما أعيد الحديث عنها إلا بفعل المغاربة الذين أتوا للبلاد بحثًا عن الدفائن والكنوز. وهكذا، صارت المخيلة الشعبية تَستعيد قصص المغارة وتُعيد نسجها من جديد مع تفاصيل جديدة.

ومن اللطيف في الأمر أن المهتمين في هذه المغارة نسبوا أصل الحكاية لكبار في السن من قرى غير قراهم، وهنا كان عليّ أن ألحق الحكاية باحثًا عن الرُّواة الأصليين للقصة، وقد نُسب لبعضهم أنه يمتنع عن تحديد مكانها رغم معرفته الدقيقة بموقعها، وذلك خوفًا من أن يقتتل الناس ويدفنوا بعضهم بسبب الذهب والمال المُكدس في الصناديق داخلها، غير أني تبيّنتُ في نهاية الأمر أن غالب ما قيل كان من نسج خيال الرواة، وبعضه إعادة خلق لحكايات قديمة جدًا وتوظيفها من جديد لخدمة ما يعتقده الناس ويؤمنوا به حول الذهب والكنوز.


اقرأ/ي أيضًا: 

عش الخفاش: خرافة اختلقها مشعوذ وصدقها طماع

شقائق النعمان: أسطورة الدم والحب