06-أكتوبر-2019

صورة توضيحية: جدارية في مدينة غزة - عدسة: نضال الوحيدي

في غزة فقط يحدث هذا. "الأشياء لا تحدث هنا، لاشيء يصير"، تصيح البنت الحلوة في العائلة، "على جثتي تسافرين" يهدد أب، "خايف تشلحي حجابك يما" تنهار أم. القوية  الناعمة، تصيح في كل شيء: "لا شيء يحدث  هنا، أريد بلادًا تحدث فيها الأشياء". تنتصر في النهاية إرادة القوية الناعمة، "خليها اتشوف وجه ربها يا راجل، هوَّ في حياة هون؟" يتدخل خالٌ علماني، يستسلم الأهل. تهاجر البنت فيحزن البيت وتمتنع عن الأكل الشقيقات، "خليها اتشوف وجه ربها يا راجل زي ما قال أخوي" تحاول الأم امتصاص الصدمة. رويدًا رويدًا، تخف المخاوف، ولكن أحيانًا تنفجر كقنبلة في وسط البيت: "مين الشباب اللي متصورة معهم يما؟"، "ليش في شعرات طالعات من منديلك يابا؟"، "ليش إلك أسبوع ما اتصلتِ يا أختي؟".

ثمة حربٌ تحدث في غزة لا ينتبه لها أحد، حربٌ طاحنةٌ صامتةٌ بشهداء غير مرئيين وأرواح مغتالة وتحطيم إرادات. مع الصاروخ المنقض من سماء الرب، على بيت العائلة، تسقط على رأس البنت يد ضخمة: "ادخلي جوا يا حيوانة والبسي على شعرك".

هي حرب البنات والشباب مع الجهل والفكر الغيبي، والخوف، مئات المقتولين - المقتولات في هذه الحرب غير المكترث بها ماتوا غمًا وتجمدًا وخنقًا، واستسلموا للخوف والجيران، وانخرطوا في اللعبة المريحة: "المكتوب والقدر". المئات انتصروا أو انتصرن، وانطلقوا وانطلقن، للمجهول الحر المخيف الحبيب الممتد. هو جيلٌ جديدٌ لم تعد رام الله بالنسبة له سوى حلم آباء وأشقاء كبار، يعيشون على ذكريات بريق الثمانينيات في شارع ركب والمصيون وجامعة بيرزيت، هو حلمٌ بائدٌ بسقفٍ منخفضٍ وضجيج غير كافٍ لملء الروح التواقة للطيران البعيد.

لا شيء يثير إعجابي أكثر من قوة هؤلاء البنات الصغيرات العنيدات، المؤمنات بحقهن في الحياة، الرافضات للموت تجمدًا أو فراغًا. لا شيء يشعرني بفلسطينيتي الجريحة الشجاعة أكثر من هؤلاء البنات مشعلات الحروب الضرورية الصغيرة في  بيوتهن، المتناثرات في تركيا ومصر وتونس والنرويج وقطر والسويد وألمانيا، وغيرها من منافي العالم.

في البدايات، حيث البرد واللاأحد والليل، تموت  جميلات غزة من نخز الغربة: "يا أمي، الشمس هناك قليلة، الطعام رديء، لا نوافذ في بيوت الجيران والناس يهزون الرؤوس ويبتسمون فقط". "طب أرجعي يما، ارجعي لبيتك وأهلك" تقول الأم باكية على  الماسنجر، "إلى ماذا أعود يا أمي؟ لا أحد يعود إلى اللاشيء" تُجيب البنت، فتسمع في الجوار أصوات عيونٍ تلمع في الظلام.

ما بعد البدايات، تنضج في الذهن الغزاوي الأنثوي الجميل فكرة سحر البلاد الأخرى، فكرة الإقامة في اللاجغرافيا المحتومة، أن نكون آخرين مع الاحتفاظ الحميمي بصورة الأم الرائعة والشقيق الأزعر الطيب والمغامرات الطفولية في حارات غزة، تتعاقب على "الواتساب" صورٌ كثيرةٌ "مع حرصٍ شديد على أن لا تظهر فيها شعرة واحدة من تحت المنديل"، وأخبار الجميلات المهاجرات إلى الأهل الذين ما زالوا قلقين: "شوفي يما هاي صاحبتي  النرويجية سانا"، "يما اتخرجت وراح أضل هون أكمل ماجستير"، "يابا اشتقتلك بس لازم أبقى  هون عشان أكمل دكتوراة".

في ليل القطارات المتأخر، في بلادٍ بعيدة، تجلس الجميلة الغزّية المهاجرة في حضن الحرية مع ركابٍ قليلين هنا وهناك، حرية أن لا تلفت أية حركةٍ منها انتباه أحد حولها، حرية أن لا يسألها أحد: "ليش متأخرة هيك؟"، حرية أن تبتسم لشابٍ أبدى إعجابه بيديها، حرية أن تتذكر أنها تحب غزة وتشتاق إلى مدرستها الابتدائية وصديقاها اللواتي انهزمن في معركة الحياة، نهى وميسون وفاطمة، وتتذكر بوضوح كم كانت تحب حصة الفن.


اقرأ/ي أيضًا: 

انكسار الجنوبي

لوحاتٌ من مدن النار والقش

حكاية مُقتحم الأعراس